سوريا تنفجر في وجه الأميركي.. ماذا عن التوقيت السياسي؟
وجود الأميركي في شمال شرق سوريا يطول، عبر إجادة اللعب على إحياء "داعش" وأخواتها، مرة بعد أخرى، لتسويغ الاحتلال الأميركي لمنابع النفط السورية، وإدامة أزمة التصدع على الأرض السورية من إدلب حتى الحسكة.
سلسلة ضربات وغارات وقصف صاروخي ومسيّرات، أشعلت ليل الشرق السوري منذ الخميس، لتتصاعد ليلة الجمعة بشكل غير مسبوق، أسفرت عن قتلى وجرحى في القواعد الأميركية، وكذلك عن سبعة شهداء من حلفاء سوريا في دير الزور والبوكمال والميادين، وتركز القصف على القواعد الأميركية قرب الحسكة ودير الزور، وخاصة قواعد حقل العمر وكونيكو ومطار الشدادي.
دفع هذا القصف المكثف الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الدخول بنفسه على خط المواجهة، ليعلن أنه أعطى تعليماته بالرد السريع والعاجل ضد حلفاء إيران في سوريا، متهماً إياهم بأنهم قصفوا القواعد الأميركية بطائرات إيرانية مسيّرة، ولم ينسَ بايدن أن يؤكد حرص بلاده على تجنب الصراع مع إيران.
تزامن هذا التصعيد بين الأميركي وحلفاء سوريا مع هجمات شنتها "جبهة النصرة" ضد الجيش السوري في ريف حلب الغربي، وأخرى من خلايا "داعش" المبعثرة في البادية أسفرت عن استشهاد خمسة عشر من عمال جمع الكمأة، وفقدان أربعين آخرين، بعد يومين من غارة إسرائيلية على حلب.
عشرون قاعدة عسكرية أميركية تنتشر في شمال شرق سوريا، في مناطق النفوذ الكردي، تم تثبيتها منذ عام 2014، بزعم محاربة "داعش" من قبل التحالف الدولي، في وقت تم القضاء على "داعش" من قبل الجيش السوري وحلفائه في إيران ولبنان والعراق وروسيا عام 2018، فيما كان الأميركي ينفذ ضربات استعراضية، وهو ينشر اليأس باعتبار "داعش" حقيقة يصعب اجتثاثها قبل عشرين سنة قادمة.
طال وجود الأميركي في شمال شرق سوريا، عبر إجادة اللعب على إحياء "داعش" وأخواتها، مرة بعد أخرى، لتسويغ الاحتلال الأميركي لمنابع النفط السورية، وإدامة أزمة التصدع على الأرض السورية من إدلب حتى الحسكة.
استثمر الأميركي الورقة الكردية ليلعب بها مع التركي، باعتبارها تمثل هاجساً يقض مضاجع الأتراك في الجوار، ولكن قبل ذلك، حافظ الأميركي على إنعاش قوات "قسد" الكردية، وهي تبسط نفوذها على 20% من الأرض السورية، ليمرر مخططاته الأمنية ومؤامراته السياسية عبر الهلال الخصيب، وخاصة في إضعاف الدولة السورية ودورها الإقليمي في مواجهة الكيان الإسرائيلي.
حفلت الشهور الماضية بتطورات سياسية متصلة بالميدان السوري، وكان للزلزال الذي ضرب شمال سوريا وجنوب تركيا بعض الأثر، في تجاوز بعض العقد النفسية والالتزامات الدولية التي واكبت الحرب على سوريا، خاصة من قبل الدول العربية وعلى رأسها مصر والسعودية، في وقت قطع التركي شوطاً بعيداً في استعادة العلاقات الأمنية مع سوريا، وهو الذي طالما احتضن المسلحين الذين نشروا الخراب في أرضها، ولكنه اليوم يطالب ببسط الدولة السورية، نفوذها الأمني في نقاط التماس بين الدولتين، وشارك في اجتماعات رسمية مع سوريا، وهو يستجدي عقد لقاء قمة بين الطرفين.
جاء الاتفاق الإيراني-السعودي برعاية صينية، على استئناف العلاقة بين الدولتين، ليساهم في خلق أرضية تفتح العديد من الأبواب المغلقة في الإقليم، بعد التسليم السعودي بفشل كل رهاناته على الأميركي، في مواجهة محور المقاومة، ففي اليمن انفتح السعودي لأول مرة على تمرير صفقة تبادل أسرى هي الأولى من نوعها، مع حكومة صنعاء، ويبدو أن باب دمشق الذي لم يغلق في وجه عربيّ من قبل، قد دخله السعودي الآن متجاوزاً عشر سنوات من الحرب.
اتفاق الرياض مع دمشق على استئناف العلاقة، بعد أيام من اتفاقها مع طهران، مؤشر على سياسة سعودية جديدة، ليس بالضرورة أنها تدير ظهرها لواشنطن، رغم علاقتها الفاترة مع بايدن، ولكنها باتت أشبه بالتحرك وفق الإيقاع التركي إزاء الثقل الأميركي، فهي تدور في الفلك الأميركي، كما تركيا، ولكنهما انتقلتا مع سوريا من مربع العدوّ إلى التسليم بالفشل، وكل فشل يحمل تبعات في السياسة والميدان، فلا أقل من احتواء الخسارة من تصاعدها.
عارضت واشنطن الانفتاح السعودي كما التركي على سوريا، بزعم عدم شرعية الرئيس بشار الأسد، لهذا رفضت إنهاء عقوبات قيصر الأميركية ضد سوريا رغم الزلزال، لتكتفي بتعليق بعض البنود لأسباب إنسانية، وأصرّت على وجود قواعدها غير الشرعي في شمال شرق سوريا، فهل يأتي هذا الاستهداف المركز لهذه القواعد تبعاً للتطورات السياسية الراهنة؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه تصعيداً ميدانياً بسقف محدود، لا يتجاوز طابع الرسالة الساخنة؟ أو لعلّه رد إيراني سوري على الغارات الإسرائيلية الأخيرة على مطار حلب؟
سبق للقواعد الأميركية في سوريا أن تعرضت للقصف بشكل متواتر، بالطائرات المسيّرة والصواريخ، وعبر زرع عبوات ناسفة جانبية استهدفت المدرعات الأميركية، ولكن ذلك ظل منضبطاً بإطار وسقف منخفض، لم يوقع قتلى في الطرف الأميركي، ولم يشكل تهديداً وجودياً للأميركي، ويبدو أن ذلك كان مرتبطاً بالمحاذير الكثيرة للأزمة السورية، كما لخصوصية الورقة الكردية على المستوى الداخلي، أو تشظيها نحو تركيا، في وقت ما زال فيه التركي يلعب بورقة إدلب مع "جبهة النصرة"، وما تمثله من تحدٍ خطير، وجرح نازف في الكتف السورية.
قصف الخميس وما تبعه من قصف متبادل تجاوز مجرد الزعم الأميركي أن مردّ الخسائر الأميركية لتعطل نظام الدفاع الجوّي، والأصل أن يتساءل الأميركي عن سبب هذا التعطل وقد ترافق مع قصف الطائرات المسيّرة؟! في وقت استمر القصف عبر جولات عديدة اتسع نطاقها، وهو ما عدّته بعض دوائر صنع القرار في واشنطن أكثر من مجرد تصاعد ميداني للقتال، لما هو الأثر السياسي المتصاعد نحو استعادة دمشق ثقتها بنفسها، بما يسمح إقليمياً بتصعيد المواجهة مع واشنطن، وقد انحسرت خياراتها وتقلصت أوراق لعبها.
خروج التركي والمصري والسعودي من مربع المواجهة مع دمشق، وقرب عودتهم إلى حضنها مع تسليم بالفشل، وهي الدول الإقليمية الأساس في تسعير الملف السوري، يعني قدرة دمشق على النهوض مجدداً لإكمال مهمة استعادة وحدة أراضيها، وهي الوحدة التي أعلن فيها هؤلاء احترامهم التام لها، ولم يبق غير الأميركي رغم ثقله، ليرضخ لهذه المعادلة، وهو الذي لا يفهم غير لغة القوة.
لغة القوة التي يواصل من خلالها الإسرائيلي قصف مطارات سوريا، وكان آخرها مطار حلب، ربما هي من دفع سوريا وحلفاءها إلى الرد بقصف قواعد الأميركي بشكل ثقيل هذه المرّة، بل ومواصلة القصف حتى بعد دخول الطائرات الأميركية القادمة من قاعدة العديد في قطر سماء المعركة، وهو القصف الذي طال معظم هذه القواعد العشرين، ونشر فيها إصابات محققة غير مسبوقة، وأعاد تشكيل قواعد الاشتباك الميداني، بما يسمح أن تكون الضربة الأخيرة سورية بامتياز، وهو ما يبعث في ليل سوريا البارد بصيص دفء ليس فيه شرعية لعابر بلا إذن دخول.