قرار وقف إطلاق النار في غزة وبصمات الدبلوماسية الجزائرية "النضالية"
يحسب للجزائر نجاحها في صياغة فقرات القرار وفق صيغة توفيقية كسبت التأييد الأولي لمجموعة الأعضاء العشرة التي قدم المقترح باسمها، وتلافت التحفظات الأميركية التي اتخذت ذريعة لإفشال مشروعها في 20 شباط المنصرم.
للمرة الأولى منذ شن العدوان الصهيوني على قطاع غزة، وعقب 4 محاولات سابقة أحبطت 3 منها بفيتو أميركي، نجحت كتلة الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن (E10)، وعلى رأسها الجزائر، في استصدار القرار رقم 2728 الذي يطالب بوقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة خلال شهر رمضان، مع ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى سكانه وإطلاق سراح الرهائن.
إنه بلا ريب قرار متأخر جداً لا يناهز تطلعات المظلومين الذين تتواصل مأساتهم بلا توقف، وهو إذ استغرق كل هذه المدة وكل تلك الإخفاقات كي يصدر فإنه يعكس حجم فشل مجلس الأمن وعجزه المعيب عن الاضطلاع بواجباته إزاء شعب أعزل تُرك لآلة القتل الصهيونية لتنكل به، لكن، وبالرغم مما سبق، فإن مجيئه المتأخر سيظل خيراً من لا شيء.
ويحسب للجزائر، ومن ورائها كتلة الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن، استصدارها القرار ودفع المجلس إلى تبنيه بأغلبية 14 صوتاً مؤيداً في مقابل لا شيء، من دون الوقوع في فخ إدانة المقاومة أو وصمها بالإرهاب، وهو ما عكف الاحتلال ومحازبوه على فعله طيلة الأشهر الخمسة الماضية.
ويحسب لها أيضاً أنها فكَّت الارتباط بين مسألتي الرهائن ووقف إطلاق النار، جاعلة منهما مسألتين منفصلتين بخلاف ما أرادت الولايات المتحدة فعله في مسودتها التي عرضتها على مجلس الأمن في 22 مارس/آذار ورفضتها كل من روسيا والصين والجزائر.
تلك هي الدوافع الذي عجّلت استحسان حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لهذه المبادرة الجزائرية وقادتها إلى الإعراب عن "تقديرها لجهود الأشقاء في الجزائر وجميع الدول في مجلس الأمن التي تعمل من أجل وقف العدوان وحرب الإبادة الصهيونية"، وهي الأسباب عينها التي أثارت حنق سفير "إسرائيل" لدى الأمم المتحدة، ودفعته إلى وصف ما صدر عن المجلس دونما إدانة لحماس بـ"وصمة عار"، ولو لم تكن للقرار الصادر من حسنة غير هذه لكفت.
والحق أنه مهما تواضع المرجو من قرار مجلس الأمن في حال طبق إذا ما قورن بهول المأساة في غزة وشروط المقاومة المبدئية للتفاوض، وبالنظر إلى أنـه سيطبق خلال ما تبقى من أيام من شهر رمضان فقط، إلا أنه يحمل في طياته بضعة مكاسب ينبغي ألا تغفل إذا استُقرئ على قاعدة "أفضل المتاح".
في نصه، يحسب للجزائر -علاوة على عدم إدانة المقاومة- نجاحها في صياغة فقرات القرار وفق صيغة توفيقية كسبت التأييد الأولي لمجموعة الأعضاء العشرة التي قدم المقترح باسمها، وتلافت التحفظات الأميركية التي اتخذت ذريعة لإفشال مشروعها في 20 شباط/فبراير المنصرم.
لقد كانت ملامح تلك التجربة بادية في نص القرار الصادر، ذلك أن مراعاة حساسية مسألة الرهائن لدى حلفاء الكيان وداعميه لم تحل دون تضمينه مطالبة صريحة بوقف فوري لإطلاق النار تفضي إلى مرحلة الوقف الكلي والدائم لاحقاً، فكان القرار من هذه الزاوية قاعدة يمكن أن تؤسس لاستدامة وقف إطلاق النار وحقن دماء المدنيين والعزل التي تسفك يومياً في غزة.
وشدد القرار في مطلبه الثاني على وجوب إدخال المساعدات الإنسانية ورفع كل الحواجز التي تعرقل وصولها إلى كل مناطق القطاع، بما يدل على أن الصائغ الجزائري للمسودة أراد أن يكـيفها مع مطلب المقاومة بضرورة وصول المساعدات إلى شمال غزة.
ولا ينبغي أن نغفل مشهد التصويت لدى استقرائنا مكاسب القرار 2728. إن نتيجة 14 صوتاً مؤيداً في مقابل لا شيء، وامتناع عضو واحد (الولايات المتحدة) عن التصويت، ينمان عن حجم العزلة التي صار الكيان المحتل يعيشها، وهو الذي دعا إلى إبطال مشروع القرار الجزائري قبل التصويت عليه، وهما في الوقت نفسه برهان على حجم النفور العالمي من ممارسات الاحتلال الشنيعة وروايته الكاذبة الملفقة التي باتت تسبب الإحراج الشديد أمام الرأي العام الداخلي والعالمي حتى لأقرب محازبيه وداعميه داخل كتلة الدول الغربية.
ولو لم يكن الإصرار الجزائري على العودة مجدداً لوضع مجلس الأمن في موضع الاضطلاع بواجباته بعد تجربة شباط/فبراير غير الناجحة، كما وعد عمار بن جامع في كلمته أمام مجلس الأمن عقب الفيتو الأميركي آنذاك، لما استطعنا رؤية التلاشي التدريجي الذي لحق بالدعم الدولي لـ"إسرائيل"، والذي يقترب شيئاً فشيئاً من نواته.
في خلال شهر واحد، أضيف إلى قائمة الدعم اللامشروط الذي خسره الكيان دعم الولايات المتحدة التي لم ترفض القرار وبريطانيا التي أيدته، وهي التي سبق أن امتنعت عن التصويت قبل شهر.
وخلاف كلّ الحالات السابقة، فإن حنكة الدبلوماسية الجزائرية التي أحسنت اختيار توقيت عرض المشروع على مجلس الأمن مستثمرة في الخلاف الحاصل بين بايدن ونتنياهو ساهمت في إخراج مشهد امتناع ليندا توماس غرينفيلد عن التصويت ضد قرار طالبت "إسرائيل" بوقفه، في سابقة قل مثيلها في التاريخ.
تقديم مشروع القرار باسم كتلة الأعضاء غير الدائمين هو أيضاً مما يوحي بوعي الجزائر بوجوب إبعاد مشروع القرار عن دائرة المناكفات الجيوسياسية داخل كتلة الأعضاء الدائمين (الصين وروسيا من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى)، من منطلق إدراكها المسبق بأن كل مسودة تقترح من إحدى الدول السابقة مرشحة للسقوط بفيتو الطرف الغريم، بصرف النظر عن مضامينها.
هذه المواظبة الجزائرية اللامتوقفة داخل مجلس الأمن وفي أروقة الأمم المتحدة كي يتحمل مجلس الأمن مسؤولياته كاملة إزاء فلسطين، وإذا ما قرنت بالمرافعات الجزائرية اللامتوقفة من مختلف المنابر متعددة الأطراف لحشد الدعم للقضية الفلسطينية، بما فيها المحاكمة السياسية والأخلاقية للفيتو الأميركي على مشروع القرار الجزائري في 4 مارس/آذار أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، هي بينات على أن سلوك الجزائر الثابت والراسخ يصدر عن دولة تخوض دبلوماسية نضالية لمصلحة قضية عادلة وشريفة لا تدعمها بحكم الانتماء، بل من منطلق إيمانها العميق بأنها قضيتها مثلما هي قضية الفلسطينيين وكل الشرفاء في العالم.
من المؤكد أن حركة دبلوماسية تنبع من هذا الإيمان ويحركها وفاء الجزائر لثوابتها الحضارية وتاريخها الثوري ولتضحيات شعب فلسطيني يستبسل في المقاومة لن تكفّ عن النضال في سبيل مزيد من العدالة والإنصاف لفلسطين والفلسطينيين الذين سيكون بمقدورهم الاعتماد دوماً على الظهير الدبلوماسي الجزائري في كفاحهم.
المؤكد أيضاً أنَّ استقلالية الدبلوماسية الجزائرية ومواقفها النابعة من نصرة القضية الفلسطينية بعيداً من حسابات المصالح والمساومات البائسة واستعدادها لخوض المواجهات في سبيل مواقفها المبدئية ستكون متـكأ لهذا النضال الدبلوماسي يمنحه هامش مناورة كبيراً ومناعة من الإذعان لضغوط القوى الداعمة للاحتلال، وعلى رأسها قوى الغرب.
أخيراً، تقول العرب: "الحق هو ما شهدت به الأعداء"، والأعداء بلسان القناة 12 الإسرائيلية قالوا تعليقهم على القرار 2728 بأن "إسرائيل تلقت ضربة دبلوماسية من أقرب أصدقائها"، و"أن هذا هو النصر الأول للفلسطينيين في هذه الحرب".
هذا التحسر والوعي بالخسارة الذي يخيم على المحتل كافٍ لأن يثبت أن الجزائر، وكل من يقف في صف المقاومة، على صراط النضال المستقيم.