عمر المختار.. "شيخ المجاهدين" الذي أصبح رمزاً للنضال الوطني
قاد الثائر عمر المختار المقاومة في بلاده على مدى عقدين ونيف من الزمان، بإرادة صلبة، ولم تفتر له عزيمة ولم تلن له قناة وهو يواجه المحتل الفاشي الغاشم.
منطقتنا تزخر بنماذج مشرقة وملهمة في مقاومة الاستعمار وتثوير الجماهير لمواجهة الاحتلال والظلم والبغي، وفي طليعة هؤلاء يأتي الشهيد المناضل عمر المختار (1858-1931 م) الذي تحلّ هذه الأيام الذكرى الثانية والتسعون لاستشهاده على أيدي الفاشيين الإيطاليين.
إن المناضل عمر المختار تاريخ ممتد من النضال ضد الاستعمار بكل تنويعاته، فقد قاد المواجهة ضد القوات البريطانية على الحدود المصرية -الليبية، في مناطق البردية والسلوم ومساعد، وخاض معركة السلوم عام 1908، كما شارك في القتال الذي نشب بين الحركة السنوسية والقوات الفرنسية في المناطق الجنوبية في السودان، كذلك قاتل قوات الاستعمار الفرنسي في تشاد عام 1900.
وبعد عشرة أعوام على الغزو الإيطالي الإجرامي لليبيا، مستخدماً كل وسائل القمع والإبادة ضد الليبيين، ظنوا أن الأمر سيستتبّ لهم، فإذا بهم يفاجأون بأن مشعل الجهاد ما زال مرفوعاً في شرق البلاد، وفي الجبل الأخضر بالذات، حيث قاد "شيخ المجاهدين" عمر المختار، حرب تحرير ضدهم في تلك المناطق، مدركاً كما قال أثناء التحقيق معه، إنه يخوض حرباً غير متكافئة، وجاء ذلك في رده على سؤال ما إذا كان يظن أنه ببضعة جياد وبضع بنادق سيهزم جيش الإمبراطورية الإيطالية، فأجاب بأنها حسابات لا تعنيه، ما يعنيه أن واجبه يحتِّم عليه أن يحارب مـن يأتي لاحتلال بلاده.
واستطاع بعصبة من المقاتلين المؤمنين بالوطن، وبتموين من السويق، وبسلاح هو الجواد والبندقية، أن ينزل الضربات الموجعة بالمستعمرين، ولم تهِن عزيمته ولا عزيمة رفاقه، ولم يدخل القنوت قلوبهم، من هذا العدو الشرس المسلح بالعتاد الحديث.
وكانت برقة بكامل جغرافيتها ساحة لمواجهة الفاشية الإيطالية، حيث كانت وديان تلك المنطقة ميدان معركته، وأهل درنة المنكوبة ما زالوا يذكرون بكل الفخر أن المناضل عمر المختار جاب بلدتهم والبلاد المجاورة محرضاً ومقاتلاً.
ظلَّ عمر المختار في موقع قيادة القتال ضد القوات الفاشية الإيطالية بكامل ولاية برقة حتى وصول أحمد الشريف السنوسي إلى درنة في شهر أيار/ مايو من عام 1913 والذي تسلم القيادة وظلَّ عمر المختار معاوناً.
قاد الثائر عمر المختار المقاومة في بلاده على مدى عقدين ونيف من الزمان، بإرادة صلبة، ولم تفتر له عزيمة ولم تلن له قناة وهو يواجه المحتل الفاشي الغاشم، وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1930 وبعد معركة ضارية بين القوات الإيطالية والمجاهدين الليبيين، عثرت القوات الإيطالية على النظارة الطبية الخاصة بالقائد عمر المختار كما عثروا على جواده مجندلاً في ميدان المعركة، حينها أيقنت قوات الاحتلال أن عمر المختار ما زال على قيد الحياة.
وبعد معركة ضارية جرت وقائعها في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 1931 بالقرب من مدينة البيضاء شرقي ليبيا قُتل خلالها جواد المختار وتحطمت نظارته، وحينما طالبه قادة القوات الفاشية الإيطالية بالاستسلام والكف عن مقاومتهم، قال جملته المأثورة: "نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت"، وعقب ثلاثة أيام من اعتقاله في الرابع عشر من أيلول/ سبتمبر، وصل القائد الإيطالي غراتسياني إلى بنغازي، وأعلن على عجل انعقاد المحكمة الخاصة الصورية في الخامس عشر من أيلول/ سبتمبر، وفي الخامسة مساء اليوم ذاته قضت المحكمة بإعدامه شنقاً..
في صباح اليوم التالي للمحاكمة أي في 16 أيلول/سبتمبر 1931، اتُّخذت جميع التدابير اللازمة في مركز سلوق (جنوبي بنغازي) لتنفيذ الحكم بإحضار جميع أقسام الجيش والميليشيا والطيران، و20 ألفاً من الأهالي وجميع المعتقلين السياسيين الليبيين خصوصاً من أماكن مختلفة لمشاهدة تنفيذ الحكم بحق قائدهم.
في تمام التاسعة صباحاً، تم إحضار القائد المجاهد عمر المختار الشيخ السبعيني مكبّل اليدين، وتوجه إلى منصة الإعدام وهو ينطق الشهادتين، وصعد إلى حبل المشنقة لا يهاب موتاً ولا يستجدي أحداً، ومضى شهيداً، ومثلت قوة إرادته وصلابة موقفه وقوة حجته التي تجلت أثناء المحاكمة وقوداً للثورة، التي استمرت وازداد لهيبها بعد إعدامه الذي كان يهدف إلى إضعاف الروح المعنوية للثوار الليبيين، وانتهت الثورة بطرد المحتل الإيطالي من ليبيا عام 1951.
وأصبح "أسد الصحراء وشيخ المجاهدين"، أيقونة للنضال ضد الاحتلال في منطقتنا وملهماً للثوار، حتى إن الثوار والتواقين للحرية والمقاومين للاحتلال في البلدان التي تعاني الاضطهاد والاحتلال ما زالوا يرددون عباراته.
"نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت.. وهذه ليست النهاية… بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه… أمَّا أنا… فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي، لا حق لأمة في احتلال أمم أخرى، يمكنهم هزيمتنا إذا نجحوا في اختراق معنوياتنا، صاحب الحق يعلو وإن أسقطته منصة الإعدام.. آفة القوة استضعاف الخصم، يستطيع المدفع إسكات صوتي، ولكنه لا يستطيع إلغاء حقي، حين يقاتل المرء لكي يغتصب وينهب، قد يتوقف عن القتال إذا امتلأت جعبته، أو أُنهكت قواه، ولكنه حين يحارب من أجل وطنه يمضي في حربه إلى النهاية".
ولقد رثاه أمير الشعراء أحمد شوقي أبلغ الرثاء وخلده في قصيدة تليق بأيقونة النضال الليبي ونبراس المجاهدين نذكر منها:
إِفريقيا مَهدُ الأُسودِ وَلَحدُها ** ضَجَّت عَلَيكَ أَراجِلاً وَنِساءَ
وَالمُسلِمونَ عَلى اِختِلافِ دِيارِهِم ** لا يَملُكونَ مَعَ المُصابِ عَزاءَ
شَيخٌ تَمالَكَ سِنَّهُ لَم يَنفَجِر ** كَالطِفلِ مِن خَوفِ العِقابِ بُكاءَ
دَفَعوا إِلى الجَلّادِ أَغلَبَ ماجِداً ** يَأسو الجِراحَ وَيُعَتِقُ الأُسَراءَ.