حزب الله والكيان الإسرائيلي واختبار التفوق الاستراتيجي
ربط حزب الله بين جبهات محور المقاومة، وجعل قرار استمرار المعركة من عدمه قراراً فلسطينياً، بحيث إنه قال إن من يتخذ قرار الذهاب إلى وقف إطلاق نار هو الطرف الفلسطيني، انطلاقاً من أنه المُستهدَف الأول من العدوان الإسرائيلي والتواطؤ الدولي.
لم يعد من الممكن تعريف المواجهات المستعرة بين حزب الله والكيان الإسرائيلي عند طرفي الحدود على أنها مجرد جبهة إسناد للمقاومة في غزة، بحيث باتت تشكل لكلا الطرفين ساحة اختبار لاستراتيجيات ستؤثر حتماً في مرحلة ما بعد اليوم التالي للحرب في غزة.
فإذا كان الكيان الإسرائيلي راهن في بداية عدوانه على غزة على أن تبقى الجبهة في شمالي فلسطين المحتلة محدودة انطلاقاً من تقدير يفترض عدم رغبة حزب الله في الانزلاق إلى حرب شاملة في ظل تعقيدات الواقع اللبناني، سياسياً واقتصادياً، بالإضافة إلى التعويل على دور الولايات المتحدة التي تكفلت علناً، في بداية المعركة، ردعَ أطراف محور المقاومة ومنعهم من التأثير في فعّالية خطط "الجيش" في القطاع، فإن المسار التصعيدي الذي شهدته الجبهة عند الحدود الجنوبية للبنان أظهر أن الخطر، الذي يواجهه الكيان في تلك المنطقة، لا يقل أهمية عما تعرّض ويتعرّض له الكيان في قطاع غزة.
وعليه، يصبح من الضروري مقاربة الاستراتيجيات التي يعتمدها كل من الكيان الإسرائيلي من جهة، وحزب الله من جهة أخرى.
من خلال دراسة السلوك الإسرائيلي في جبهته الشمالية منذ الـ8 من أكتوبر، يمكن ملاحظة حجم التغيير الذي طرأ على قواعد الاشتباك التي كانت مطبقة منذ ما بعد حرب عام 2006، بحيث إنه تلقى الضربات التي وجهتها المقاومة الإسلامية إلى مواقعه وقواعده من دون المبادرة إلى رد يتلاءم مع قواعد الردع التي كانت قائمة.
فبدلاً من اعتماد السياق المعتاد الذي كان يلوح من خلاله برد لا يفرّق بين المقاومة والدولة اللبنانية، الأمر الذي يعني تكريس معادلة الحرب الواسعة التي لا تمسّ المدنيين والبنى التحتية إذا تعرض جنوده أو تعرضت مستعمراته لأي عمل عسكري، حتى لو اندرج الفعل المقاوم في إطار الرد على الهجمات التي كان يشنها عليها في سوريا تحت عنوان المعركة بين الحروب، ذهب في اتجاه اعتماد رد ميداني موضعي محدود بالتوازي مع حملة دبلوماسية استهدفت تحفيز القوى الدولية الفاعلة في الإقليم، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا للضغط على الدولة اللبنانية، ومن خلالها على حزب الله من أجل وقف هجماته مع تكراره سمفونية التهديد بالحرب المدمرة وإمكان إعادة احتلال جنوبي لبنان.
بالإضافة إلى ذلك، أمكن ملاحظة إجرائه بعض التعديلات بين الفينة والأخرى على استراتيجيته في هذه الجبهة لناحية محاولة تكريس نوع من التماثل بين الظروف عند طرفي الحدود وعلى مستوى موازين الردع الإقليمي، بحيث اعتمد في مراحل المواجهات الأولى على بعض الضربات الجوية والاستهدافات المباشرة لمنازل المدنيين في القرى الحدودية حتى يدفع إلى تهجير المدنيين من ناحية، وإلى تدمير القرى من ناحية أخرى، ثم حاول في مراحل لاحقة الإيحاء في تفلته من قيود قواعد الاشتباك عبر تعميق استهدافاته عمق الأراضي اللبنانية واستهداف المقار الرسمية الإيرانية في سوريا.
فنتيجة اليقين الذي حفرته جبهة غزة في وعي المستويين السياسي والعسكري بشأن محدودية قدرات الجيش، وعجزه عن التحرك بفعالية في جبهتين متوازيتين، حاولت الحكومة الإسرائيلية تظهير هذه الضربات والاستهدافات، التي طالت عدداً من المقاومين أو القادة الميدانيين في جنوبي لبنان، على أنها ردّ موازٍ على ما نفذته المقاومة طوال الفترة التي امتدت منذ الثامن من أكتوبر.
في هذا الإطار، يمكن الاستدلال على السياق الذي يعتمده الكيان الإسرائيلي في مواجهة المقاومة من خلال جهود القوى الغربية للضغط على لبنان، ومن خلال ما عرضه غالانت في إحدى زياراته مستعمرات الشمال في أيار/مايو الماضي، حين ركز على ما سماه إنجازاً كبيراً تمثّل باغتيال عدد من القادة الميدانيين، أو استهداف بعض ما يّعُدّه مواقع عسكرية، مؤكداً أن هذا الإنجاز يؤثّر بقوة في مسار المواجهات عند طرفي الحدود.
من ناحية أخرى، ربطت المقاومة، منذ بداية المواجهات يوم الثامن من أكتوبر، معركتها عند الحدود الجنوبية للبنان بعنوان إسناد جبهة غزة، بحيث أعلنت أنها لن توقف عملياتها ما استمر العدوان على القطاع، بالإضافة إلى أن الرسم البياني لتصعيدها ستحدده معطيات الميدان من ناحية أخرى.
وفي محاولة لتقويم استراتيجية المقاومة في هذه المعركة، يمكن تمييز مسارين أساسيين، سياسي وميداني، يشكل كل منهما مرتكزاً لمخطط لا يمكن حصر أهدافه في معركة طوفان الأقصى فقط، وإنما يؤثر أيضاً في مسار الصراع الذي وصفه الأمين العام لحزب الله بأنه صراع وجود.
فبالنسبة إلى المسار السياسي، ربط حزب الله بين جبهات محور المقاومة، وجعل قرار استمرار المعركة من عدمه قراراً فلسطينياً، بحيث إنه قال إن من يتخذ قرار الذهاب إلى وقف إطلاق نار هو الطرف الفلسطيني، انطلاقاً من أنه المُستهدَف الأول من العدوان الإسرائيلي والتواطؤ الدولي.
في هذا الإطار، برز تشدد حزب الله في الرد على المبادرات الدولية التي أكد أنها لا تستهدف الهدوء في الجبهة الجنوبية للبنان، وإنما تستهدف أساساً تأمين الظروف الميدانية التي تلائم الكيان وتسمح له بالتحرك بأريحية في قطاع غزة.
وبالتالي، كرس لدى الموفدين قناعة بعدم إمكان التعاون أو البحث في كيفية ترتيب الأوضاع عند طرفي الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة قبل وقف العدوان. وعليه، يمكن القول إن استراتيجية وحدة الساحات التي تحرك حزب الله تحتها أثبتت أنها ليست مجرد سيناريو مرحلي.
أما على المستوى الميداني، فبيَنت العمليات، التي تنفذها المقاومة الإسلامية، لناحية الانتشار الجغرافي وتصعيد العمليات، نوعياً وكمياً، أن سيناريو تعاطي حزب الله مع هذه المعركة لا يستهدف دعماً عشوائياً يؤكد التزاماً شكلياً بشأن المساندة، وإنما يدلل على وجود مخطط محكم يستهدف الإخلال بالردع والأمن وإفقاد الكيان عنصرَي التفوق والمبادرة.
فالعمل على تهجير عشرات الآلاف من الإسرائيليين، والتدمير الممنهج لمستعمرات الحدود الشمالية ضمن إطار تكريس معادلات ميدانية على علاقة مباشرة بالمعركة الحالية، لا يقدّمان إطاراً دقيقاً للواقع. فاستهداف المقاومة عدداً غير قليل من الأهداف النوعية ومراكز القيادة والسيطرة الإسرائيلية، بالإضافة إلى الحرب النفسية التي يشنها إعلامها الحربي، من خلال المقاطع المصورة للعمليات والمسح الجوي التي كان آخرها وأخطرها ما سمّاه الإعلام الحربي للمقاومة بـ "هذا ما عاد به الهدهد"، بحيث أظهر فيه مسحاً جوياً دقيقاً لمنطقة حيفا ومرافقها الحيوية المدنية وقواعدها العسكرية ومخازن الأسلحة والصواريخ، بالإضافة إلى مينائها ومطارها وشوارعها الرئيسة، يستهدف بالإضافة إلى كي الوعي لدى المجتمع الإسرائيلي إلغاء مفاعيل التفوق النوعي لجيش الكيان وردعه، من خلال تقديم لمحة سريعة ومختصرة عمّا تمتلكه المقاومة من أدوات قوة ومعلومات تؤشر على ما ستكون عليه صورة المعركة الكبرى الشاملة، لناحية إلحاق هزيمة كبيرة بالكيان، ميدانياً واستراتيجياً.
وعليه، حين يظهر الكيان الإسرائيلي كمن يبحث عن بعض الإنجازات الاستراتيجية، من خلال التركيز على ما يَعُدّه نجاحاً في تكثيف الضغوط على الحكومة اللبنانية، ومن مراكمة نتائج بعض الاستهدافات التي لا تتخطى الإطار التكتيكي في معركة بمستوى المواجهات الحالية، بالإضافة إلى تركيزه على معادلة التهجير بالتهجير والتدمير بالتدمير كأحد إنجازاته في الشمال.
ومن دون أن ننسى سرديته بشأن قدراته الدفاعية والهجومية التدميرية، التي فشلت في تقييد عمل المسيرات أو ردع المقاومة عن تنفيذ هجماتها ، تبرز في المقابل سردية متماسكة تستند إلى معطيات الميدان واعترافات الداخل الإسرائيلي بأن المقاومة تخطّت في إسنادها للمقاومة في غزة مجرد إشغال "الجيش" الإسرائيلي وإلحاق الضرر ببناه التحتية ومستعمرات الشمال، لتظهر تفوقاً على المستوى الاستراتيجي، بحيث إن معادلاتها لم تعد محصورة في مجرد إفشال مخططات الكيان، وإنما باتت ترتكز على توازن في الردع والرعب المستندين إلى رؤى تستهدف إلغاء الأثر الاستراتيجي للكيان في معادلات القوى الإقليمية التي ستظهر بعد انتهاء الحرب.