جبهات المنطقة أمام جولة تصعيد جديدة
لوحظ مع بداية العام الحالي تزايد واضح وملموس في استهداف القواعد العسكرية للاحتلال الأميركي في سوريا والعراق.
على الرغم من اقتراب الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومجموعة 4+1 من التوصل إلى اتفاق جديد حول الملفّ النووي الإيراني، يخرج الاتفاق السابق من سباته الطويل، فإنَّ ذلك لا يعني أبداً أنَّ المنطقة ستشهد هدوءاً واستقراراً مرتقباً. على العكس من ذلك، تبدو الصّورة معقّدة على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية، ولا سيّما مع ازدياد حدة الصراع المتنامي بين جناحي النظام الدولي، وما يمثلانه من تأثير وتحالفات ورؤى ومصالح جيو-استراتيجة.
تشكل الظروف الداخلية دافعاً قوياً نحو التصعيد المحتمل، فالتوصل إلى اتفاق متوقع مع إيران خلال الأسابيع القليلة القادمة بعد تذليل معظم الصعوبات، لا يعني أنَّ العلاقة الأميركية الإيرانية ستشهد شهر عسل مطولاً، بل ستسارع إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن إلى الانتقال إلى ملفات أخرى تشكل تضييقاً على الجمهورية الإسلامية، كنفوذها المتنامي في دول الشرق الأوسط، وقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية، وغيرها الكثير من الملفات الوظيفية في هذا الشأن.
ويكمن سبب ذلك في تحسين الواقع الشعبي للرئيس بايدن وحزبه قبل الانتخابات النصفية للكونغرس 2022، وتفادي حجم الهجمة المتوقعة عليه من قبل الجمهوريين وبعض قيادات حزبه الذين يرفضون منح إيران أيّ شرعية ونقاط قوة واعتراف ببرنامجها النووي من جانب. ومن جانب آخر، تفادي الغضب الإسرائيلي الرسمي واللوبي على حد سواء، واللذين يعتبران أن العودة إلى الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية تصب في مصلحة الأخيرة، وتضرّ بمصالح الأمن القومي الإسرائيلي.
ويشكّل استمرار البحث عن ذريعة لإبقاء قوات الاحتلال الأميركية قواعدها في المنطقة، وخصوصاً في سوريا والعراق، دافعاً ثانياً نحو هذا التصعيد. وقد تم التمهيد لذلك بداية من خلال تمهيد الرأي العام الداخلي الأميركي عبر سلسلة من التقارير والتصريحات الرسمية لمسؤولي الإدارة الحالية، والتي تنفي ما أعلنه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من انتهاء وجود "داعش".
وقد ركّزت التصريحات الحالية والتقارير التي كان آخرها في نهاية العام 2021، من قبل المفتّش العام لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، على ما يسمى عملية "العزم الصلب"؛ العملية الدبلوماسية والعسكرية التي قادتها الولايات المتحدة ضد تنظيم "داعش" في العراق وسوريا، والتي تضمنت في أحد بنودها الإشارة إلى تصاعد القلق من تزايد نشاط تنظيم "داعش".
تزامن ذلك مع نشاط ملحوظ لعناصر هذا التنظيم في كلٍّ من الجغرافيتين السورية والعراقية خلال الشهرين الماضيين، واتباعه تكتيكاً وأسلوباً جديدين يهدفان إلى إحداث أكبر قدر من الخسائر بأقل التكاليف، في سلوك يوحي بأنَّه، بانتقاله من "تنظيم الدولة للخلافة النائمة"، يريد إحراز نقاط في الحرب النفسية والمعنوية، يستقطب من خلالها المزيد من المقاتلين والمتطوعين، مستغلاً تطورين رئيسيين؛ الأول تزايد الفوضى السياسية التي شهدتها فترة الانتخابات العراقية وما تلاها من تطورات دراماتيكية تزيد من الشرخ الداخلي وتعمّق الانقسامات، والآخر هو إعاقة جهود الوساطة الروسية بين الدولة السورية وميليشيات "قسد" وجناحها السياسي "مسد"، في ظل استمرار الولايات المتحدة الأميركية بنقل المزيد من مقاتلي "داعش" من مخيم الهول في ريف الحسكة وسجن مجمع الصناعة في دير الزور إلى منطقة "التنف" لإعادة توظيفهم، وهو ما يفسر سهولة قيام التنظيم بعمليات أمنية ضد القوات الأمنية والعسكرية العراقية في الأنبار والموصل وديالى، وكذلك في عمق البادية السورية ضد الجيش العربي السوري وحلفائه.
في المقابل، لوحظ مع بداية العام الحالي تزايد واضح وملموس في استهداف القواعد العسكرية للاحتلال الأميركي في سوريا والعراق، وهو ما شكّل رسالة واضحة بأنّ الفاعلين والقوى العاملة في محور المقاومة انتقلوا إلى مرحلة جديدة تشكّل نواة توسيع عمليات المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الأميركي، وخصوصاً في سوريا، وهو ما تضمَّن مروحة من الدلالات، كان أبرزها:
أولاً: عدم جعل قوات الاحتلال الأميركية في سوريا تشعر بنوع من الاستقرار، بعد المناورة التي انتهجتها في العراق، من خلال ادعائها بسحب قواتها العسكرية وإبقاء جزء منها بصفة استشارية، ناهيك برغبة المحور في استنزاف القوات الأميركية في سوريا، ودفعها إلى الانسحاب بالتزامن مع انسحابها المزعوم من العراق.
ثانياً: تزامن هذا التصعيد مع الذكرى الثانية لاغتيال الشهيدين اللواء قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس ورفاقهما، في دلالة واضحة على عدم التخلي عن الاستراتيجية الكبرى التي تبناها المحور بعد اغتيالهما، والمتمحورة حول إخراج القوات الأميركية من المنطقة، وعدم التخلّي عن هذه الاستراتيجية، سواء بالتقادم الزمني أو الإغراء الذي قُدّم لطهران في محادثات فيينا.
ثالثاً: بلورة توجّه أميركي جديد لدى الإدارة الحالية بعد تجاهل الملف السوري خلال بداية ولايتها، والسّعي لما يُطلق عليه "تمييع الجبهة" أو الحفاظ على الوضع الراهن كما هو، من دون إحداث أيّ خرق يغيّر موازين القوى ومعالم النفوذ المرتسمة هناك منذ عامين.
ولتأكيد ذلك، لوحظت عودة التصريحات الأميركية المتضمّنة "تغير النظام"، وفق وصف الرئيس بايدن، وإعادة التموضع لمحاربة الإرهاب وفق التقديرات المقدمة من البنتاغون ومراكز الدراسات التابعة لها، واستمرار تقديم الوعود لميليشيات "قسد" و"مسد" في المساعدة لإنشاء كيان انفصالي ذاتي.
رابعاً: ضيق الوضع المعيشي والأمني للمواطنين السوريين نتيجة سرقة النفط السوري واتباع سياسات وإجراءات إقصائية لباقي المكونات من قبل ميليشيا "قسد"، واستئثارها بمصير المنطقة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وأمنياً، ما دفع المواطنين السوريين، من العشائر وغيرهم من المكونات في تلك المنطقة، والذين كان لهم دور بارز في دعم المقاومة العراقية بعد الاحتلال الأميركي 2003، إلى انتهاج المقاومة الشعبية ضد قوات الاحتلال الأميركية وذراعها العسكرية "قسد".
أما التطور الأبرز، والذي قد يشكل أهم عوامل تصاعد الجبهات في منطقة الشرق الأوسط، فهو عودة معالم ترسخ الحرب الباردة بين القطبين الدوليين (الاتحاد الروسي والولايات المتحدة الأميركية)، فاستمرار هذا الاحتدام وتصاعد مؤشراته وعدم التوصّل إلى تفاهمات أمنية وعسكرية تتعلق بمصالحهما الحيوية والجيو-استراتيجية، من شأنه أن يرخي ظلاله على تصعيد الجبهات لتحسين التموضع التفاوضي لكل منهما، من دون أن يكون هناك صدام مباشر بينهما.
إلى جانب استعراض القوى العسكرية والردعية الروسية على الحدود الأوكرانية، وتمكّن روسيا من نشر قوات حفظ السلام التابعة لمنظمة الأمن الجماعي في كازاخستان، وخروج التصريحات الدبلوماسية الروسية عن إطارها الدبلوماسي في حصاد دبلوماسيتها للعام 2021، وامتلاك وسيلة الضغط الطاقوية "الغاز" في العلاقة مع أوروبا، تشكّل منطقة الشرق الأوسط إحدى أبرز الساحات التي يمكن لروسيا الرد من خلالها على التصعيد الأميركي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الجغرافيا السورية، وبشكل أكثر تحديداً الشطر الشمالي الشرقي منها، إذ تعاملت روسيا أثناء ولاية الرئيس ترامب وبداية حقبة بايدن مع هذه الرقعة على قاعدة إيجاد الحلّ السياسي لها عبر الشراكة مع الولايات المتحدة الأميركية.
وفي سبيل تحقيق ذلك، مارست موسكو نوعاً من الضغوط على سوريا وحلفائها في محور المقاومة، لعدم تصعيد الاشتباك في تلك المنطقة بما يعيق الحل، ولكن اليوم، وبعد الضغوط الكبيرة التي تتعرض لها روسيا من قبل الناتو والولايات المتحدة، وتهديد أمنها القومي من خلال خلق الفوضى في حدائقها أمامية والجنوبية، قد تسحب "الفيتو" على محور المقاومة للقيام بعمليات عسكرية ضد القوات الأميركية. وعلى العكس من ذلك، قد تساهم موسكو في دعم المقاومة الشعبية هناك لتخفيف الضغط عليها من جانب، والضغط على الأميركي في طاولة المباحثات السياسية من جانب آخر.
هذه المعطيات، إضافةً إلى النهج الصّهيوني العنصريّ تجاه ملف الأسرى الفلسطينيين، واستمرار الاحتلال بسلب الحقوق من خلال استملاك النقب، واتساع استراتيجيته في زيادة المستوطنات، وانزعاجه من اقتراب العودة إلى الاتفاق النووي، وغيرها من السلوكيات العنصرية، قد تشكّل سبباً لتصعيد الجبهة في غزة، بما يعكس حجم الصراع الإقليمي والدولي.