سوريا في الجامعة العربية: المنافع الاقتصادية مؤجّلة مرحلياً
لا شكّ أن عودة سوريا إلى الجامعة العربية ستكون لها تبعات اقتصادية إيجابية ما، من قبيل استئناف الرحلات الجوية المتبادلة، رفع معدلات التبادل التجاري بنسبة معينة، التعاون الفني والعلمي، إمكانية العمل بنظام المقايضة التجارية، وغير ذلك.
قد لا تبدو أمنيات السوريين بعد استعادة دمشق لمقعدها في جامعة الدول العربية كبيرة، وذلك قياساً بما نتج عن الأزمة الطويلة من مشاكل وأوضاع شديدة التعقيد والتعمّق على مختلف المستويات الإنسانية، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية، وقياساً كذلك بالحالة العربية العاجزة والمتأثرة بمواقف القوى العالمية الكبرى، وليس أدلّ على ذلك من العقوبات الغربية المفروضة على سوريا منذ العام 2011، والتي لم يجرؤ أحد من الدول على خرقها.
لكنّ تلك الأمنيات على تواضعها لا تمنع من سؤال البعض في الشارع السوري عن أثر تلك العودة على تطورات الشأن الاقتصادي الداخلي، وما إذا كان الوضع المعيشي في البلاد سوف يشهد تحسّناً أياً كانت نسبته. وهناك من يذهب أبعد ويسأل: هل ستتمّ مساعدة الحكومة على ضبط سعر الصرف؟ هل ستفتح الحدود أمام الصادرات والمستوردات السورية؟
هذه الأسئلة وغيرها هي أكثر ما يجري تداوله في جلسات نقاش السوريين حول الأخبار الأخيرة المتعلّقة باستعادة بلادهم لمقعدها في الجامعة العربية، والإجابات غالباً ما تتركّز على تقييم أمرين: الأول فرص إمكانية تأسيس تعاون اقتصادي بين سوريا ودول عربية في بعض المجالات الضرورية. والأمر الثاني يتعلّق بالمساعدات الاقتصادية التي يمكن أن تحصل عليها البلاد، والتي باستطاعتها أن تحدث أثراً مباشراً في حياة المواطنين.
وإذا أردنا أن نجيب على أسئلة السوريين من وجهة نظر خاصة، وبناء على ما هو متاح من معلومات وبيانات واستنتاجات، فإنه يمكننا أن نقسّم الإجابة إلى شقّين اثنين: الأول يتركّز على ما ورد في البيانين الصادرين عن اجتماعي جدة وعمان، وقرار وزراء خارجية الدول العربية القاضي باستئناف مشاركة وفود سوريا في اجتماعات مجلس الجامعة والمنظمات والأجهزة التابعة لها. والثاني يتمثل في الفرص التي يمكن أن تتمخّض عن حضور اجتماعات الجامعة بمختلف مؤسساتها وأجهزتها، وتداعيات ذلك الحضور على العلاقات الثنائية بين سوريا والدول العربية.
الملف الإنساني
في الشق الأول، وبالعودة إلى مضامين بياني جدة وعمان وقرار وزراء الخارجية العرب، فإنه يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
-خلو البيانين والقرار المذكور من أي إشارة مباشرة إلى إمكانية تقديم دعم اقتصادي عربي لدمشق، وبما يساعدها على مواجهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها. وقد يكون عدم ذكر ذلك تعمّداً مقصوداً تحاشياً للدخول في خلافات مبكرة مع الولايات المتحدة الأميركية، والعقوبات المشدّدة التي تفرضها على سوريا، والتي لم تخفّ حدتها رغم كارثتي فيروس كوفيد 19 وزلزال شباط/فبراير الماضي. وربما أيضاً هذا الدعم قد يكون حاضراً في مرحلة لاحقة مع تقدّم عملية ما تمّ الاتفاق عليه مع الحكومة السورية.
-التركيز على البعد الإنساني في معالجة تبعات الأزمة السورية، وهو ما يعني أن ما قد يقدّم من مساعدات اقتصادية عربية سوف يدرج في إطار المساعدات الإنسانية الإغاثية غير المتعارضة مع العقوبات الأميركية والغربية. وما يؤكد ذلك حرص بيان عمان على التنسيق مع مؤسسات الأمم المتحدة وهيئاتها سواء في مشروعات التعافي المبكر التي ذكرت صراحة أو أثناء تأكيد ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق السورية.
-كان واضحاً أن معالجة ملف اللاجئين وضمان عودتهم الآمنة والطوعية إلى سوريا هو أولوية، ولذلك فإن بيان عمان طلب في إحدى توصياته الـ 15 من دمشق التنسيق مع هيئات الأمم المتحدة ذات العلاقة لتحديد "الاحتياجات اللازمة لتحسين الخدمات العامة المقدّمة في مناطق عودة اللاجئين للنظر في توفير مساهمات عربية ودولية فيها....". وهذا يؤكد ما جاء في البند السابق ذكره.
وعلى ذلك، فإنه يستدلّ أن الأولوية العربية اليوم تكمن في معالجة التبعات الإنسانية للأزمة السورية من خلال التعاون والتنسيق مع هيئات الأمم المتحدة وأجهزتها ذات العلاقة عبر ملفين: البعد الإغاثي وإيصال المساعدات للجميع، والثاني تأمين الظروف المناسبة لعودة اللاجئين والنازحين. أي أننا سنكون في حالة دعم مشابهة لتلك التي حدثت في أعقاب حدوث الزلزال الأخير.
ومع ذلك، فإنه يمكن القول: إن العبارات العامة المستخدمة لا تلغي في المقابل إمكانية تقديم ذلك الدعم بالنظر إلى أن الظروف الإنسانية الصعبة لا تعيشها شريحة أو فئة من السوريين، وإنما هي تبدو عامة، ولا سيما مع تدهور الأوضاع الاقتصادية بشكل متسارع منذ العام 2020. كما أن جميع التفاهمات غالباً ما تتضمن بنوداً غير معلنة أو غير محسومة، وظهورها للعلن مرتبط بمدى قدرة الأطراف على عكس تلك التفاهمات بما يريح جميع الأطراف.
ليست إنقاذية
في الشقّ الثاني تبدو الأمور أكثر رحابة بالنقاش، فالمشاركة السورية في اجتماعات مجلس الجامعة العربية ومنظماتها وأجهزتها المختلفة تعطي دمشق الحق في الاستفادة من بعض البرامج والمشروعات العربية، كالحصول على المساعدات والمنح المالية والفنية والتقنية، إنما هذا قد لا يحدث في الوقت القريب لأسباب ترتبط أحياناً بالمشروعات والخطط الموضوعة من قبل مؤسسات الجامعة خلال فترة تعليق عضوية سوريا، وأحياناً أخرى قد ترتبط بالعوائق والصعوبات التي تضعها العقوبات الأميركية، ولا سيما لجهة التعاملات المصرفية والمالية وغيرها. مع ملاحظة أن هذه البرامج والمشروعات على أهميتها إلا أنها لن تكون "إنقاذية" في الحالة السورية هذا من جهة.
وأمّا من جهة أخرى، فإن عودة سوريا إلى الجامعة قد تشجّع بعض الدول على تطوير تعاونها الاقتصادي الثنائي مع دمشق، وهذا أيضاً دونه مصاعب عديدة أبرزها: العقوبات الأميركية وما يمكن أن يمارس على الدول العربية من ضغوط غربية للحيلولة دون توسيع دائرة الانفتاح العربي على دمشق، الوضع الاقتصادي العام السائد في سوريا وما يفرضه من أطر باتت محدودة اليوم. فمثلاً فيما يتعلق بالمبادلات التجارية فإن هناك خطة سورية لترشيد المستوردات، غايتها ضبط سعر الصرف وهي أشبه بعملية "شد الحزام".
كما أن الصادرات السورية لم تعد على تلك الحالة التي كانت عليها قبل الحرب، نتيجة لتراجع معدلات الإنتاج والدمار الذي لحق بالمنشآت الإنتاجية والخدمية، وتالياً فإن آفق توسيع المبادلات التجارية سيكون محكوماً بعدة عوامل تمت الإشارة إلى بعضها سابقاً. وحتى لو تمكّنت بعض الاستثمارات من الإفلات من العقوبات الأميركية فإنها ستكون في مواجهة عدة مشاكل مرتبطة بتداعيات الحرب الطويلة: من صعوبة توفير حوامل الطاقة، إلى التأمين المتعثّر والمكلف لمستلزمات الإنتاج، محدودية أسواق التسويق، وضعف القوة الشرائية في الأسواق المحلية.
وكما هو متوقّع فإن الحاجة إلى استئناف تمويل الصناديق العربية والإسلامية لبعض المشروعات التنموية تتصدّر أولويات الدعم الاقتصادي المطلوب سورياً، إذ تكشف البيانات الرسمية السورية مثلاً أن القيمة الإجمالية التقريبية للمشاريع المموّلة من الصناديق التمويلية العربية والإقليمية (المشاريع المنفّذة، قيد التنفيذ، والمطروحة للتمويل)، والتي تمّ تعليق العمل بها منذ بداية الأزمة، بلغت نحو 5608.359 مليون دولار أميركي.
منها ما يلي: قيمة القروض الجديدة الموقّعة مع الصندوق السعودي للتنمية 900 مليون ريال سعودي، قيمة القروض الممنوحة لسوريا وغير المخصصة لمشاريع أو أنشطة لغاية بداية الأزمة 330 مليون يورو. والسؤال هنا: هل ستعاود الصناديق العربية (الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، البنك الإسلامي للتنمية، الصندوق السعودي للتنمية، صندوق أبو ظبي للتنمية) منح الحكومة السورية قروضاً لتمويل تنفيذ بعض المشروعات التنموية؟
من غير المتوقّع أن تبادر قريباً الصناديق المذكورة إلى استئناف تنفيذ عقودها الموقّعة سابقاً مع سوريا، والخاصة بتمويل بعض المشروعات المعروضة والمتفق عليها، أو إلى الموافقة على طلبات تمويل جديدة، وذلك ريثما يتبلور مستقبل العلاقة بين دمشق والعواصم العربية، فإن سارت كما هو مأمول وحقّقت اختراقات هامة، فإن ذلك سوف ينعكس إيجاباً على مواقف تلك الصناديق من التعاون مع دمشق لتبقى العقوبات هي الهاجس الوحيد المثار دوماً.
لكن قد يكون هناك مخرج من هذه الدوامة، إذ ربما يتم التعامل مع تمويل بعض المشروعات التنموية السورية على أنه يأتي في إطار دعم خطة الاستجابة الإنسانية لتحسين ظروف الخدمات والبنى التحتية في البلاد، لتكون قادرة على استقبال اللاجئين والنازحين الداخليين. أو ربما يتم الحصول على استثناء أميركي للغاية نفسها والسابق ذكرها.
الذهاب بعيداً
لا شكّ أن عودة سوريا إلى الجامعة العربية ستكون لها تبعات اقتصادية إيجابية ما، من قبيل استئناف الرحلات الجوية المتبادلة، رفع معدلات التبادل التجاري بنسبة معينة، التعاون الفني والعلمي، إمكانية العمل بنظام المقايضة التجارية، وغير ذلك. لكن ماهية هذه التبعات وحدودها ستبقى متأثرة أولاً بالموقف الأميركي ومدى إصراره على الاستمرار بتنفيذ عقوباته على سوريا وقبوله بدعم المشروع العربي لحل الأزمة السورية.
والتصريحات الأخيرة الصادرة عن مسؤولين أميركيين تعقيباً على قرار إعادة سوريا إلى الجامعة العربية خير دليل على موقف واشنطن المتشدّد، والذي عزّزه الرئيس جو بايدن الثلاثاء الماضي بتمديده العمل بقانون "قيصر" لعام آخر.
وثانياً بمدى قدرة العرب، مجتمعين أو فرادى، على الذهاب بعيداً في الانفتاح الاقتصادي على سوريا ومساعدتها على الخروج من أزمتيها السياسية والاقتصادية معاً.