محور فيلادلفيا.. محاولات إسرائيلية للعبث بالأمن القومي المصري
استطاعت المقاومة الفلسطينية أن تحطم المشروع التوسعي الصهيوني الذي يستهدف العديد من الدول العربية على صخرة صمودها الأسطوري، ما يجعل تلك الدول مدينة للمقاومة بالتصدي للمشروع، وهذا يتطلب دعماً حقيقياً.
في إثر الهزيمة الساحقة التي تعرضت لها آلة الحرب الصهيونية في قطاع غزة من جراء معركة طوفان الأقصى التي أدت إلى ارتباك واضح في إدارة الكيان الرافض قبول الهزيمة، وفي إطار البحث عن مشجب يعلق عليه هزيمته، لجأ إلى الحديث عن ضرورة السيطرة على الشريط الحدودي الضيق الذي يمتد بطول 14 كم على طول الحدود بين قطاع غزة ومصر، والمعروف بمحور صلاح الدين أو محور فيلادلفيا.
وتحدثت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن أهمية الشريط الواقع داخل قطاع غزة وضرورة احتلاله لضمان أمن الكيان الصهيوني، والحد من تهريب السلاح للمقاومة الفلسطينية من شبه جزيرة سيناء عبر الأنفاق التي يتم حفرها تحت السياج القائم على الشريط الحدودي بين قطاع غزة ومصر.
وصرّح بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني مؤخراً في حديث متلفز عن أن محور فيلادلفيا الذي يبلغ طوله 14 كيلومتراً يمثل ثغرة يجب سدها، وأشار إلى أهمية العودة إلى احتلاله، في تجاهل فجّ للاتفاقيات الموقعة مع الحكومة المصرية، والتي تقضي بإخلاء جانبي الحدود من أي وجود مسلح.
وفي إطار المساومات التي تقدم عليها سلطات الاحتلال، زعمت تقارير إعلامية إسرائيلية أن القاهرة وافقت على عودة سلطات الاحتلال الصهيوني لاحتلال محور صلاح الدين (فيلادلفيا)، في مقابل إشراك السلطة الفلسطينية في خطة اليوم التالي للعدوان على قطاع غزة، وهذا ما نفته المصادر المصرية بشكل قاطع، وأكدت أن مثل هذه الأكاذيب الإعلامية الإسرائيلية أصبحت عادة يومية تستهدف صرف الانتباه عن المواقف المصرية المعلنة بضرورة الوقف الفوري لهذا العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة.
وأعلن ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، رفض مصر القاطع لأي تغييرات أو انتهاكات للاتفاقيات المبرمة بين القاهرة و"تل أبيب" فيما يخص "محور فيلادلفيا"، إذ تحاول "إسرائيل" تغيير الواقع والحقيقة التي أصبحت شاهد عيان على فشل الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو في حماية أمن "إسرائيل" حتى بعد أحداث السابع من أكتوبر، وتحاول أيضاً تحسين صورتها أمام شعبها بالادعاءات والأكاذيب الباطلة وابتكار أفكار جديدة للهروب من المصير المؤلم التي أصبحت على وشك أن تقع فيه بعد الفشل الذريع في حربها على قطاع غزة.
وعادت مصادر رفيعة المستوى وأكدت أن مصر ترفض إعادة احتلال "إسرائيل" لقطاع غزة أو حتى تقليص مساحته، مع التأكيد أن الشعب الفلسطيني هو الوحيد المعني بتحديد شكل مستقبل القضية الفلسطينية والوضع في قطاع غزة.
وسبق أن نفت القاهرة ذلك مطلع يناير الجاري على لسان مصدر مسؤول قال أنْ لا صحة لوجود أي تعاون بين بلاده و"تل أبيب" في محور صلاح الدين "فيلادلفيا"، فيما أكد المتحدث باسم الخارجية المصرية أحمد أبو زيد، في تصريحات تلفزيونية، رداً على تصريحات نتنياهو، أن مصر تسيطر على حدودها بشكل كامل وتضبطها، وأن تلك المسائل "تخضع لاتفاقيات قانونية وأمنية بين الدول المعنية".
وفي إثر المواقف المصرية الرافضة لأي خطط إسرائيلية تهدف إلى احتلال محور فيلادلفيا، تراجع رئيس حكومة الحرب بنيامين نتنياهو عن تصريحاته، وصرح قائلاً: "لم نتخذ قراراً بعد بشأن السيطرة العسكرية على الشريط الحدودي بين مصر وقطاع غزة، والمعروف باسم محور فيلادلفيا".
اتفاقية فيلادلفيا
وكانت حكومة الاحتلال الصهيوني قد قامت بالاتفاق مع الحكومة المصرية على الترتيبات فيما يتعلق بنشر قوة من حرس الحدود المصري على الشريط الحدودي ضمن اتفاقية فيلادلفيا مع مصر، والتي تتضمن 83 بنداً، وتحدد التزامات الأطراف، وتحدد الآلات والأسلحة المسموح بها، إذ تسمح الاتفاقية لمصر بنشر قوة من 750 فرداً من حرس الحدود مسلحين بأسلحة خفيفة وسيارات شرطة وإقامة أبراج مراقبة وتسهيلات لوجستية. وتلزم الاتفاقية منع المركبات العسكرية والمعدات الاستخباراتية وأي عدد زائد عن كمية الأسلحة المحدد سلفاً، وتنصّ على أن القوات المصرية هي "قوة مخصصة لمكافحة الإرهاب والتسلل عبر الحدودة، وليست قوة عسكرية".
وتضمّنت الاتفاقية نصاً يشير إلى أنها لا تلغي أو تعدل اتفاقية "السلام المصرية الإسرائيلية" التي وقعت عام 1979، وتبقي على حالة المحور وصحراء سيناء كمناطق منزوعة السلاح. وجاء فيه: "على جميع الأطراف إدراك أن نشر قوات حرس الحدود وهذه الترتيبات لا يعدل ولا ينقح ولا يغير معاهدة السلام بأي حال من الأحوال، بل هي ترتيبات وتدابير أمنية إضافية وافق عليها الطرفان لمواجهة التسلل".
وللتأكد من أن تلك القوات لن تخدم أي أغراض عسكرية، أصر الكيان الصهيوني على أن يدرج ضمن نص الاتفاقية أن تلك التعديلات ليست ضمن معاهدة السلام لعام 1979.
وكانت حكومة الاحتلال، وفي إطار الاستعداد للانسحاب وفك الارتباط مع قطاع غزة، قامت بنقل سلطة محور صلاح الدين إلى السلطة الفلسطينية. وقد وقعت اتفاقية للعبور والحركة بعد نقل السلطة إلى السلطة الفلسطينية من أجل "تعزيز التنمية الاقتصادية وتحسين الوضع الإنساني على أرض الواقع"، وفتحت معبر رفح في تشرين الثاني/نوفمبر 2005، ووضعته تحت سلطة الحكومة المصرية وحكومة السلطة الفلسطينية ومراقبين من الاتحاد الأوروبي. وفي إثر معركة غزة عام 2007 وسيطرة حركة حماس على القطاع، أصبحت حكومة حماس صاحبة السلطة على محور صلاح الدين.
إن الادعاءات الصهيونية حول ضرورة العودة إلى السيطرة على محور صلاح الدين (فيلادلفيا) تأتي ضمن جملة من التصريحات التي يطلقها المسؤولون الصهاينة عن ضرورة إخلاء قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين إلى مصر ودول أخرى، توطئة لضم أراضي القطاع إلى الكيان الغاصب وبناء مستوطنات جديدة على ساحل قطاع غزة.
إن الأطماع الصهيونية لا تقف عند حدود ممر فيلادلفيا، بل تمتد إلى الأراضي المصرية، تحت مزاعم البحث عن الأنفاق والتأكد من عدم إمكانية تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة.
إن حكومة الكيان الصهيوني اليمينية المتشددة لا تتورع عن أي فعل إجرامي في سبيل تحقيق أهدافها التوسعية التي تستند إلى ترهات توراتية. وفي سبيلها لذلك، لن تأبه لمعاهدات أبرمتها الحكومات السابقة، ولن تردعها مواثيق وأعراف دولية، إذ إنها تستند إلى دعم لا محدود من حكومات الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية، لأن الكيان يمثل رأس حربة وقاعدة عسكرية متقدمة للإمبريالية العالمية في منطقة الشرق الأوسط.
لقد ظنَّ الصهاينة أن مشروعهم بإقامة "إسرائيل الكبرى" في سبيله إلى التحقق، في ظل حالة التطبيع المقيت التي أقدمت عليها العديد من الحكومات العربية مؤخراً، ووصلت الأوضاع حد إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن عن خطط لإنشاء ممر للسكك الحديدية والشحن يربط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا ويمر عبر المملكة السعودية والكيان الصهيوني.
وفي إثر إعلان بايدن، صرّح رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو بأن مشروع الممر الرابط بين "إسرائيل" والسعودية والشرق الأوسط وأوروبا سيؤثر في العالم كله، معتبراً أن "دولة الاحتلال في قلب مشروع دولي غير مسبوق سيحقق رؤية طويلة الأمد ستغير وجه الشرق الأوسط، وسيقودنا نحو حقبة جديدة فريدة وغير مسبوقة من التكامل والتعاون الإقليمي والعالمي".
إن هذا المشروع في حال تحققه سيسهم في تعزيز مكانة الكيان الصهيوني في المنطقة، ولكن جاءت معركة طوفان الأقصى لتخلط الأوراق وتبدد تلك المخططات الهادفة إلى جعل الكيان الصهيونية القوة الإقليمية الأهم في المنطقة.
النصوص التوراتية وشرعنة التوسع
لوحظ مؤخراً استناد نتنياهو في خطاباته إلى الروايات التوراتية. وقد تجلى ذلك في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 أيلول/سبتمبر 2023، في افتتاح دورتها الثامنة والسبعين، إذ ربط مفهوم السلام بالحديث عن معسكرين أحدهما ينشد السلام ويسعى إليه، و"إسرائيل" في قلب هذا المعسكر، والآخر يثير الحروب والاضطرابات التي تهدد أمن ورخاء الشعوب ومستقبل الاستقرار العالمي، إذ استهل خطابه بالقول: "منذ أكثر من 3 آلاف عام، خاطب زعيمنا العظيم موسى بني إسرائيل وهم على وشك أن يدخلوا أرض الميعاد"، وأضاف: "سيجدون هناك جبلين يواجهان بعضهما البعض؛ جبل جرزيم، وهو الموقع الذي يحتوي على نعمة عظيمة، وجبل عيبال، وهو موقع سيكون مصدر نقمة عظيمة. قال موسى إن مصير الناس سيتحدد بالاختيار الذي اتخذوه بين البركة واللعنة.
بقي هذا الخيار نفسه على مر العصور، ليس لبني إسرائيل فقط، ولكن للبشرية جمعاء أيضاً".
وتابع: "نحن نواجه مثل هذا الاختيار اليوم، وسوف نقرر معاً ما إذا كنا نتمتع ببركات سلام تاريخي من الرخاء والأمل اللامحدود أو نعاني من لعنة حرب مروعة، من الإرهاب واليأس".
لقد اعتبر نتنياهو خصوم الكيان الصهيوني جزءاً من "معسكر الأشرار"، أو بحسب تعبيره "الساكنين في جبل عيبال"، مقابل الكيان وحلفائه الذين ينتمون إلى "معسكر الأخيار، ويسعون لسلام العالم ورخائه".
سبق نتنياهو في الاستناد إلى مزاعم توراتية الآباء المؤسسون للحركة الصهيونية. وفي هذا نذكر كيف خاطب ديفيد بن غوريون - أول رئيس وزراء لـ"إسرائيل" - الكنيست بعد احتلال آلة الحرب الصهيونية لسيناء أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 قائلاً: "إن آلاف الجنود شاركوا في القتال في صحراء سيناء؛ لأنهم تذكروا كيف قاد موسى أسلافهم في هذه الصحراء إلى جبل سيناء ليتلقى الوصايا العشر من الرب".
في هذا الإطار، ذكر نتنياهو في خطاب متلفز في 25 أكتوبر الفائت تعليلاً لحرب الإبادة التي يقودها على قطاع غزة: "نحن أبناء النور فيما هم أبناء الظلام، وسينتصر النور على الظلام"، وأضاف قائلاً: "سنحقق نبوءة إشعياء، لن تسمعوا بعد الآن عن الخراب في أرضكم، سنكون سبباً في تكريم شعبكم، سنقاتل معاً وسنحقق النصر"، وما لم يقله هو أن "نبوءة إشعياء المزعومة تبشر بالخراب لمصر والظلام لفلسطين والنور لإسرائيل!".
وفي إصحاح 11 من سفر إشعياء، يقول: "يعود الرب ليمد يده ثانية ليسترد البقية الباقية من شعبه، من أشور ومصر وفتروس وكوش وعيلام وشنعار وحماة، ومن جزائر البحر، وينصب راية للأمم، ويجمع منفيي إسرائيل ومشتتي يهوذا من أطراف الأرض الأربعة، وينقضون على أكتاف الفلسطينيين غرباً، ويغزون أَبناء المشرق معاً، ويستولون على بلاد أَدوم وموآب، ويخضع لهم بنو عمون".
إن الكيان الصهيوني يستمد شرعيته من المزاعم التوراتية التي تعتبر أن الأرض الموعودة التي أعطاها الرب لنسل يعقوب تمتد من نهر الفرات حتى نهر النيل. وقد ورد في سفر التكوين التوراتي نص يقول: "في ذلك اليوم، قطع الرب مع أبرام ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات". وتكرر الوعد المزعوم في مواضع أخرى ليعقوب.
إن العديد من المؤشرات تكشف عن أن قادة الكيان ماضون في تحقيق مخطط "إسرائيل الكبرى" عبر مزيد من تهجير الفلسطينيين. وفي هذا المضمار، تجري حرب الإبادة للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ولكن المخطط التوسعي يصطدم بالمقاومة الباسلة التي حققت انتصارات ساحقة على آلة الحرب الصهيونية، وكذلك يصطدم مشروع التهجير من قطاع غزة بالصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني وتمسكه بأرضه، فضلاً عن الرفض المصري القاطع لتهجير الفلسطينيين من القطاع إلى سيناء.
المقاومة تجهض المشروع التوسعي
لقد استطاعت المقاومة الفلسطينية أن تحطم المشروع التوسعي الصهيوني الذي يستهدف العديد من الدول العربية على صخرة صمودها الأسطوري، ما يجعل تلك الدول مدينة للمقاومة بالتصدي للمشروع، وهذا يتطلب دعماً حقيقياً وواسعاً للمقاومة الفلسطينية التي تمثل وبحق رأس الرمح في مواجهة المشروع الصهيوني التوسعي.
إن الواقع يؤكد أن حركة المقاومة الفلسطينية ستنتصر على آلة الحرب الصهيونية الهمجية، بالرغم من أنهار الدماء الزكية لشهدائنا والدمار الهائل الذي طال القطاع الباسل، والكيان الغاصب سينهار من داخله، وستتهدم أسس أمنه وبقائه، وإن لم يقبل الاحتلال ومن يساندونه الهزيمة فستتوسع الحرب شيئاً فشيئاً، وستحدث تحولات كبرى في المواقف لتكون الهزيمة للدول الداعمة للعدوان جماعية، وستكتب المقاومة الفلسطينية، ومعها محور المقاومة، نهاية الهيمنة وبداية حقبة جديدة ترسم الشعوبُ الحرة ملامحَها.