قوى العدوان تتحد في الميدان السوريّ: تصعيد "معركة الإشغال" لإفشال "معركة الإسناد"
أهمية الميدان السوريّ في المواجهة مع قوى الاحتلال والعدوان، تبدّت، وتتبدّى يوماً بعد يوم، بشكل أكبر في الاستراتيجية الأميركية التي اعتمدتها واشنطن في المواجهة خلال معركة "طوفان الأقصى".
منذ تورّطها في مواجهة ضارية ووجوديّة مع قوى المقاومة الفلسطينية الباسلة في قطاع غزة، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، وإثباتها عجزاً كبيراً وواضحاً عن تحقيق أي نصرٍ أو إنجاز عسكريّ أو سياسيّ في تلك المواجهة، لم تُغفل آلة العدوان الإسرائيليّ، الجبهة السورية، أو تنشغل عنها أبداً، فقد زادت حدّة الاعتداءات على الأرض السورية وعلى مقدّرات الجيش العربي السوريّ، منذ بدء معركة "طوفان الأقصى" المجيدة، وقد تنوّعت أشكال تلك الهجومات والاستهدافات، بين اعتداءات مباشرة على مواقع الجيش السوري ومراكز أبحاثه، وبين عمليات اغتيال لشخصيات مقاومة في العاصمة السورية دمشق، واستهدافات للبنية التحتية والأحياء المدنية في المدن السورية.
لكنّ أهمية الميدان السوريّ في المواجهة مع قوى الاحتلال والعدوان، تبدّت، وتتبدّى يوماً بعد يوم، بشكل أكبر في الاستراتيجية الأميركية التي اعتمدتها واشنطن في المواجهة خلال معركة "طوفان الأقصى".
فبعد بدء معركة الإسناد التي أطلقتْها قوى المقاومة في الإقليم نصرةً لشعبنا الفلسطينيّ ومقاومته الباسلة في غزّة، بعد مرور أقلّ من أسبوع على العملية المجيدة في قطاع غزة، وذلك انطلاقاً من لبنان مروراً بسوريا والعراق وصولاً إلى اليمن، أظهرت واشنطن ارتباكاً كبيراً وغير مسبوق أمام الحدث الجديد من نوعه بكل المقاييس، خصوصاً أنّ قوى المقاومة وضعت قوات الاحتلال الأميركيّ الموجودة في سوريا والعراق، كأهداف رئيسية ضمن معركة فلسطين تلك، وذلك إدراكاً منها لأهمية الدعم الأميركيّ غير المحدود لكيان الاحتلال الإسرائيليّ في هذه المعركة.
وكان الميدان السوريّ هو الساحة الأساسية لهذه المواجهة، فبدأت القواعد الأميركية تتلقّى الضربات بشكل شبه يومي على مدى أكثر من 4 أشهر، وبدلاً من التورّط في مواجهة مباشرة مع قوى المقاومة، بدأت واشنطن بتحريك أدواتها في الميدان السوريّ، لتقود "معركة إشغال" في وجه الجيش العربي السوريّ وفصائل المقاومة على الأرض السورية.
فأخذت هجمات تنظيم "داعش" الإرهابي تتزايد وتتصاعد على امتداد البادية السوريّة انطلاقاً من منطقة "التنف" حيث القاعدة الأميركية الأكبر. كما بدأت الفصائل التكفيرية المسلحة الموجودة في منطقة الشمال، بتصعيد هجماتها على امتداد الجبهات في أرياف إدلب وحلب واللاذقية وحماه، وذلك بعد هدوءٍ نسبيّ استمر لأكثر من عام، وبدا واضحاً أنّ تسخين الجبهات هذا، مرتبط بشكل أساسيّ بمعركة "طوفان الأقصى"، ويهدف إلى إشغال الجيش العربي السوريّ وقوى المقاومة، وحرف جهودها عن المعركة الأساسية مع العدو الإسرائيليّ.
ولإيضاح مدى أهمية وخطورة استراتيجية قوى العدوان في الميدان السوريّ، يجب التوقّف عند آخر عدوان إسرائيلي على الأرض السورية، الذي حدث عن الساعة الواحدة و45 دقيقة من صباح يوم الجمعة الفائت، 29 آذار/مارس، والذي يمكن اعتباره واحداً من أبرز تجلّيات هذه الاستراتيجية، وأهم دلائل "وحدة جبهات" المعركة الإسرائيلية – الأميركية ضد الشعب الفلسطينيّ وشعوب المنطقة ومقاومتها، كما يُظهِر مدى خطورة الأدوات المحلية والإقليمية والتكفيرية في معارك المستعمر واستراتيجيته التدميرية.
فانطلاقاً من الأجواء الأردنيّة، مروراً بمنطقة "التنف" حيث التغطية الأميركية، وعبر عمق البادية السورية، أغارت الطائرات الإسرائيلية المعادية من اتّجاه "أثريا" جنوب شرق حلب، على عددٍ من نقاط الجيش العربيّ السوريّ والقوات الرديفة والحليفة في ريف محافظة حلب، وبالتزامن تماماً، شنّت التنظيمات الإرهابية هجوماً واسعاً بالطائرات المسيّرة، انطلاقاً من ريف إدلب الشرقيّ وريف حلب الغربيّ، في محاولة واضحة من قوى العدوان لمحاصرة الجيش والقوات المسلحة السورية والرديفة والمدنيين في حلب، من جهات الشرق والجنوب والغرب. وقد أسفرت العملية المشتركة لقوى الإرهاب تلك، عن سقوط عدد من الشهداء المدنيين والعسكريين في مدينة حلب وريفيها الشرقي والغربيّ.
وقد ربط بيان وزارة الدفاع السورية بين الهجومين المعادِيَيْن بشكل واضح، لتبيان مدى التنسيق بين قوى جبهة العدوان، والكشف عن طبيعة المعركة التي تخوضها قوى المقاومة في فلسطين والمنطقة، وعلى رأسها سوريا.
قبل العدوان المشترك الأخير بساعات قليلة، وتحديداً عند الساعة الخامسة و50 دقيقة من بعد ظهر يوم الخميس، شنّ العدو الإسرائيليّ عدواناً جويّاً من جهة الجولان السوري المحتل، استهدف من خلاله مبنىً سكنيّاً في الريف الجنوبيّ للعاصمة السورية دمشق، ما أسفر عن إصابة مدنيّين اثنين بجروح، وتسبّب ببعض الخسائر المادية في المبنى السكني ومحيطه. وفي تلك الأثناء، كانت الفصائل التكفيرية العاملة في محافظة إدلب، تكثّف هجوماتها على نقاط الجيش العربي السوريّ في أرياف حماه واللاذقية وحلب، وتوزّع طائراتها الانتحارية المسيّرة باتّجاه العمق السوري حيث المدن والبلدات والقرى الآمنة. وكان الجيش العربي السوريّ يخوض معارك ضارية على مختلف تلك الجبهات، بينما تمكّنت قوات دفاعه الجوي من إسقاط معظم الطائرات المسيّرة المعادية.
وإلى جانب الاحتفال الصريح بالعدوان الإسرائيليّ، من قبل مختلف قادة ومنسوبي وداعمي تلك الفصائل، والذي بدا واضحاً على صفحات التواصل الاجتماعي التي يديرها هؤلاء، والذي يُظهر مدى التجانس المعنويّ والعمليّ بين مختلف القوى المعادية للدولة السورية وقوى المقاومة في المنطقة، فإنّ ترابطاً مصلحيّاً مستجدّاً يضع "الجولانيّ" وعصبته (هيئة تحرير الشام) في قلب هذه الاستراتيجية الأميركية – الإسرائيلية الموجّهة ضد سوريا ومحور المقاومة، وضمن معركة "طوفان الأقصى" تحديداً.
فالهروب الأميركيّ إلى معركة إشغال الجيش العربي السوري وفصائل المقاومة بمواجهات جانبية تبعدهم عن المبادرة المباشرة في معركة فلسطين التي تتضمّن وتستلزم، من دون أدنى مواربة، قتال المحتلّ الأميركيّ وطرده من المنطقة، يقابله هروب الجولانيّ إلى معركة إشغال أخرى، الهدف منها مواجهة الاحتجاجات الشعبية والفصائلية التي بدأت تتزايد في منطقة الشمال، والتي تصاعدت خلال شهر رمضان المبارك، بعد عجزه عن احتواء الموقف على امتداد شهرَي شباط/فبراير وآذار/مارس، فكان لا بدّ له من إشعال الجبهات وتصعيد المواجهات مع الجيش العربي السوريّ وفصائل المقاومة الرديفة والحليفة له، والعودة إلى شعارات "نصرة الإسلام" و"قتال الكفار" و"تحرير حلب" و"معركة إسقاط النظام" وخلافها من عبارات وشعارات الدجل التي اعتمدتها أدوات المستعمر على الأرض السورية وفي المنطقة عموماً منذ أكثر من عشر سنوات.
وقد وجدت واشنطن أنّ استثمارها في تنظيم "داعش" الإرهابيّ الذي أعادت الحرارة إلى جسده في البادية السورية بقوة، منذ بدء معركة "طوفان الأقصى"، لا يكفي في معركة الإشغال تلك، فبدأ التنسيق الأميركيّ – الإسرائيليّ مع الجولانيّ وعدد من الفصائل المسلحة في الشمال، لتوسيع المواجهة في وجه الجيش السوري وقوى المقاومة على الأرض السورية، وهو ما يحدث الآن بالفعل في الميدان السوريّ.
وعلى الضفة الثالثة لقوى العدوان، فإنّ السبب الأساسيّ من استمرار وتزايد الاعتداءات الإسرائيلية على الأرض السورية ضمن معركة "طوفان الأقصى"، يكمن في هدفين رئيسيّين ترى قيادة كيان الاحتلال فيهما خطراً كبيراً على وجود الكيان نفسه، الأول هو منع الجيش العربي السوري من تطوير مقدّراته وقدراته العسكرية، لذلك فإنّ النسبة الأعظم من تلك الاعتداءات، تستهدف مراكز أبحاث الجيش السوري ومواقع قواه الجوية والصاروخية، وهو هدف دائم لكيان الاحتلال، لكنه بات أكثر إلحاحاً في زمن "طوفان الأقصى"، بعد ثبوت الدعم العسكريّ الكبير لفصائل المقاومة في فلسطين المحتلة، وظهور أسلحة سوريّة مؤثّرة جدّاً بين أيدي المقاومين في قطاع غزة.
أمّا الهدف الثانيّ، فهو تحوّل الجبهة السورية، بعد أكثر من عشر سنوات من العدوان والتدمير، إلى ساحة رئيسية مؤثّرة وخطيرة في معركة "طوفان الأقصى"، خصوصاً في وجه الداعم الرئيسيّ لكيان الاحتلال، وهو الولايات المتحدة الأميركية ووجودها الاحتلالي في سوريا والعراق، وهو الوجود الهام جدّاً بالنسبة للكيان، والذي تعرّض لخطر كبير في الأشهر الخمسة الأخيرة. لذلك تكون سوريا واحدة من أخطر الميادين حاليّاً، سواء بالنسبة لمحور فلسطين المقاوم، أو لمحور الأعداء الذي لن يتوقّف عن العدوان والإشغال ومحاولات التصعيد والضغط باتّجاه تحييد هذه الجبهة وحرفها عن جهد تحرير فلسطين.
لذلك، ستكون أمام سوريا وقوى المقاومة معارك شرسة في المرحلة المقبلة، من الواضح أنّ الجيش العربي السوري وقوى المقاومة، في غاية الاستعداد لها، بل لديهم خططهم اللازمة لخوضها وتحقيق أهدافهم الوطنية والتحرّرية من خلالها، وهو ما تشير إليه وقائع الميدان، من غزّة إلى تخوم حلب وإدلب، وبوادي "الميادين" و"البوكمال".