سوريا وتركيا.. استحقاقات ما بعد الانتخابات
على الرغم من المشتركات والتقاطعات الكثيرة بين سوريا وتركيا إلا أن ذلك لا ينفي التهديدات المحتملة، بعدما انتهت الانتخابات باستمرار الرئيس إردوغان من دون أن يقدم ضمانات مكتوبة لسوريا بالانسحاب من المناطق التي احتلها الجيش التركي في الشمال السوري.
انتهت الانتخابات الرئاسية التركية التي شغلت السوريين على مدى أكثر من عام، وشغلت أيضاً أصحاب القرار السياسي الإقليمي والدولي في رهانات الصراع القطبي الدائر، ما وضع كلاً من سوريا وتركيا أمام استحقاقات الأعوام الخمسة المقبلة التي تشكل جملة من التهديدات والفرص لكلا البلدين، فماذا سيختاران؟
لم يتم تحديد السنوات الخمس المقبلة عن عبث، فالبلدان يتقاطعان في جملة المشتركات، فكلاهما نظام رئاسي مع صلاحيات شبه مطلقة، إضافةً إلى أنَّ رئيسي البلدين، وفقاً لدستوريهما، من المفترض أن تكون فترتهما الرئاسية الحالية الأخيرة.
وقد خاضا مرحلتين مختلفتين متناقضتين من العلاقة؛ تميزت الأولى وحتى منتصف آذار/مارس 2011 بالتوافق الشديد والعلاقات المفتوحة التي أثبتت أنَّ السوريين والأتراك قادرون على تجاوز نتائج انهيار الإمبراطورية العثمانية على يد القوى الغربية، فيما تميزت الأخرى بالعداء الشديد، بعدما انقلب الرئيس إردوغان على الرئيس الأسد، وساهم بشكل كبير في الحرب السورية، ولكن ذلك لا ينفي إمكانية أن يكون هناك وجه ثالث للعلاقة بينهما.
التقاطع الثاني بين البلدين هو الانقسام السياسي العمودي في المجتمعين، فعلى الرغم من فوز الرئيس إردوغان في الانتخابات الرئاسية، فإنَّ ذلك لم يستطع إخفاء وجود كتلة كبيرة شبه موازنة لكتلته تختلف معه على أساسيات الدولة التركية، سواء في ما يتعلق بالهوية الثقافية والاجتماعية والدينية، أو الهوية السياسية للنظام السياسي التركي، أو التموضع الجيوسياسي بين الغرب من جهة، والقوى الآسيوية الصاعدة من جهة أُخرى، وهذا الأمر ليس بعيداً من السوريين الذين انقسموا على أنفسهم حول كلّ شيء، ولكن بشكل مدمّر أكثر من أيِّ مكان في العالم.
التقاطع الثالث بينهما يرتبط بوضعية اقتصاد البلدين، فكلاهما يعاني وضعاً اقتصادياً مأزوماً، وإن كان لا يمكن المقارنة بينهما، مع أفضلية لتركيا التي لم تتعرّض للتدمير، ولا يمكن أن تقارن بما تعرضت له سوريا من حرب مركبة ومعقدة ساهمت فيها تركيا نفسها بشكل أكبر من بقية الدول.
التقاطع الرابع هو خيارات البلدين الجيوسياسية التي تحددت من الناحية الموضوعية، وإن كان بشكل متباين، فسوريا أخذت تموضعها بشكل نهائي مع كل روسيا والصين وإيران. وقد أضافت إلى ذلك كلاً من السعودية والإمارات، اللتين وقفتا مع الصين وروسيا وتركيا، وضمَّت إليهما أخيراً إيران وسوريا، والأمر لا يختلف مع تركيا إردوغان، وإن كانت لا تزال تحاول إيجاد التوازن كجسر بين الشرق والغرب.
وعلى الرغم من هذه التقاطعات الأساسية الأربعة، عدا عن الحدود الأطول بين البلدين، ومياه نهري الفرات ودجلة، والتداخل السكاني الكبير بينهما، والمشتركات التاريخية والحضارية، التي يمكن أن تؤدي كلها دور الفرص التي يمكن البناء عليها، فإن ذلك لا ينفي التهديدات المحتملة، بعدما انتهت الانتخابات باستمرار الرئيس إردوغان من دون أن يقدم ضمانات مكتوبة لسوريا بالانسحاب من المناطق التي احتلها الجيش التركي في الشمال السوري.
وعلى الرغم من تسلح الرئيس الأسد بأوراق قوة جديدة، بعد حضوره مؤتمر القمة العربية الأخيرة في جدة التي يمكن أن تحقق لسوريا توازناً نسبياً مع تركيا للدفع بها إلى الخروج من الأراضي التي احتلتها، فإن الرئيس إردوغان نجح في الانتخابات البرلمانية والرئاسية من دون الاستعانة بلقاء الرئيس الأسد لتحييد مسألة اللاجئين السوريين في تركيا التي استخدمت في التجاذبات الانتخابية كعنصر فصل في تحديد مسار مستقبل السياسة التركية.
وفي تحدٍّ واضح لاستبعاد مسألة اللاجئين عن التأثير في مستقبله السياسي، بادرت أنقرة إلى الإعلان قبل أيام من الانتخابات عن مشروع بناء مدينة جديدة في المناطق التي تعتبرها ضمن الميثاق الملي، ليرسل من خلالها الرئيس إردوغان مجموعة من الرسائل إلى الداخل التركي، وإلى من يعتبرهم حلفاءه في الإقليم والعالم، وخصوصاً روسيا وإيران، إضافةً إليها، كمؤشر ضغط على دمشق.
على الرغم من كل الضمانات الشفوية التي أعطاها الرئيس إردوغان للرئيس الروسي بوتين، والتي تتضمن وعوداً بوضع جدول زمني للانسحاب من سوريا، فإن ذلك من الصعوبة بمكان أن يتحقق، فهو ينظر إلى نفسه بأنه صاحب حق في دور سياسي في سوريا يتناسب مع ما يملكه من نفوذ وتأثير في طيف واسع من السوريين، سواء كانوا لاجئين في تركيا، وقد تجاوز عددهم 3.6 مليون سوري، أم من السوريين في خارج مناطق سيطرة دمشق، في إدلب وجرابلس وعفرين، وفي المناطق الممتدة بين تل أبيض ورأس العين، وهؤلاء يتجاوزون 4.6 مليون سوري.
الأمر الثاني الذي يدفعه إلى التراجع أو المماطلة هو تحديده أولويات مختلفة عن أولويات دمشق، فهو يريد التخلص أولاً مما يعتبره إرهاباً، للقضاء على تجربة الإدارة الذاتية للكرد في منطقة الجزيرة السورية، بعدما قضى عليها في عفرين باحتلالها.
وقد يرتفع مستوى الإصرار على ذلك، انتقاماً من حزب الشعوب الديمقراطي الذي وقف مع كمال كليجدار أوغلو في الانتخابات الرئاسية، وهذا الأمر يختلف عن رؤية دمشق التي ترى أولويتها في شمال غربي سوريا، وخصوصاً المجموعات الإسلامية في إدلب وريف حلب الشمالي، فيما تنظر إلى الجزيرة السورية كأولوية اقتصادية، وتريد استرداد السيطرة عليها من دون قتال.
الأمر الثالث، وقد يكون الأقوى لديه، هو مطالبته لحلّ مشكلة اللاجئين في تركيا ولبنان والأردن بتنفيذ القرار الدولي 2254 الذي صاغته روسيا ووافقت عليه الصين والولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي، إضافةً إلى فرنسا وبريطانيا وبقية الدول الأعضاء، وهو في هذا الأمر لا يعتبر نفسه وحيداً بمطالبته، فقد وصلت غالبية الدول الفاعلة في الحرب السورية إلى النتيجة نفسها، فالكارثة السورية يجب أن تنتهي، وهي لن تنتهي إلا بإيجاد حل سياسي سوري، ويتسلّح إردوغان بموقف الدول العربية التي شبه أجمعت على تنفيذ هذا القرار ضمن مبدأ خطوة في مقابل خطوة، الذي وافقت عليه سوريا على لسان وزير الخارجية السوري فيصل المقداد.
قد نكون أمام مراحل صعبة، رغم الانفراج السياسي العربي، فالعامل التركي من الناحية الفعلية هو الأكثر تأثيراً في نوعية مستقبل الحياة السورية في المجالات كافة، والأمر يحتاج من دمشق وأنقرة مقاربة الواقع المعقد بينهما انطلاقاً من فرص المشتركات الأربعة الأساسية سابقة الذكر، ففي ذلك خروج للبلدين مما هما فيه، بما يتيح للجميع حياة رابحة، وهذا ما يأمله السوريون بشكل أساسي، فهل تتحقق آمالهم؟