روسيا في أفريقيا.. تمدّد في مساحات الأطلسي
يعدّ تطوير وترسيخ علاقات المنفعة المتبادلة مع الدول الأفريقية ضمن أولويات السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية.
تربط بين روسيا والدول الأفريقية علاقات صداقة تقليدية اجتازت امتحان الزمن، فقد لعب هذا البلد دوراً مهماً في تحرير القارة الأفريقية عبر دعمه لنضال شعوب أفريقيا ضد الاستعمار والعنصرية والتمييز العنصري، وفيما بعد قدّم دعماً للأفارقة في الدفاع عن استقلالهم وسيادتهم وتكوين البنيان المؤسّساتي للدولة، ووضع أسس الاقتصاد القومي، وتشكيل القوات المسلحة ذات القدرة القتالية، كما قام الخبراء السوفيات وبعدهم الروس بتشييد منشآت مهمة للبنى التحتية، بما فيها المحطات الكهرومائية والطرق والمصانع، وتلقّى آلاف الأفارقة تدريباً مهنياً عالي الجودة في المعاهد والجامعات الروسية.
العديد من الزعماء المعاصرين للبلدان الأفريقية يتذكرون ذلك جيداً ويقدّرون هذا الدعم. لا ننسى هذه الصفحات من هذا التاريخ، إذ يعتبر تطوير وترسيخ علاقات المنفعة المتبادلة مع الدول الأفريقية ضمن أولويات السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية. بهذا الحديث استقبل الرئيس فلاديمير بوتين أكثر من أربعين قائداً أفريقياً من رؤساء الدول والحكومات، لبّوا دعوته إلى المشاركة في القمة الروسية الأفريقية التي احتضنتها مدينة سوتشي الروسية في الـ24 من تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2019.
وقد ربط بوتين في حديثه هذا تاريخ العلاقات السوفياتية الأفريقية بحاضر ومستقبل علاقات القارة السمراء بروسيا، في ظل مناخ دولي وإقليمي يحتدم فيه الصراع ويشتد فيه التنافس في أفريقيا على مواردها الطبيعية وثرواتها وأسواقها وموقعها الجيوستراتيجي، ويعتبر كل ذلك من المزايا التفضيلية للقارة الأفريقية التي احتكرها الغرب وفرض احتكاره لها بالإكراه على مستعمراته طوال حقبة الاحتلال التي انقضت، وحقبة الاستقلال التي تحققت لدول هذه القارة، وحان الآن وقت استثمار ثرواتها هذه لصالح إنسان هذه القارة، ولتحقيق كرامته ورفاهه ومستقبله.
لقد أصبحت المزايا التفضيلية الكبرى لأفريقيا محلاً لتنافس وصراع دوليّين كبيرين، سعت الدول الأوروبية التي كان لها وجود استعماري في أفريقيا إلى أن تحافظ عليها كحق حصري – كما جاء في أعلاه – غير أن أميركا سعت منذ خمسينيات القرن الماضي لنيل حصة ونصيب من تلك المزايا، وفي الوقت ذاته دخل الاتحاد السوفياتي الذي سعى لاستثمار دعمه لحركات التحرر الوطني الأفريقية التي أنجزت الاستقلال، فبدأ التنافس بين هذه القوى الدولية جميعها على الأرض السمراء، وبدأ يصنع وقائع ونتائج حاضرة وشاخصة، ومن بين هذه النتائج رسوخ الوجود الأميركي في القارة على حساب الاتحاد السوفياتي في مراحل تفكّكه الأولى، وعلى حساب الدول الأوروبية على حدٍّ سواء، فكسبت أميركا وجوداً مهماً في معظم أنحاء القارة، وبشكل خاص في شرقيّها حيث النفوذ السوفياتي، ثم في وسطها حيث يغلب النفوذ البريطاني، ثم في غربيّها حيث يغلب النفوذ الفرنسي.
لم يصبح النفوذ الأميركي قدراً خالصاً في أفريقيا رغم مساعي أميركا الحثيثة وجهودها الكبيرة، فقد دخلت كل من الصين وروسيا إلى المسرح الأفريقي، وبذلت كل دولة منهما جهوداً مضنية وكبيرة من أجل الحصول على نصيب من مزايا أفريقيا و(عطاياها)، فأصبحت الأخيرة محط اهتمام الدولتين، فجعلتها الصين في مقدمة أولويات مشروعها الاستراتيجي المسمّى الطريق والحزام، وعكست القمم الصينية الأفريقية المكانة الاستراتيجية لأفريقيا في رؤية الصين المستقبلية. وقد يسّرت سياسة الصين القائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول مهمتها في الحصول على مواقع لها في مختلف أنحاء القارة، وعزّزت سياساتها الاقتصادية القائمة على الشراكة في المشروعات التنموية المختلفة هذا الوجود الذي سيتطور إلى نفوذ سياسي، مع تطور هذه الشراكات التي عالجت أزمات وخاطبت تحديات كانت تقف حجر عثرة أمام الدول والشعوب الأفريقية.
وعلى خط موازٍ للتمدّد الصيني في أفريقيا، نشطت روسيا في تعزيز وجودها في أفريقيا، في مسعى لاستعادة الوجود والنفوذ السوفيتيين القديمين، ولضمان نصيب من مزايا أفريقيا الاستثنائية، واستفادت من سلبيات السياسة الغربية في أفريقيا، ومن تاريخها الاستعماري، كما استفادت من تنامي حالة عدم القبول الأفريقي بالخطاب والمواقف الغربية تجاه أفريقيا، فبنت خطاباً وسياسات تناصر أفريقيا في قضاياها السياسية والاقتصادية المختلفة، وتؤكد أهمية المحافظة على سيادة الدول الأفريقية، وعدم إخضاعها بأدوات السياسة أو الاقتصاد، والنظر إلى أفريقيا بوصفها مسرحاً للشراكات التي تنعكس إيجاباً على تطلعات الدول والشعوب الأفريقية بما يسهم في تطورها وتقدمها، وتقديم قروض غير مشروطة بمواقف سياسية تتصل بأحوال الدول الداخلية وشؤونها، وقد مكّنها كل ذلك من تحقيق وجود فاعل يمكن إيجازه في ما يلي:
- عزّزت روسيا علاقاتها مع دول شمال أفريقيا، فطوّرت علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع مصر، كما بدأت بتعاون مشترك معها في مجال الطاقة النووية، وفي ليبيا أسّست قاعدتين عسكريتين في بنغازي وطبرق بالتعاون مع القائد العسكري خليفة حفتر، كما طورت علاقاتها الاقتصادية مع تونس، وبشكل خاص في مجالات السياحة، والحال كذلك مع الجزائر التي بلغت قيمة مشترياتها العسكرية من روسيا في عام 2016 نحو 4 مليارات دولار، علماً بأن منطقة شمالي أفريقيا لها أهمية كبيرة عند الروس لإطلالتها على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، ولمشاطأتها بعض دول الاتحاد الأوروبي التي هي جزء من حلف الأطلسي.
- في شرق أفريقيا تمكّنت روسيا من تطوير علاقاتها مع السودان الذي منحها قاعدة عسكرية على البحر الأحمر، توفّر لها بموقعها الاستراتيجي إطلالة على البحر الأحمر، كما توفّر لها إشرافاً على حركة الملاحة البحرية والجوية، وعلى حركة التجارة العالمية، وخاصة النفط، وربما الغاز مستقبلاً، والتأثير على مجمل هذه الحركة، كما تفتح لها أفقاً نحو الاستثمار في مجالات الطاقة والتعدين على الساحل السوداني، وبالتالي زيادة نفوذها في السودان بالقدر الذي يؤثر على النفوذ الأميركي وتطلعات أميركا في جعل السودان مركزاً للقيادة الأميركية في أفريقيا "أفريكوم". أما مع إثيوبيا فقد عمّقت روسيا تعاونها الدفاعي معها، وفي الـ12 من تموز/ يوليو 2021 تمّ التوقيع على اتفاقيات للتعاون العسكري بينهما، مثلما وقّعا مذكرة تفاهم تضمن مساهمة روسيا في مجال الطاقة النووية، وقد وقّعت روسيا مذكرة مماثلة مع كلّ من كينيا وزامبيا.
- أما في غرب أفريقيا، فقد عزّزت روسيا علاقاتها ووجودها في عدد من دول هذه المنطقة، حيث أصبح لها وجود وتأثير ونفوذ في دولة أفريقيا الوسطى، ودخلت عبر شركة فاغنر التي تعدّ النسخة الروسية من شركة بلاك ووتر الأميركية، دخلت في الصراع الداخلي الذي تفاقم في عام 2017 بين المعارضة والسلطة، وقد مكّنها تدخّلها ذلك - الذي اتّخذ طابعاً شبه عسكري - من لعب دور كبير في توحيد المعارضة في هذه الدولة، وتوفير التدريب لقواتها، كما مكّن فاغنر من الدخول في مجالات الاستثمار المختلفة، ولا سيّما في مجال الماس واليورانيوم، ولروسيا الآن في هذا البلد نفوذ وتأثير سياسي يصعب تجاوزه.
وفي دولة تشاد المجاورة لدولة أفريقيا الوسطى، بدأت روسيا مساعيها وجهودها الرامية إلى تعزيز دورها في هذه الدولة التي كانت شؤونها كما مواردها حقاً حصرياً وتاريخياً لفرنسا قبل أن تنافسها أميركا خلال العقدين الأخيرين، ويجيء دخول روسيا إلى المسرح التشادي منافساً للنفوذ الفرنسي والنفوذ الأميركي في آن واحد. ومن مظاهر الوجود والدور الروسيّين في تشاد العلاقة التي ربطت روسيا، عبر شركة فاغنر، بمنظومات المعارضة التشادية، الأمر الذي حمل وزير الخارجية التشادي على اتهام فاغنر بتدريب قتلة الرئيس إدريس ديبي.
وفي دولة مالي أسّست روسيا علاقات وثيقة في السنوات الأخيرة مع السلطات المالية، وعزّزت علاقات البلدين عبر توقيع اتفاقية تعاون في الدفاع عام 1994، وأعيدت مراجعتها عام 2019. وفي إطار تنفيذ هذه الاتفاقية، قامت روسيا بتدريب قادة الجيش المالي، وقدمت دعماً عسكرياً في إطار صفقة معدات عسكرية وقّعها الطرفان في كانون الأول/ ديسمبر، وقد تطوّر الموقف السياسي المالي من الوجود الغربي فيها، حيث قامت السلطات المالية بطرد السفير الفرنسي، وحظرت تحليق الطائرات العسكرية الألمانية في أجوائها، ثم طردت القوات الدنماركية من أراضيها، وهذه الإجراءات ليست ببعيدة عن مسار العلاقات الروسية المالية. يجيء كل ذلك في ظل تطور العلاقات الروسية المالية، الأمر الذي يشير إلى مدى قوة النفوذ الروسي في مالي بصفة خاصة، وفي غربي أفريقيا بصفة عامة، ويؤشر في الوقت ذاته على مدى تراجع النفوذ الغربي في هذه المنطقة.
- لم تكتفِ روسيا في أفريقيا بعلاقات مع الدول التي سبق ذكرها، بل أسّست علاقات مع دول أخرى تقوم على التعاون الأمني والاقتصادي، حيث تعمل في أنغولا جنوبي شرقي القارة الأفريقية لاستغلال النفط والمعادن الثمينة، مثل الألماس والذهب. وفي العام 2017-2018، وقَّعت روسيا اتفاقيات تعاون مع أكثر من تسع عشرة دولة أفريقية، منها على سبيل المثال لا الحصر (نيجيريا، وأنغولا، وغينيا الاستوائية، وبوركينا فاسو)، كما وقَّعت اتفاقات لاستخراج الغاز الصخري من موزمبيق، وبالتالي استطاعت أن تمدّ نفوذها وهيمنتها بقوة في وسط القارة الأفريقية وغربيّها، مثلما ضمنت لها موطئ قدم في شرقيها وشماليّها.
تنوّعت أشكال الوجود الروسي وأدواته في أفريقيا، بين الدبلوماسي والاقتصادي والثقافي والعسكري والأمني، حيث تنشط سفارات روسيا المنتشرة في معظم الدول الأفريقية، تساعدها المراكز الثقافية، وتساعدها أيضاً شركة فاغنر التي تعمل في المجال الأمني والعسكري والاقتصادي في عشر دول أفريقية، وشركة غازبروم، ولوكاويل، وروستك، وروساتوم، وتتركز أنشطة هذه الشركات بشكل كبير في مصر والجزائر وأوغندا ونيجيريا وأنغولا.
وفي عام 2018 وقّعت شركة روساتوم مذكرات واتفاقيات لتطوير الطاقة النووية مع 18 دولة أفريقية، من بينها مصر وإثيوبيا وكينيا ونيجيريا وزامبيا وغانا ورواند. وتعمل شركة روساتوم على بناء أربعة مفاعلات نووية من نوع "في روسا توم إي آر" في مصر.
وخلال العقدين الماضيين، بذلت روسيا جهوداً كبيرة مكّنتها من تحقيق وجود مقدّر جداً ومعتبر داخل أفريقيا، وقد توجّت قمة سوتشي هذه الجهود حين توافق القادة الروس والأفارقة خلال قمة سوتشي على أهداف التعاون بين دولهم، واعتمدوا أهدافاً لزيادة تطوير التعاون الروسي الأفريقي على الأصعدة كافة، السياسة، والأمنية، والاقتصادية، وعلى صُعد العلوم والتكنولوجيا، والثقافة. كما اعتمدوا إطاراً جديداً للحوار، تحدّد عبره عقد قمة بين الجانبين كل ثلاث سنوات، وعقد مشاورات سياسية سنوية بين وزراء الخارجية الروس والأفارقة، وقد شهدت هذه القمة توقيع عدد من الاتفاقيات والمذكرات والعقود، بلغت أكثر من 50 وثيقة.
ورغم النجاح النسبي الذي تحقق لروسيا في أفريقيا خلال هذين العقدين، والذي جعلها حاضرة ومؤثرة في أهم دول القارة الأفريقية من البحر الأحمر شرقاً إلى البحر الأبيض المتوسط شمالاً، حتى المحيط الأطلسي غرباً، ورغم ما حظيت به من فرص للتأثير والنفوذ السياسي، وفرص للاستثمار الاقتصادي في مجالات الطاقة والمعادن وغيرها، ورغم القدرة التي اكتسبتها للتأثير في العمليات العسكرية الجارية في بعض الدول الأفريقية وما نتج عنها من مكاسب تصبّ في مصلحة توجهاتها، إلا أن هذا النجاح النسبي الذي تحقق لها يضع أمامها تحدّياً كبيراً، وهو تحدّي المحافظة على هذه المكاسب وتطويرها وضمان استدامتها في ظروف إقليمية ودولية سريعة التغيّر وبالغة التعقيد.
ولعلّ الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا تُعقّد على روسيا أمر استجابتها لهذا التحدّي، بسبب انشغالها بهذه الحرب، وبسبب منافستها للغرب في مناطق نفوذه التاريخية، وعلى روسيا الانتباه إلى أن وجودها في أفريقيا بصفة عامة وفي غربيّها بصفة خاصة يضعها في حالة تماس مع حلف الأطلسي، في الساحل الشرقي للمحيط الذي منح اسمه لهذا الحلف، وهو تماس يمسّ عصب الأمن القومي لهذا الحلف.