صراع في ليبيا ارتداداته قد تكون وخيمة على تونس
إقامة فتحي باشاغا نحو 3 أسابيع في تونس أحدثت أزمة صامتة بين الدولة التونسية والحكومة التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة في طرابلس.
نحو 3 أسابيع قضاها في تونس فتحي باشاغا، رئيس الحكومة المعلن عنها أحادياً في المنطقة الشرقية في ليبيا، وهي حكومة مدعومة من قبل البرلمان الذي يقوده عقيلة صالح. كانت هذه الإقامة منطلقاً لأزمة صامتة بين الدولة التونسية والحكومة التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة في طرابلس، المعترف بها دولياً.
إقامة باشاغا في أحد أفخم الفنادق في منطقة قمرت بالضاحية الشمالية في تونس حرّكت الكثير من المياه الراكدة في العلاقات التونسية-الليبية، حيث سارع رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة إلى دعوة السفير التونسي في طرابلس لسعد العجيلي إلى عقد لقاء رشحت عنه صورة كانت حمّالة أوجه.
جرى هذا اللقاء بحضور آمر جهاز مكافحة الإرهاب الليبي، الأمر الذي اعتبر خروجاً عن الأعراف الدبلوماسية، وكان الهدف منه توجيه رسالة استفزازية جديدة، أسالت الكثير من الحبر، وأثارت أيضاً الكثير من الجدل في تونس وفي ليبيا على حدّ سواء.
وعلى الرغم من محاولة حكومة الدبيبة نفي أن تكون طبيعة هذا اللقاء تحذيرية بشكل مهين للجمهورية التونسية، فإنّ مضمون الرسالة الموجّهة إلى تونس كان واضحاً لا لبس فيه.
بدا من الواضح أنّ الدبيبة كان منزعجاً من إقامة باشاغا في تونس، وقد أكد عدد من المصادر المقرّبة منه أنّه يرفض أن تكون الأراضي التونسية منطلقاً لمخطط سياسي أو عسكري ما يقوده رئيس الحكومة المنافسة غير المعترف بها دولياً، من أجل اقتحام طرابلس لاحقاً وإطاحته، سواء بالحلول السلمية أم الدموية.
المصادر نفسها تقول إنّ الدبيبة اعتبر أن سماح تونس لخصمه باشاغا بالإقامة على أراضيها لمدة طويلة، في كنف الحرية، هو قبول ضمني بالأنشطة "العدائية" التي يقوم بها، سواء من خلال عقد لقاءات مع سفراء أجانب لدى ليبيا يقيمون في تونس، أم من خلال الاجتماعات التي تمّت مع عدد من القيادات العسكرية والأمنية الليبية التي يوصف أصحابها بأنهم "أمراء الحرب" في المنطقة الغربية.
بشكل غير معلن كان جليّاً أنّ الدبيبة اعتبر نشاط باشاغا في تونس عبارة عن "مخطط انقلابي" يستهدفه شخصياً، ولهذا قام على عجل ببرمجة زيارة رسمية كان يفترض أن تمتد لفترة طويلة إلى تونس، على رأس وفد يضمّ وزراء وقيادات أمنية وعسكرية على أعلى مستوى. لكن المعلومات التي رشحت حول أسباب تأجيلها أو إلغائها أو ربما رفضها من قبل الرئيس التونسي قيس سعيّد تبدو شحيحة ومتضاربة إلى حدّ الآن، في ظلّ الصمت الرسمي في تونس.
وبغضِّ النظر عن الأسباب الثانويّة وراء عدم نجاح الدبيبة في مساعي التسريع بهذه الزيارة التي يراد من خلالها انتزاع اعتراف تونسي رسمي وعلني بشرعية حكومته كحكومة وحيدة ممثلة للشعب الليبي، فإنّ الدبلوماسية التونسية تجد نفسها اليوم على صفيح ساخن، ما يجعلها إزاء رمال متحرّكة تفترض التعامل بحنكة وبعقل بارد مع الارتدادات الخطيرة للأزمة الليبية عليها.
تمرّ تونس بوضع سياسي هشّ وصعب، ولا سيّما منذ تفعيل رئيس الجمهورية قيس سعيّد للفصل الـ 80 من الدستور وانفراده بالسلطة في تموز/ يوليو من السنة الماضية. وهي اليوم تغرق في حالة انقسام سياسي غير مسبوق، زادت من حدّته الضغوطات الخارجية والأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية الخانقة. هذا الوضع يجعل تونس في أمسّ الحاجة إلى علاقات جيّدة، ولا سيّما مع حكومة طرابلس، من أجل تواصل التنسيق الأمني بشكل طبيعي، علاوة على تجنّب أيّ قرارات تصعيدية قد تؤثّر سلباً على النشاط التجاري والاقتصادي البينيّ، ولا سيّما مع الجنوب التونسي الذي تعدّ أنشطته مع ليبيا شريان الحياة فيه.
في الوقت نفسه، يجد الرئيس التونسي قيس سعيّد نفسه بين فكّي كماشة وأجندات متناقضة لأهم حليفين له في المنطقة، وهما نظام تبون في الجزائر ونظام السيسي في مصر.
تسعى الجزائر جاهدة لدفع تونس إلى تبنّي موقف صريح وواضح داعم لحكومة الدبيية، على شاكلة ما قام به الرئيس عبد المجيد تبون، في حين أنّ مصر، على الرغم من استمرار تعاملها مع حكومة الدبيبة، فإنّها لعبت دوراً كبيراً في الكواليس في دعم مسار تشكيل حكومة باشاغا المدعومة من قبل حليفها في بنغازي المشير خليفة حفتر.
لا مراء في أنّ الدعم المصري لحكومة باشاغا والأطراف الليبيين المساندين له قد أثار حفيظة الجزائر التي تولي اهتماماً كبيراً لليبيا، والتي تبدو علاقاتها وثيقة مع حكومة الدبيبة منذ توليه سدّة الحكم. أبعد من ذلك، يذهب بعض المصادر الليبية إلى حدّ اعتبار أنّ إقامة باشاغا في تونس، خلال الفترة الماضية، بتلك الشاكلة المريحة، رغم الضرر الذي تسبّبت فيه على صعيد علاقة قرطاج بحكومة الدبيبة، جرت بغطاء مصري في إطار ترضية حليف استراتيجي للرئيس التونسي في المنطقة، وهو مصر التي عبّرت عن دعم صريح له في المسار السياسي الذي انتهجه بعد تجميد البرلمان ثمّ حلّه وتحجيم دور الإسلاميين في العملية السياسية.
في هذا المنحى، تكاد تتحوّل تونس تدريجياً إلى مسرح للصراع الدائر بين حكومتي الدبيية وباشاغا في ليبيا، والجزائر ومصر في منطقة شمال أفريقيا. أزمة يبدو أنّ ارتداداتها لن تقف عند حدود الفترة التي أقام فيها باشاغا في تونس، والتي لم يقم فيها بأي اتصالات رسميّة معلنة مع مسؤولين في الدولة التونسية.
باشاغا الذي يريد بدوره تجنّب المزيد من الإحراج للدولة التونسية، إذ غادر إلى بلاده بعد أن حظي بحماية أمنية على أراضيها، وبعدما فشلت لقاءاته في تونس في تغيير موازين القوى وطبيعة التحالفات الميدانية والعسكرية في ليبيا لصالحه، تقول مصادر مقرّبة منه إنّه يعوّل على علاقات جيّدة مع تونس ورئيسها قيس سعيّد الذي لا يرتاح كثيراً إلى عبد الحميد الدبيبة، ولا سيّما بسبب استهدافه للدولة التونسية في أكثر من مرّة بتصريحات وهجمات مجانية، اتَّهم فيها جارته بأنّها مصدر للإرهاب ومجاميعه المتمركزة في ليبيا.
هناك معطى آخر من المهم عدم تجاوزه ويتعلق بأحد أخطر الملفات العالقة بين تونس وليبيا منذ سنوات، والذي سبق أن طرحه الدبيبة علناً وبشكل رسمي خلال زيارة رئيس الحكومة المقالة هشام المشيشي إلى ليبيا في السنة الماضية. هنا نتحدث عن ملف الأموال الليبية المجمّدة في تونس، والتي يتعلق بعضها بقرارات أممية ودولية منذ سنة 2011، والبعض الآخر يتعلق بعمليات تجميد قام بها البنك المركزي التونسي بناءً على أذونات قضائية محليّة.
يتعلق الأمر هنا بملايين الدولارات التي طالب الدبيبة تونس بتسليمها إلى ليبيا. بعض هذه الأموال تعود ملكيّته للدولة الليبية في عهد نظام القذافي، والبعض الآخر منها يتعلّق برجال أعمال وشركات ليبية وتحويلات مالية مشبوهة قد تكون لها علاقة بعمليات تهريب وتبييض أموال، فضلاً عن شبهات تمويل أنشطة إرهابية. الدبيبة هو الآخر مشمول بهذا الملف، حيث إنّ له أموالاً مجمّدة في تونس بصفته رجل أعمال قبل أن يتولى رئاسة الحكومة.
لأجل هذا المعطى وغيره من الأسباب الأخرى، يبدو أنّ الرئيس سعيّد لا يرى أنّ التوقيت الحاليّ مناسب لاستقبال الدبيبة. فتونس تتعلّل بأنَّ ملف الأموال المجمّدة هو شأن قضائي لا يمكن التدخل فيه سياسياً. كما أنّ مصادر مقرّبة من الرئيس التونسي تقول إنّ الوضع الحالي في تونس، المتعلق بحالة الطوارئ، لا يسمح باستقبال الدبيبة في هذا التوقيت بالذات.
في المحصّلة، يمكن القول إنّ الدولة التونسية تجنّبت إلى حدّ الآن الانزلاق في مصيدة الاصطفاف والخروج عن الموقف الرسمي التقليدي الذي يتماشى مع الشرعية الدولية، من دون أن تدخل في عداوة مع الطرف الثاني في الصراع الليبي، وهو حكومة باشاغا. لكن لا نعرف حقيقة إلى أيّ حدّ يمكن أن يصمد الرئيس التونسي قيس سعيّد تجاه الضغوط الجزائرية والإغراءات المصرية ومحاولة جرّه إلى اتخاذ موقف أكثر وضوحاً وصراحة وقطعية تجاه ما يجري في ليبيا.
إنّ لمن المهم أن تستعدّ تونس لمختلف السيناريوهات في ليبيا. فعلى الرغم من رفضها للحلول العسكرية ودعوتها إلى أن يكون الحلّ للأزمة ليبيّاً-ليبيّاً، فإنّ شبح الاقتتال قد يطغى مجدّداً على المشهد الليبي. كانت وما زالت وستبقى ليبيا هي العمق الاستراتيجي لتونس في المنطقة، ولهذا على الرئيس التونسي أن لا ينغمس كليّاً في الأزمة الداخلية التونسية، من دون مراعاة ضرورة الاهتمام بالملف الليبي الذي قد تكون له تبعات أخطر على الوضع العام في تونس، والذي قد ينعكس على منظومة حكم قيس سعيّد ذاته بالنظر إلى حساسية الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية بشكل خاص، في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بالأزمة المستعرة بين روسيا وأوكرانيا.