عبد الفتاح البرهان والرهان على سياسة حافة الهاوية
اعتاد البرهان المناورة على صعد مختلفة، كما اعتاد انتهاج سياسة اللعب على حافة الهاوية، والانعطاف إلى الاتجاه الآخر في أصعب الأوقات، وهو أمر بالغ الخطورة، ليس على مستقبله السياسي فحسب، إنما على حاضر السودان ومستقبله أيضاً.
نشأ الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة في السودان، في بيئة يمكن أن تكون بجدارة مثالاً للبيئة السودانية من حيث السمات الثقافية والاجتماعية، فقد نشأ في قرية وفي محيط أسري تغلب عليه سمات التصوّف، ولكنّه لم يكن أسيراً لهذه البيئة، ولم يخرج عليها، إنما تحرك بين هوامشها يمنة ويُسرة، فهو طالب "الخلوي" (الكتاتيب) الذي التزم عندما كان طفلاً بمطلوبات الخلاوي التعليمية والقيمية.
وما إن بلغ مبلغ الشباب حتى ولج تلك المرحلة العمرية كغيره من بعض أبناء جيله، ولم يحبس نفسه في مناخ الأسرة بخلاويها، ليصبح حواراً في ضريح جده أو خليفة من خلفائه.
دخل إلى المدرسة، فكان مستواه الأكاديمي يؤهله لاستكمال مسيرته التعليمية في مؤسسات التعليم العالي، لكنّه فضّل حقل الجندية ومحبسها على سعة الحقل الأكاديمي وبراحات الحرية التي يوفرها. هكذا نشأ البرهان في طفولته وصباه وشبابه. يسعى للإمساك بعصا الحياة من أطرافها، ولا يقعده منطق الأشياء عن تلك المساعي.
حين مضى في السلك العسكري، لم يتخلَّ عما نشأ عليه من خصال، بل تمسّك بها، وأضاف إليها خصالاً قد تكون جديدة، وهي خصال الكتمان والحذر والمكر، وزاد سقف طموحاته وتطلعاته. وقد قادته تلك التطلعات وذلك الطموح إلى المشاركة في الانقلاب العسكري الذي قام به حزب البعث العربي الاشتراكي (جناح العراق) عام 1990، والذي فشل بعد ساعات قليلة من نجاحه في السيطرة على عدد من المواقع ذات الحساسية الاستراتيجية.
وقد أدى فشل هذا الانقلاب إلى تقديم قادته والمشاركين فيه إلى محكمة عسكرية حكمت بإعدام قادة الانقلاب، ونجا صاحبنا من مصير رفاقه في خلية البعث العسكرية التي كان جزءاً منها، لأنه لم يضع كلتا يديه في مشروع الانقلاب، إذ حمل سلاحه بيد واحدة، وأمسكت يده الأخرى بنظم المؤسسة العسكرية التي قضى فيها شبابه.
وحين تولى قيادة الجيش في نيسان/أبريل 2019، ولّى وجهه شطر اليسار المرتبط بشراكة مع بعض الدول الغربية والخليجية، وسلّمهم زمام الأمور، ومكَّنهم من الحكم والسلطة لنحو 3 سنوات من عمر المرحلة الانتقالية. وفي الوقت ذاته، ظلّت يمينه ممتدة لركائز المجتمع السوداني ومؤسساته المجتمعية من إدارة أهلية وطرق صوفية، وفي ذلك صورة من صور الإمساك بالشيء ونقيضه.
وحين عرف أنَّ شركاءه المدنيين الممثلين في مجلس الوزراء وحاضنته السياسية يسعون لتجاوزه عبر طرق باب التطبيع مع الكيان الصهيوني سبقهم في ذلك، وطار إلى يوغندا، والتقى رئيس وزراء الكيان. وحين زايدوا عليه في هذا البازار، وبادروا إلى إلغاء قانون مقاطعة "إسرائيل" لعام 1968، ثم وقعوا على اتفاقية التطبيع، وعدّلوا المناهج التعليمية لتواكب مشروع التطبيع، وضع شرطاً لاستكمال هذا المشروع وربطه بتلقي مبلغ 5 مليارات دولار تدفع قبل توقيع اتفاق يقضي بتبادل البعثات الدبلوماسية، فعطّل مسار شركائه المدنيين وانفرد بالإمساك بهذا الملف.
عام 2017، أوصت المؤسسة العسكرية القيادة السياسية للسودان بتعزيز العلاقات مع روسيا، ومنحها قاعدة عسكرية على البحر الأحمر، حيث المياه الدافئة، ومنحها فرصة للتمدد غرباً في دول غرب أفريقيا، لتكون على تماس مع الغرب في مناطق نفوذه التاريخي هناك، فكان ما أراده الجيش، إذ دخلت روسيا على دول غرب أفريقيا من دارفور، وتأجَّج الصراع الروسي الغربي في هذه المنطقة، وشرعت روسيا في إقامة قاعدة عسكرية على البحر الأحمر لتتكامل مع قاعدتها في الساحل السوري، ولتشرف على النشاط الدولي في البحر الأحمر، في وقت كانت العلاقات السودانية مع الدول الغربية في أسوأ مراحلها وحالاتها، فزاد وجود روسيا في غرب السودان وشرقه قلق الغرب وحفيظته.
وحين أمسك البرهان بالسلطة، جعل ملف العلاقات السودانية الروسية وملف القاعدة العسكرية الروسية على البحر الأحمر ورقة ضغط على الغرب، يُعليها ويخفضها كلما بعد الغرب عنه أو اقترب، فجمّد العمل في القاعدة العسكرية الروسية حين برزت إلى السطح مؤشرات إيجابية للتعاطي الغربي معه، وبخاصة في أواخر عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي دعاه إلى زيارة أميركا في نهاية حقبة حكمه، وغضّ طرفه عن القاعدة وعن حركة السفن الروسية إليها حين برزت مؤشرات سلبية، تمثلت بإيقاف خطوات الدعم المالي الدولي والغربي للسودان وتجميد خطوات إعفاء السودان من الديون، وحين بذلت مساعي لسن قوانين تحاصر المؤسسة العسكرية السودانية وتقيّد حركتها ومساراتها في المسرح الوطني.
وحين بلغ الحصار الغربي للسلطة في السودان مبلغاً مؤثراً، انفتح الأخير على روسيا، وبخاصة بعد حرب أوكرانيا التي وقفت فيها السلطة في السودان موقفاً أقرب ما يكون إلى الموقف الروسي، وسعى البرهان إلى استغلال ظروف الصراع الروسي الغربي لتحقيق مكاسب سياسية من طرفي الصراع.
وفي هذا السياق، دفع بملفات التعاون السوداني الروسي دفعة إلى الأمام، فعُقدت في موسكو في شهر آب/أغسطس الماضي اجتماعات اللجنة الوزارية المشتركة بين البلدين، وتم فيها الاتفاق على تطوير علاقات البلدين في المجالات كافة، وكان ملفّ التعاون في مجال التعدين هو أبرز مجالات التعاون، إذ ترأس وزير المعادن الجانب الوزاري في هذه الاجتماعات، وكان حضور وزارة المعادن كثيفاً ونوعياً، إذ شارك كبار مسؤولي وزارة التعدين ضمن الوفد السوداني، وشاركت الهيئة العامة للجيولوجيا وشركة المعادن السودانية، وكلاهما معنيتان بملف التعدين عامة، وبملف تعدين واستخراج الذهب بصورة خاصة. وبعد أسبوع من اجتماعات اللجنة الوزارية المشتركة، عُقدت اجتماعات اللجنة السياسية المشتركة برئاسة وكيلي وزارة الخارجية في البلدين.
أبدت الولايات المتحدة الأميركية قلقها من سياسات السلطة في السودان، ومن توجهاتها الجديدة التي يبدو كأنها تؤسس لانعطافة كبيرة في سياسة السودان في هذه المرحلة، فبادرت إلى إخفاء العصا ومدّ الجزرة، وسارعت إلى فتح الجسور مع السلطة من خلال دعوتها وزير الداخلية إلى المشاركة في مؤتمر أمني تنظمه الإدارة الأميركية، في سابقة لم تشهدها العلاقات بين البلدين خلال 3 عقود خلت، كما سارعت إلى إرسال سفير أميركي إلى السودان بعد غياب دام 25 عاماً. وقد قدم السفير مطلع هذا الشهر أوراق اعتماده إلى البرهان الّذي استقبله على غير قواعد البروتوكول بالبزة العسكرية.
وقد رأى بعض المحللين في خطوات الإدارة الأميركية تجاوزاً لخطابها وموقفها القديم الداعم لشركاء البرهان (تحالف الحرية والتغيير) في سنوات الفترة الانتقالية قبل 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، كما رأوا أنها قفزت على مواقفها وتشريعاتها التي سنتها، وسعت لانتهاج سياسة جديدة تسترد عبرها نفوذها ومكانتها في المشهد السوداني، في ظل المتغيرات التي طرأت على السياسة الخارجية السودانية، والمتغيرات على المسرحين الإقليمي والدولي.
اعتاد البرهان منذ نشأته الأولى وطوال مراحل حياته المناورة على صُعُد مختلفة، كما اعتاد انتهاج سياسة اللعب على حافة الهاوية، والانعطاف إلى الاتجاه الآخر في أصعب الأوقات وأدقها، وهذا أمر بالغ الخطورة، ليس على مستقبله السياسي فحسب، إنما أيضاً على حاضر ومستقبل بلد ظلّ يمسك بقراره وحده، ويصنّع توجهاته ومساراته من دون سابق تجربة بالسياسة والحكم، ومن دون الاعتماد في ذلك على سند معرفي ينتج الأفكار ويصنع السياسات من خلال مواءمة بين المعرفة والخبرة والإبداع، الأمر الذي يضع السودان أمام مخاطر عظيمة يُخشى أن تؤثر سلباً في حاضره ومستقبله، كما أثرت في أوضاعه المعيشية والأمنية وأدخلته في نفق مظلم.