ما بعد تشييع فرح وربيع.. الروح أيضاً تقاتل
رحلت فرح وربيع لأنهما اختارا أن يقفا بوجه السردية الإسرائيلية، وخلفها الغربية، وها نحن خلفهما، سنكمل الحرب على طول الطريق.
كنا في غرفة أخبار الميادين أمس نغطّي أخبار الحرب على غزة. كعادتها منذ 46 يوماً، الأخبار كثيرة وكثيفة، لا تتوقف، ونحن معها، لا نتوقف عن الكلام والتسجيل والكتابة والرصد والإحصاء والإعلان والنعي، والبكاء كذلك.
في خضم تغطيتنا، وردتنا أخبار عن استهداف العدو الإسرائيلي منطقة طير حرفا في الجنوب اللبناني بغارة. يا رب سلّم. أصابنا الذعر، فأحد فرق عملنا موجود في الجنوب. ماذا يحدث؟ الوجوه هنا بدأ لونها يتغيّر. فجأة، صارت وجوه الزملاء شاحبة. صمت عمّ مكاتبنا تكاد من وضوحه تسمع دقّات القلوب.
بدأت الأخبار والصور بالوصول. الغارة استهدفت سيارة لقناة الميادين. الزميلة فرح والزميل ربيع، ومعهم الزميل المتعاون حسين عقيل. لم نعرف بداية طبيعة الاستهداف. دقائق وجاء الخبر اليقين. الزميلة فرح استشهدت، والزميل ربيع استشهد كذلك، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
لم نستطع أن نبث خبر استشهاد الشهداء سريعاً، فعائلات فرح وربيع والشاب الشهيد المتعاون معهم لم يكونوا يعلمون بخبر استشهادهم بعد. لذا، كان علينا التريث في النعي. وبعدما أصبح الخبر حقيقياً وواضحاً، صدقناه على مضض. كتبناه سريعاً، حررناه إلا من حزننا. وضعناه عاجلاً ثم بكينا. بَكينا الزملاء الأعزاء، لكن علينا التماسك والثبات والعودة إلى العمل، أوليس لأجل ذلك استشهد فرح وربيع؟
هنا، في هذه المكاتب الحزينة الآن صمت ودموع وحداد، فشاشتنا ستفقد اللطيفة فرح. الشابة العشرينية التي تجدها في كل مكان؛ في مكتب لبنان، وفي غرفة الأخبار، وعلى الشاشة، وستفقد كذلك الزميل ربيع المصوّر الشجاع، صاحب البسمة الطويلة.
منذ بداية عملية "طوفان الأقصى"، يعمل طاقمنا في الجنوب اللبناني. بكل حب وثبات.. يتوافدون إلى الميدان تباعاً، من الميدان، ثم إلى الميادين. وهكذا، يسارعون إلى نقل الأحداث، رغماً عن كل المخاطر، لأن القضية قضيتهم، والشعب الذي يقتل كل يوم في غزة شعبهم. لهم في القطاع أصدقاء وزملاء، ولهم القدس، وضمن حدودهم يتربص العدو نفسه ببعض من أرضهم.
منذ بداية هذه المعركة الفصل، كنا نقف عند أخبار الشهداء؛ أسمائهم وحياتهم الشخصية، لنعاين عن قرب ما يحدثه الاحتلال من موت وخراب، لكننا كنا نقف على مسافة أقرب عند استشهاد زملاء صحافيين، لأننا نعرف معاناتهم بدقة. خبرنا كيف يترك الصحافي عائلته، ولو أن الحرب كانت تستوجب البقاء قربها. حياة الصحافي مختلفة، فقد جدّ ودرس وتهيأ لزمن الحروب والمتاعب، وهو يحمل دمه على كفه، كالمجاهدين تماماً.
يترك الصحافي أمه وإخوته وأولاده وعائلته، ويقف بوجه الموت وجهاً لوجه، لينقل ما يحاول أن يخفيه الاحتلال، ليرصد الخروقات، ويسجّل أعداد الشهداء، وليحكي للعالم عنهم. يترك كل من يحب من أجل الإيمان لا من أجل العمل. الإيمان بالقضية، والإيمان بالنصر، وبالمقاومة.
تركت فرح عائلتها أيضاً. لم يعنِها أن الموت قريب منها، ولم يستهوِها أن تعيش كأغلب فتيات جيلها؛ فعمر العشرين هو الفترة التي تزهو الفتاة بشبابها، وتودع طفولتها، وتقبل على الحب والزواج، وتحلم بارتداء الفستان الأبيض. حلم فرح كان مختلفاً.
اختارت أن تعيش فيه على الحدود، وأن ترابط هناك، وأن تقف بوجه عدو يتفنن في القتل، وينتقي الذين اختاروا أن يحاربوا سرديته المزعومة. سجلت فرح أهم إنجازات حياتها، وودعت الطفولة بطريقتها. ارتدت الكفن الأبيض، وارتقت. وكذا فعل الزميل ربيع الذي ترك ولديه ماريا ورامي، اللذين كانا يحتفلان قبل ساعات بعيد الاستقلال، ثم جاء نبأ استشهاد والدهما ليعرّفهما معنى الاستقلال الحقيقي، ومعنى أن تشارك في دفع ثمنه.
منذ بداية الحرب الأخيرة على غزة، تعرّض مراسلونا وصحافيونا للتهديد والاستهداف، ويتعرض أهلنا في غزة للإبادة كل لحظة. أكثر من 14 ألف شهيد في غزة، وأكثر من 60 شهيداً صحافياً، وعداد الموت يسجّل سريعاً. ينتهك الاحتلال في كل لحظة حرمة الموت، فيعلن تسجيل هدف عندما يقصف مستشفى، مدعياً أن في آخره نفقاً، ويهدم المدارس على رؤوس طلابها، لعلّه يصل إلى المناهج والسرديات فيرديها قتيلة، وهذا ما لن يحدث.
لطالما كنا كصحافيين نعمل في الميادين، وكمواطنين عرب، أصحاب قضية وثأر. وما زادنا فقدُ زملائنا إلا عزيمة وفخراً؛ فخراً لأننا ننتمي إلى قناة تزعج الاحتلال وتهدد أمنه القومي وتحارب سردياته، وثأراً لأننا سننتقم لفقد زملائنا على طريقتنا ونهجنا، فثأرنا اليوم أصبح شخصياً، ولطالما كان.
رحلت فرح وربيع لأنهما اختارا أن يقفا بوجه السردية الإسرائيلية، وخلفها الغربية، وها نحن خلفهما، سنكمل الحرب على طول الطريق.
قتلتم فرح وربيع، لكنكم خلّفتم وراءهم عشرات الصحافيين الذين سيحاربونكم بأقلامهم وصوتهم وصورهم، وبأجسادهم حين يلزم الأمر.
ما حصل واضح، والاصطفافات واضحة أيضاً، فالميادين في موقعها الطبيعي، على الحدود وبين النار، وفي كل مكان يجب أن تكون فيه، و"إسرائيل" في سياقها الطبيعي كذلك، في الدماء والتشفّي بالأبرياء والتخفّي وراء آلة القتل، فالغدر والاغتيالات والقتل عن سابق إصرار وترصد هو السلوك الطبيعي لـ"إسرائيل" ومن يقف خلفها.