لماذا غابت القضية الفلسطينية بين أوراق نفتالي بينيت؟!
الملف الإيراني هو الأكثر أرقاً للقيادة السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية في منظوره البعيد وبُعده الاستراتيجي، وخصوصاً إذا ما قررت طهران المضي في طريق رفع وتيرة التخصيب إلى الحد الذي تحتاجه ويعزّز مكانتها واقتدارها
جلبتْ له ركاكة لغته الإنكليزية وضعفه في استخدامها استهزاء مراسلي القنوات الإسرائيلية ومحلليها، ودفعت المتحدث السابق باسم قوات الاحتلال رونين مانليس، وعلى شاشة "القناة السابعة" الإسرائيلية، إلى القول: "هناك آخرون في إسرائيل يعرفون كيفية التحدث باللغة الإنكليزية بشكل جيد".
25 دقيقة قضاها رئيس وزراء الاحتلال نفتالي بينيت في إلقاء خطابه في اليوم السادس من انطلاق الدورة 76 للجمعية العامة للأمم المتحدة. حضرتْ إيران في خطابه الأممي الأول بقوة، بشخصية رئيسها السيد إبراهيم رئيسي، وبرنامجها النووي الذي أكد بينيت أنّه ما زال التهديد الاستراتيجي الأخطر على كيانه، وبرنامجها الصاروخي والبالستي، ومشروع طائراتها المُسيّرة الذي وصفه بأنّه يُغطي سماء الشرق الأوسط، ومشروع توسُّعها وتمدُّدها في الإقليم، وشبكة علاقاتها وأصدقائها وتحالفاتها في المنطقة، ودعمها مثلّث التهديد الوجودي للكيان؛ حزب الله في لبنان، والجهاد الإسلامي وحماس في فلسطين.
هذا الخطاب الذي استحوذت إيران وبرامجها ومشاريعها وتهديداتها على معظمه فقراته، وغاب عنه بشكلٍ واضح أيُّ ذِكرٍ للفلسطينيين والقضية الفلسطينية، وتركَ الكُتّاب والمحللين والسياسيين داخل الكيان بين مُرحّبٍ بهذا التجاهل ومُستهجنٍ له، يُعبّر عن انعدام الرؤية الإسرائيلية للحلول والمناورة أمام المجتمع الدولي، فألون بن دافيد، المُحلل العسكري للقناة "13" الإسرائيلية، غضّ الطرف عن كامل خطاب بينيت، وصفّق بحرارة لكلمته عن السيد إبراهيم رئيسي ووصفه بأنّه "يأكل كعكته المحشوة بالكريمة بعد انتهائه من ذبح الناس".
الملف الإيراني هو الأكثر أرقاً للقيادة السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية في منظوره البعيد وبُعده الاستراتيجي، وخصوصاً إذا ما قررت طهران المضي في طريق رفع وتيرة التخصيب إلى الحد الذي تحتاجه ويعزّز مكانتها واقتدارها، ورمي الاتفاق النووي خلف ظهرها... ولو عادَ جميع أطراف الاتفاق النووي إليه، فإنه لنْ يُغيّر من طبيعة موقع إيران في صراعها مع الكيان الإسرائيلي واستمراريتها في دعم مشروع المقاومات في المنطقة، لإخراج الأميركي والإسرائيلي من كامل غرب آسيا. وفي هذا السياق، يمكن استيعاب استحواذ إيران على خطاب بينيت، ولكن في الوقت ذاته يُعَدُّ هذا التجاهل المقصود للفلسطينيين في خطابه تعبيراً حقيقياً عن أزمة حادة في طبيعة إدارة السياسة الخارجية للكيان.
ما زال بينيت يعيش عقدة نقص متلازمة نتنياهو، ويحاول أنْ يظهر بأنّه الأكثر قدرة على قيادة "الدولة" وإدارة ملفاتها الخطرة والحساسة وتزعُّم أحزاب اليمين، رغم سحر المُلقّب بملك "إسرائيل"؛ فإيران هي الملفّ الأهم والأبرز الذي استحوذ على عقل نتنياهو وسلوكياته التي وُصفت بالعنجهية وأفقدته اتزانه السياسي، ما دفعه إلى إفشاء بعض الأسرار المتعلقة بالأمن القومي الإسرائيلي. وحول هذا الأمر، نشرت قناة "كان" العبرية أنّ جهات في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي انتقدت الانشغال المستمر بنتنياهو، ووصفته بأنّه يُسيء إلى نفتالي بينيت ومحاولته وحكومته الحصول على شرعية عامة.
ومن عقدة نتنياهو لدى بينيت، نصل إلى عقدة النقص في الفضاء العام الذي يعتريه بأنّ حزبه هو الأقل حضوراً وتمثيلاً في الكنيست بين أغلب أحزاب اليمين، وهو ما يدفعه إلى القيام بخطوات جاذبة للشارع اليميني إليه، وليس هناك أكثر نهماً وشراهةً لدى اليمين المتطرّف من إعدام الملف الفلسطيني عالمياً، وتغييب الحلول السياسية للقضية الفلسطينية دولياً، حتى لا تقود إلى دولة فلسطينية - مهما كان شكلها - تبسط سيطرتها على أراضٍ مقدسة في ما يُطلق عليها اسم "مناطق يهودا والسامرة". هذا التوجّه هو ما يؤمن به بينيت حقيقةً، بعيداً عن مشروعه في التهام اليمين واستقطابه، فبينيت لا يؤمن بأيِّ شكل من أشكال الدولة الفلسطينية، ويؤمن بالاستيطان المتوحش في الضفة الغربية والقدس الكبرى.
يعلمُ بينيت جيداً أنّ "مظلومية اليهود" أصبحت إحدى الأكاذيب الممجوجة على المستوى العالمي الشعبي، وأنّ هناك تزايداً واضحاً في فضح جرائم الكيان بحقِّ الشعب الفلسطيني، وأنّ وصمة "دولة" العنصرية أصبح لها صدى في بعض المحافل والنشاطات، وليس آخرها تصويت حزب العمال البريطاني على فرض عقوبات على الكيان، ما يدفعه إلى عدم التعرّض في المحفل الدولي الأهم للقضية الفلسطينية.
كما يدفعه عكس ذلك تماماً إلى خياره في تجاهل الفلسطينيين، مدعوماً بخطابٍ أممي بائس للرئيس محمود عباس، وبسلوكيات سلطته التي تسير في مساراتٍ من دون هداية، وبدولٍ عربيةٍ تمضي إلى التطبيع بلا سقف، وأطرافٍ دولية وازنة ليست على استعداد لمحاسبة الكيان الإسرائيلي. أما الإدارة الأميركية، فهي لم تخرج عن القاعدة العامة المتبعة لدى جميع الإدارات السابقة في التعامل مع الملف الفلسطيني، عبر "إدارة هذا الصراع، لا إيجاد الحلول فيه".
ومع كلّ هذا، إنَّ تجاهل بينيت للفلسطينيين لنْ يغطّي على هزائمه المتلاحقة أمامهم في "سيف القدس"، و"نفق الحرية"، وهبّة اللد، وسواعد أبناء القدس، ورصاص كتيبة جنين، وبندقية الشهيد أسامة صبح في برقين. هذا التجاهل تفضحه مئات التقارير والأبحاث الإسرائيلية التي تُعبّر عن عجز كيانه أمام صواريخ غزة وحجارة الضفة وإرادة الفلسطيني أينما وُجد، وخشية "الأسرة والعائلة في إسرائيل" على أولادها من الموت، وعدم استعدادها للتضحية من أجل هذا الكيان.