عن السودان مجدداً.. ثنائيات إسرائيلية
لم تعد "إسرائيل" مراقباً للمشهد، بل أصبحت متدخلاً مباشراً ووسيطاً في الأزمة السودانية أيضاً.
في محاولة لنفي الصبغة السياسية لطبيعة العلاقة التي تربطه بـ"إسرائيل"، تحدث رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان عن أنَّ هذه العلاقة ذات طابع أمني وعسكري، وأن لا أغراض سياسية وراءها.
يأتي حديث البرهان على خلفية تقارير كثيرة، تتحدث في مجملها عن طبيعة سياسيّة للدور الإسرائيلي في المشهد السوداني. هذا الحديث لا يتعلّق بعلاقات التطبيع بين الطرفين، بل بإدارة وإشراف إسرائيليين على مساعي الحل في السودان، إذ تشي الزيارات المكثفة لوفود إسرائيلية إلى السودان، وكذلك لشخصيات سودانية إلى الأراضي المحتلة، بأنَّ هذه المحادثات تتعلَّق بملفات سياسية تحتاج إلى نقاش مستمر.
في 17 تشرين الثاني/نوفمبر العام الماضي، طلبت ممثلة واشنطن في الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد من وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس التدخّل في أزمة السودان والعودة إلى "المرحلة الانتقالية بقيادة مدنية". سبق ذلك دعوة أطلقها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لـ"إسرائيل" في السياق ذاته.
يأتي ذلك في إطار إقرار أميركي بعمق العلاقة الإسرائيلية مع قيادات السودان، وخصوصاً العسكريين، وفي إطار الثنائية الأولى التي نتحدَّث عنها اليوم عنى ذلك توكيلاً أميركياً لـ"إسرائيل" بالملف السوداني.
لا تبدو واشنطن معنية بحكومة مدنية أو عسكرية ما دامت تؤمّن المصالح الأميركية. وفي ظل ما تواجهه الولايات المتحدة في الساحة الدولية، فإنَّ نظرتها إلى السودان تتلخَّص في كونه حيوياً للأمن القومي الأميركي من حيث الموقع والموارد، وكذلك دوره في التوازن مع القوى العالمية في المنطقة.
مع هذا التكليف، أخذ التدخل الإسرائيلي في المشهد السوداني بعداً مختلفاً. وبموجبه، لم تعد "إسرائيل" مراقباً للمشهد، بل أصبحت متدخلاً مباشراً ووسيطاً في الأزمة أيضاً.
تأسيساً على دورها السابق واللاحق للطلب الأميركي، نجحت "إسرائيل" في المرحلة الأولى في إحداث تغيير على مستوى طريقة التفكير الأميركي تجاه الملف، من الإصرار على إتمام عملية الانتقال السياسي إلى ما يشبه الإقرار بانقلاب البرهان أمراً واقعاً.
تراجعت واشنطن في إثر هذه القناعة عما هدّدت به من فرض عقوبات على "معرقلي الديمقراطية". ما يؤكد ذلك هو الخلافات التي نشبت في الإدارة الأميركية بين مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية مولي في والمبعوث الأميركي إلى القرن الأفريقي جيفري فيلتمان، وهو ما نتجت منه في النهاية استقالة الأخير وتعيين ديفيد ساترفيلد الذي يتبنى المقاربة الجديدة بدلاً منه.
بالعودة إلى الساحة السودانية، حيث تعمل "إسرائيل" وفق منطق الثنائيات الشخصية، متجاوزةً في ذلك طبيعة العلاقات الدولية إلى العمل مع أكثر من شخصية داخل السودان، وفي أكثر من اتجاه ومستوى، ووفقاً لسياق التفويض الأميركي المذكور، تصبح هذه الشخصيات معنية بالتنافس في ما بينها على العلاقة مع "إسرائيل".
تحفظ "إسرائيل" للبرهان "خطوته الجريئة" بالانفتاح عليها، وكونه من شقّ الطريق لها في السودان. ومن جانبه، يلتزم البرهان ومن خلفه العسكر بأجندة "إسرائيل" الأمنية، وهو يكنّ إعجاباً كبيراً للنموذج الإسرائيلي من حيث عسكرة المجتمع وبناء دولة لجيش. ويعتمد الاستثمار الإسرائيلي للبرهان على مغازلة طموحه السياسي الذي عبر عنه في أول مقابلة صحافية له، حين قال: "والدي رأى في المنام أنه سيكون لي شأن عظيم في البلاد".
على عكس العلاقة مع البرهان، تنسج "إسرائيل" ثنائية أخرى مع نائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي)؛ قائد قوات الدعم السريع، وأحد أباطرة الاقتصاد في السودان. تلحظ "إسرائيل" الصراع الصامت المتنامي بين البرهان وحميدتي، فتقيم مع الأخير علاقة من نوع غريب، إذ تتجاوز العلاقة الإسرائيلية الحميدتية الإطار السياسي والأمني إلى الشخصي، بل العائلي، بحيث يمكن القول إنَّها علاقة بين "دولة" وعائلة. قبل أيام، جرى الحديث عن زيارة وفد إسرائيلي إلى السودان. ومع كثرة التكهنات حول طبيعة الزيارة، كانت المفاجأة أنَّ الوفد في زيارة إلى آل دقلو بمهمة استشارية تتعلق بمشروع زراعي عملاق مملوك للعائلة.
تغري هذه العلاقة المتنامية حميدتي بتوسيع مروحة علاقاته الخارجية، فينسج على منوالها علاقات شخصية مع تشاد والنيجر. وفي هذا الإطار أيضاً، يسعى لتوسيع إمبراطوريته الاقتصادية، إذ تشير المعلومات إلى أنَّ قوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي، تقدَّمت بعرض تجاوزت قيمته 1.5 مليار دولار لشراء شركة "زين" للاتصالات.
تنتج هذه الثنائيات ما يمكن تسميته سياقاً إسرائيلياً في السودان. وفي إطاره، يعود إلى المشهد السياسي كثير من الشخصيات التي عُرفت سابقاً بحماسها للتطبيع، فبعد أبو القاسم برطم، عضو مجلس السيادة وأحد أوائل الدعاة إلى التطبيع منذ سنوات، يأتي إعلان كرم الله عباس، والي القضارف السابق، عن تأسيس حزب جديد، لم يخفِ خلال تدشينه تأييده للعسكر. عباس أيّد التطبيع مع "إسرائيل" أيام حكم البشير، وأُجبر على الاستقالة حينها من منصبه والياً للقضارف.
تقود كلّ هذه المعطيات إلى السؤال الأهم: ما الذي تعمل عليه "إسرائيل" وفقاً لدورها الجديد؟ الإجابة ببساطة أنها، وبالاستناد إلى هذه الثنائيات، تسعى لإنتاج معادلة سياسية جديدة، تأخذ في الحسبان المصالح الإسرائيلية والأميركية، إضافةً إلى عدد من الأطراف الإقليمية، إذ لا تبدو القاهرة ومؤتمر أصدقاء السودان الَّذي عُقد في الرياض في 18 كانون الثاني/يناير الماضي بعيدين عنها.
وتتمحور هذه الصفقة السياسية، إن جاز التعبير، على إنهاء مفاعيل الانقلاب وضمان وصول سلطة لا تقصي شخصيات عسكرية محددة. وفي هذه الأثناء، تعمل "إسرائيل" على استقطاب أطراف مدنية إلى دائرة الثنائيات.
تدعم الولايات المتحدة، بحسب المصادر، هذا التوجه. ويبرر ذلك التجاهل الأميركي لدور الأمم المتحدة، إذ تضمن هذه الصيغة للولايات المتحدة الحفاظ على مصالحها، كما تنهي حالة الضغوط الداخلية على إدارة بايدن من قبل الكونغرس، الذي يدفع باتجاه فرض عقوبات على "معرقلي الديمقراطية" في السودان.
كل هذه الجهود تبقى معلقةً على رد فعل الشارع السوداني، الذي نجح حتى الآن في الحفاظ على سيل من الحركة في مواجهة العسكر، في الوقت الذي تتعمق الأزمة الاقتصادية مع الارتفاع المتتالي لكل أسعار البضائع وزيادات خدمات التعليم والصحة والنقل.
ختاماً، تجدر الإشارة إلى ملاحظتين مهمتين؛ تتعلّق الأولى بقول البرهان إن تسليم السلطة سيكون لحكومة منتخبة وانتخابات نزيهة، بالتوازي مع تكرر الحديث على لسان حميدتي عن أن الانتخابات هي الحل الحاسم للأزمة، الأمر الذي يفتح الباب للسؤال عمن سيحكم على نزاهة هذه الانتخابات.
أما الملاحظة الثانية، فهي أنَّ اعتراف البرهان بطبيعة العلاقة الأمنية العسكرية مع "إسرائيل"، جاء متزامناً، وفي مصادفة مريبة، مع الدعوة التي أطلقها أبو حذيفة السوداني، أحد قيادات تنظيم "حراس الدين" في سوريا، لتفعيل العمل في السودان واستغلال الأوضاع الأمنية والسياسية الهشّة في بناء بنية تحتية للقاعدة، ما يشي بإمكانية تصعيد مشهد الإرهاب، وهو ما يخدم الأجندة الإسرائيلية في السودان.