جبال وقبائل.. كيف كرّر "الناتو" أخطاء السوفيات في أفغانستان؟
في العام 2001، بعد سيطرة حركة "طالبان" على كامل البلاد تقريباً، واغتيال أحمد شاه مسعود - من أهم الشخصيات التي قاتلت السوفيات في الثمانينيات - دخل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الحرب.
"كيف تهزم عدواً ينظر إلى فوهة البندقية ويرى الجنّة؟" - مثال روسي/سوفياتي من حرب أفغانستان.
"قد تملكون السّاعات (اليد)، ولكنّنا نملك الوقت"- مثال أفغانيّ من حرب الثمانينيات.
سنعالج في هذا المقال جوانب من الحربين الأخيرتين في أفغانستان؛ الأولى اندلعت بعد اجتياح الاتحاد السوفياتي لهذا البلد، والأخرى شنّها التحالف الدولي بعيد أحداث 11 أيلول/سبتمبر. سنعرض أوجه التشابه الكبيرة بين الحربين، وكيفيّة وقوع التحالف الدولي الغربي في "الأخطاء السوفياتية" نفسها، على الرغم من دراسته الدقيقة للاستراتيجيّة والتكتيكات السوفياتيّة المتّبعة.
مقدّمة
ذات مرّة، روى لي أحد الأصدقاء الروس أنه يندر أن تجد قرية روسية لا يسكنها شخص على الأقلّ يلقّبه أهلها بـ"الأفغاني"، ليس لجنسيّته، ولكن لما يحمله من ندوب سبّبتها الحرب. حفرت هذه الحرب عميقاً في الوعي السوفياتي والروسي لاحقاً. وقد شبّهها الكثيرون بفيتنام الاتحاد السوفياتي، على خلفية التشابه القائم معها، ليس من ناحية الخسائر نفسها فحسب، بل من ناحية أسلوب القتال أيضاً وعبثيّة العمل العسكري، والتي كانت تتبدّى أحياناً، إذ كانت القوّات تضطر إلى تطهير منطقة وفتح طريقٍ ما عشرات المرّات.
كانت المعركة توصف رسمياً بأنها نصرٌ ساحق، وهي من الناحية التكتيكية كذلك فعلاً. كان العدو يعود بعد عدّة أشهر، ويجتاح الحامية المكوّنة غالباً من قوّات محلية منخفضة الكفاءة والدافعية، ويرجع العمل العسكري إلى نقطة الصفر مجدّداً ومجدّداً، لكنّ قصة هذه البلاد مع اجتياح القوى العظمى لم تبدأ في القرن العشرين، فقد حاول البريطانيون قبلهم، بعد دخولهم شبه القارة الهندية، التغلغل فيها بشكل أساسي لمنع الإمبراطورية الروسية من الوصول إلى المياه الدافئة بعد توسّعها بشكل كبير في بلدان آسيا الوسطى المسلمة، في إطار ما سُمي بـ"اللعبة الكبرى" في القرن التاسع عشر (للمؤرخ الإنكليزي بيتر هوبكيرك كتابٌ ممتع يحمل العنوان نفسه ويُنصح بقراءته).
خاضت الإمبراطورية البريطانية 3 حروب على امتداد القرن التاسع عشر وبداية العشرين، تتشابه الأولى بشكل عجيب مع حروب القرن العشرين الحديثة. حاول البريطانيون، كما ذكرنا، التوسّع شمالاً، فاصطدموا بالأمير دوست محمد خان، الذي وجدوا أنه لا يقوم بما يكفي ليردع الروس عن التدخّل في شؤون بلاده.
دخلت طوابير البريطانيين بمرافقة مرتزقة هنود وسيخ البلاد، ونصّبت شجاع شاه الدراني على رأس السلطة. لم يرضَ الأفغان بهذا الحاكم، فثاروا على القوّات الغازية، وانطلقت حرب عصاباتٍ قام بها رجال قبائل البشتون، إلى أن خرجت القوات الغازية من البلاد، وعاد محمد خان من منفاه ليحكمها (إذا ما أردنا أن نختصر الأحداث).
لم يرغب الأفغان وقتها بوداع غزاتهم من دون حفلة صاخبة، فكمنوا للقوات المنسحبة من كابول في كانون الثاني/يناير 1842. قُتل أو تعرّض للأسر كل من كان في الحامية تقريباً من الجنود إلى جانب أتباع مخيّمهم، فبلغ عددهم الكلي حوالى 16 ألفاً.
اتّبع الأفغان، وبشكل خاص رجال قبائل البشتون، تكتيكات صمدت بجوهرها أمام كلّ الغزوات اللاحقة منذ هذه الحرب. في نوع كهذا من البلاد تشابهها القليل من المناطق في العالم، لا تعني السّيطرة على العاصمة أو على المدن بشكل عام نهاية الحرب، بل بدايتها، حين يعود رجال القبائل والمقاتلون إلى قراهم أو مخيّماتهم الجبليّة وتبدأ حملة استنزاف طويلة للعدوّ.
في الحرب الأفغانية - الإنكليزية الأولى، لم يقابل الأفغان أعداءهم كما يفضّلون، أي على أرض منبسطة تدور رحى معاركها على شكل معركة خطوط (Line Battle) على الطريقة الأوروبية، بل فضّلوا، أو أجبرتهم الظروف اللامتكافئة على مواجهة أعدائهم من عليائه على رؤوس التلال والجبال التي تغطّي معظم البلاد.
كان سلاحهم الأساسي بندقية "الجزايل"، وهي بندقيّة ثقيلة وطويلة السبطانة، يصعب إطلاق النار باستخدامها وقوفاً، كما الجيوش النظامية في تلك الحقبة، ولكنّها تتفوّق على السلاح الفردي البريطاني، "الماسكيت" النظاميّة أو "البراون بيس" (Brown Bess)، في المدى والدقّة.
ما كان على رجال القبائل الأفغان إلا أن يكمنوا على رؤوس التلال، ويختبئوا خلف التضاريس، ويسندوا بندقياتهم إلى رؤوس الصّخور، وينتظروا أعداءهم المسلّحين ببندقيات لا يتعدّى مداها 150 متراً، ويصعب أن تصيب بها هدفاً بعد 50 متراً. ماذا لو اقترب البريطانيون بأعدادهم الأكبر وتنظيمهم الأفضل؟ قد تكون "الجزايل" صعبة الاستخدام في إطلاق النار وقوفاً، ولكنَّ الانسحاب سهل بها، وخصوصاً إذا أجاد المدافع اختيار المكمن وطريق الانسحاب. وقد لا يستطيع الإنكليز أن يقتلوا مقاتلاً واحداً في كثير من الحالات إن كانت التضاريس تمنع إحضار المدفعية المساندة.
10 سنوات طويلة
دخل الجيش الأربعون السوفياتي البلاد في العام 1979 بدبّاباته ومدرّعاته الثقيلة، وكان بريجنيف وقتها يتوقّع - كما قادة معظم الحروب التي انتهت بشكل سيئ - عودة الجيش إلى المنزل قبل عيد الميلاد. لن ندخل في التفاصيل السياسيّة التي سبقت عمليّة التدخّل العسكري وتلتها إلا في ما سيفيد في شرح الوضع العسكري في البلاد وتطوّره.
على الرغم من أنّ الدخول بدايةً كان يهدف إلى وضع حدّ لحكم الرئيس حفيظ الله أمين، والذي نظر السوفيات إليه على أنَّه يشكّل خطراً بسياساته على وجود الحكم الاشتراكي في البلاد، ولكن بعد اغتياله في عمليّة قامت بها قوات السبيتسناز الخاصّة، اشتعلت البلاد بسبب ما رآه الكثيرون من سكانها على أنه اجتياح لقوّات أجنبيّة للبلاد.
ساهمت الدعاية والدعم من الدول المناهضة للاتحاد في وقتها في ذلك أيضاً. انشقّت العديد من كتائب الجيش الأفغاني، واضطر الجيش السوفياتي في السنوات الأولى إلى السيطرة على جميع المرافق الحيويّة في البلاد، إلى حين إعادة بناء الجيش الأفغاني الموالي، والذي لم يصبح بمستوى كافٍ طيلة فترة الحرب.
حاول ما سُمّي وقتها بـ"المجاهدين" (تجمّع من الفصائل المقاتلة تَوحَّد وبدأَ بالعمل انطلاقاً من باكستان) مواجهة القوّة الناريّة السوفياتية في معارك مباشرة منيوا فيها بخسائر هائلة، كما حدث مع الإنكليز، وسرعان ما انتقلت الحرب إلى حربٍ استنزافٍ طويلة تخلّلتها مهاجمة مواقع القوّات السوفياتية والجيش الأفغاني الموالي لها، وتدمير البنية التحتيّة وقوافل الإمداد، ونصب الكمائن والألغام على طرق القوات المتحرّكة، وكلّ ما كان يمكن أن يخطر بالبال ويقضّ مضاجع القوّات السوفياتية.
في ورقة بحثيّة نشرها مركز بحث دراسات الصراعات (Conflict Studies Research Centre) عن تكتيكات "المجاهدين"، وأعدها الخبير العسكري سي. جي. ديك، تتبدى العديد من الأمور المثيرة للاهتمام. بالمقارنة مع المصادر السوفياتية، يظهر الكاتب في المقلب الآخر تماماً، فهو يصف الجيش السوفياتي في أفغانستان ككتلة غير متجانسة مكوّنة بمعظمها من المجندين الفاقدين للروحية القتاليّة، والذين تتمّ قيادتهم عبر ضبّاط وقادة لا يمكلون أدنى إبداع في مواجهة عدو يحتكر عنصر المبادرة دوماً. من السهل رمي المهزوم في أيِّ حرب بكلّ ما يطيب للمشاهد الخارجي من الاتهامات وتحليل أسباب الهزيمة بطريقة منحازة، إلا أنَّ هناك العديد من النقاط في الدراسة تثبتها الأحداث والمعلومات الصلبة.
على الرغم من أنَّ السوفيات استخدموا القوات الخاصّة باحترافيّة عالية في مهمّات الإبرار الخلفية، فإنهم لم يتمكّنوا من جذب قسمٍ كبير من السكان، نتيجة لطبيعة المجتمع القبلية المحافظة نفسها. في حروب مكافحة التمرّد، هناك أهميّة أساسيّة لاستمالة السكّان، ليس لجعل حياة الجنود أسهل فحسب، بل أيضاً لحرمان مقاتلي العدو من البيئة الحاضنة التي توفّر لهم، إضافة إلى العوامل اللوجستية من الملجأ والطعام، ما هو أهم، أي المعلومات الاستخباراتيّة. الثورة الشعبية، بحسب تعبير ماو تسي تونغ الشهير، يجب أن تكون كالأسماك التي تسبح في بحر السكّان. وبحسب تعبير الكاتب، لجأ السوفيات إلى تجفيف البحر نفسه.
إنَّ تكتيكات القصف العنيف على القرى التي تضم المتمرّدين، وتلغيم المعابر الجبلية والحقول المحيطة بالمواقع السوفياتية، حدّتا من عمل "المجاهدين"، ولكن لا شكَّ في أنهما وفّرتا لهم سيلاً مستمراً من المتطوّعين الراغبين في الانتقام.
يرى الكاتب أيضاً أن السوفيات قليلاً ما اهتمّوا بنصب الكمائن خارج مواقعهم، ومالوا إلى التقوقع داخل ثكناتهم وقواعدهم، ما "منح الليل للعدو". إضافةً إلى ذلك، استخدم السوفيات جنود الجيش الأفغاني المحليّين في أغلب عمليّات التطهير التي تلي قصفهم التمهيدي على مواقع العدوّ المحتملة. هؤلاء المجنّدون إجبارياً بدورهم في كثير من الأحيان لم يملكوا من الدافعية أكثر مما يملك الجندي السوفياتي، وخصوصاً أن الكثيرين منهم على الأرجح نظروا إلى الأمر كأنهم يستخدمون كعلف للمدافع.
لم يستخدم "المجاهدون" قواعد إمداد ثابتة مثل الجيوش النظاميّة، فقد حاولوا بداية نقل مخازن العتاد إلى مناطق في داخل البلاد إلى جانب الحدود الباكستانية، ولكنها غالباً ما كانت عرضةً لعمليات البحث والتدمير (Search & Destroy) السوفياتية التي كانت شديدة الفعالية في بداية الحرب، وضمّت ما يقارب 20 ألف جندي في بعض الأحيان. دفع الأمر "المجاهدين" في النهاية إلى نقل معظمها إلى الأراضي الباكستانية لتجنّب عمليّات كهذه يتخللها الإبرار الجوي.
والجدير بالذكر أنَّ السّوفيات كانوا ينجحون في هذه العمليّات في أغلب الأحيان، ومنها عمليّة تطهير وادي بنجشير، التي كان يقود قوات "المجاهدين" فيها أحمد شاه مسعود نفسه. قام السوفيات بتطهير الوادي في المرّة الأولى ووضع حامية أفغانية محصّنة فيه، ليكتشفوا أنهم عادوا إلى نقطة الصفر بعد عدّة أشهر بعد حصار الحامية، فيشنّوا عمليّة أخرى "ناجحة"، وهكذا دواليك.
في عمليّة فكّ الطوق عن مدينة خوست على الحدود الأفغانية الباكستانية، تواجه في المعركة 39 جندياً من قوات المظليين السوفياتية (VDV) مع حوالى 250 مقاتلاً أفغانياً وباكستانياً على التلة 3234. تمّ إبرار الفصيل المنتمي إلى السريّة التاسعة الشهيرة من اللواء 345 في هذه الحرب على رأس جرف مشرف على طريق تقدّم القوّات على الطريق الرئيسي. استطاع السوفيات صدّ الهجمات المستمرّة على مواقعهم حتى وصول التعزيزات في اليوم التالي، موقعين خسائر كبيرة في صفوف العدوّ مع خسارة 6 جنود فقط.
لم تستطع مواجهات بطوليّة كهذه أن تعكس نتائج الحرب التي كُتب لها الفشل منذ منتصف الثمانينيات في الحدّ الأدنى. زاد الطين بلّة وصول أسلحة حديثة، كصواريخ "ستينغر" المضادة للطائرات، إلى أيدي "المجاهدين" في السنوات الأخيرة من الحرب.
على الرغم من مبالغة الأميركيين لاحقاً في فاعليّة هذه الصواريخ وصعوبة التحقّق من ذلك، فإنّها شكّلت تحدياً جديداً للقوات المحمولة جواً، ولمروحيات "المي-8" و"المي-24" السوفياتية الَّتي كانت رأس الحربة في معارك كهذه يكون دور الطائرات الثابتة الجناح فيها محدوداً، ما عدا طائرات الإسناد القريب، مثل "السوخوي-25" مثلاً.
مُني السوفيات بحوالى 14 ألف قتيل في هذه الحرب من جهة، وقاموا بإلحاق خسائر لدى العدو فاقت 100 ألف من جهة أخرى، فضلاً عن الخسائر المدنيّة المرعبة الناتجة من التكتيكات السوفياتية في تجفيف الأرياف. في النتيجة، انسحب السوفيات في العام 1989 بسبب عوامل عديدة، أهمها الخسائر وانعدام النتائج أو الأفق.
أطول 20 عاماً
في العام 2001، بعد سيطرة حركة "طالبان" على كامل البلاد تقريباً، واغتيال أحمد شاه مسعود - من أهم الشخصيات التي قاتلت السوفيات في الثمانينيات - دخل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الحرب. كما في كلّ الحروب السابقة، لم يكن احتلال المدن الرئيسية والعاصمة ذا صعوبة تذكر. وكما في كلّ الحروب أيضاً، لم يكن هذا إلا بداية الحرب الفعليّة التي ستمتدّ إلى أيام قريبة من هذا العام.
في الدراسة السابقة التي كُتبت في كانون الثاني/يناير 2002، يتوقّع الكاتب في خلاصته أن التحالف الغربي المسلّح بكل التكنولوجيّات الحديثة لن يقع في أخطاء السوفيات نفسها، فقنابله الذكيّة ستمكّنه من تجنّب إصابة المدنيين بشكل مبالغ به، كما السوفيات، وأن استطلاعه سيمنحه، باستخدام عينه الكليّة، القدرة على الحدّ من تحرّكات المتمرّدين. هو لن يدعم إلا حكومة تتمتّع بدعم شعبي كبير، وسيملك قيادة مرنة وذكيّة وقادرة على الإبداع والتكيّف مع الظروف المتغيّرة، كلّ هذا بحسب الكاتب. يضيف "ديك" ويبدع بوصفه حين يتحدّث ويشخّص الأمور أكثر، فيصف الجندي الغربي هنا بأنه يتمتّع بروحية عاليّة واحترافية تفوق كلّ ما كان الجندي السوفياتي المجنّد إجبارياً يتمتع به على المستوى الشخصي.
في الحقيقة، لا يمكن إخفاء المتعة في قراءة هذه التوقعات، وخصوصاً مع النجاح الباهر في كلّ ما تنبّأ به الكاتب البريطاني، فها هو التحالف منتصرٌ نصراً مظفراً، ولم يخرج من أفغانستان مهزوماً بآلاف القتلى وتريليونات الدولارات الضائعة بين أرباح الشركات والسرقات من هنا وهناك.
كما قلت في الفقرة السابقة، من السّهل الحكم على التاريخ و"الشماتة"، ولكن لنعد إلى موضوعنا الأساسي. في كلّ النقاط التي تمّت معالجتها تقريباً في القسم السابق، وقع التحالف الدولي الغربي بأخطاء مطابقة أو مماثلة إلى حدّ كبير لما وقع به السوفيات. لا شكّ في أن التكنولوجيا المتقدّمة سبّبت صعوبات أكبر للقوات المتمرّدة في هذه الحالة، وغيّرت طبيعة الحرب، إلا أنَّ النتيجة لم تكن مختلفة كثيراً بشكل رئيسي بسبب قدرة العدوّ على التكيّف.
في ورقة بحثيّة أخرى لمعهد كارنغي من العام 2009 لجيل دورونسورو (Gilles Dorronsoro)، تبدو الصورة قاتمة أكثر من المتوقّع في هذه الفترة المبكرة من الحرب، نظراً إلى أنها انتهت بعد 12 عاماً من ذلك التاريخ. يبدأ التقرير في محاولة وصف العدوّ من وجهة نظر التحالف، فهو يحذّر من الوقوع في خطأ وصف حركة "طالبان" بأنهم "متخلّفة" ومن "العصور الوسطى". هي عدوّ ذكي ويملك قدرة عالية على التكيّف والإبداع التي أظهرها في الكثير من الأحيان. تركّز الورقة على الجانب الأساسي من عمليّة مكافحة التمرّد هنا، وهو الصراع على الفوز بالسكان، والتكتيكات التي يتّبعها كلّ من الطرفين، والمشاكل التي تعتري جهود التحالف في ذلك بواقع الحال.
انكفأت الحركة بعد هزائم السّنوات الأولى وصولاً إلى العام 2005 عن مواجهة قوّات التحالف في معارك مفتوحة، نتيجة للخسائر الفادحة التي مُنيت بها. وكما في الحرب السّابقة، انتقلت نحو زرع العبوات والكمائن ومهاجمة القوافل أو حتى القواعد العسكرية الغربية في أحيان نادرة، نظراً إلى التفوّق الجوي الهائل الذي يتمتّع به التحالف. من جهة أخرى، ركّزت الحركة جهودها على مهاجمة الجيش الأفغاني الموالي للتحالف، ذلك أنها اعتبرت أن تأليب السكان على الاحتلال سيكون كفيلاً بدفعه نحو الانسحاب، فكانت مواقع الجيش الأفغاني تشهد عمليّات مستمرّة وعنيفة.
تتمتّع الحركة ببنية مرنة غير مركزية، وبتواصل جيّد بين مختلف مكوناتها، ولكن لا شكَّ في أنها تواجه صعوبات جمّة في محاولة التغلغل في البيئات غير البشتونية في البلاد. هي تنجح بشكل منقطع النظير في استمالة السكان في مناطقها، نظراً إلى أن الدولة الأفغانية عاجزة عن فرض القانون في المناطق الخاضعة لها اسمياً، إضافةً إلى أن الجيش الأفغاني نفسه ليس محبوباً بما فيه الكفاية في هذه المناطق.
في معظم الأحيان، يحكم ألويةَ هذا الجيش قادة حرب ومتنفعون يستخدمون الأموال والمساعدات في تقوية نفوذهم المحليّ. لن يكون من الصعب في هذه الحالة استمالة السكّان، وخصوصاً أن الحركة تملك جهازاً قضائياً يلجأ إليه السكان عوضاً عن محاكم الدولة، وهي، إن وجدت، تكون بطيئة في تنفيذ العدالة وفاسدة، بعكس الحركة التي من مصلحتها أن تكون بديلاً عادلاً (نسبياً) من الدولة.
سرعان ما دخلت قوات التحالف في تناقضات وقع فيها السوفيات قبلها، فهي في سبيل أن لا تحتكّ بالسكان المحليين، كي لا يظهر التواجد بصورته الحقيقية كاحتلال، تقوم باستخدام الجيش الأفغاني القليل الدافعية والكفاءة في الكثير من المهمّات الخطرة التي تساهم بتنفير هذا الجيش عنهم أكثر.
من جهة أخرى، لم تساعد المجازر الَّتي قام بها التّحالف بحقّ السكان المدنيين في تلميع صورته أيضاً، بل استفادت منها الحركة بشكل كفوء جداً في تأليب السكان عليه. عبر هذه المجازر، يتمّ تدمير أيّ جهد متراكم في استمالة السكان، إن وجد، ما إن تقوم الحركة بنشر الصور ومقاطع الفيديو أو التعزية بالضحايا الأبرياء. لنا فقط أن نتخيّل حجم التأييد الذي حصلت عليه الحركة بعد المجازر التي كانت تقوم بها طائرات أوباما المسيّرة بحقّ الجنائز وحفلات الزفاف على السواء، أهمها مجزرة مستشفى قندوز التي راح ضحيّتها عشرات المدنيّين الأفغان. نعم، كان التحالف ذكياً جداً بتجنّب الخسائر المدنيّة، بعكس السوفيات.
من جهة أخرى، على المستوى التكتيكي، ظهر شكل مشابه من التقوقع في القواعد العسكرية، وهو ما تحدثنا عنه سابقاً عندما بدأت العبوات الناسفة تحصد جنود التحالف، وتمّ الاكتفاء، كما السوفيات، بالغارات المفاجئة المخطط لها جيداً، والمحمولة جواً لضمان عنصر المفاجأة.
على المستوى نفسه، بحسب الكاتب، هناك نظرة محدودة إلى الصراع ككلّ، أي أنَّ الناتو يعجز عن النظر إلى الصراع ضمن كليّته، وينظر إلى العمليات العسكرية في إطار إقليمي أو محليّ، فيفقد استراتيجية كبرى للتعامل بشكل تدريجي وذكي مع التمرّد وأشكاله، ألا يشبه أيضاً نوعاً ما الخطأ الذي قام به السوفيات؟
خاتمة
"إنَّ هزيمة طالبان تحتاج إلى 100 ألف جندي جديد على الأقل في حال بقاء الحدود الأفغانية الباكستانية مفتوحة للتمرّد"، ينهي دورونسورو ورقته. الأمر حدث فعلاً في العامين 2011-2012 عبر رفع عديد التحالف إلى أقصاه، بعد تصاعد خسائره إلى أقصاها في العام 2010. وضعت هذه الزيادة الحركة أمام صعوبات لا حصر لها أيضاً، ولكنها، كما يبدو، لم تكن كافيةً للقضاء عليها، في استكمال لحركة المدّ والجزر التي واجهت بها قوات التحالف حتى الانسحاب العام 2021. تظهر في هذه الحالات إشكاليّات أخرى مرتبطة بهذا النوع من الحروب، وهي واقع أنَّ المزيد من الجنود والمواقع قد يعني المزيد من العيون والبندقيات، ولكنها أيضاً في الوقت نفسه تمنح المزيد من الأهداف للعدو.
درج الجنود السوفيات على ارتداء ساعات الفوستوك والراكيتا في فترة الحرب السوفياتية الأفغانية. وفي المقابل، كان رجال القبائل الأفغان أفقر مما هم عليه اليوم فعلاً، وبالكاد امتلكوا ما قد يكسوهم في أغلب الأحيان، فابتدعوا المثل التالي: "قد تملكون الساعات، ولكنّنا نملك الوقت".
في كلا الحربين، كانت الهزيمة محقّقة تقريباً منذ أن تحوّل الصراع في البلاد إلى ستاتيكو يمنح الأفضلية لمن يعرف الأرض وسكانها، ولا يملك أيّ مشكلة في أن يموت عليها، بغض النظر عن العقيدة الدينية أو التوجه السياسي، فهو كأجداده الذين كسروا الإنكليز، لن يذهب إلى أي مكان، بعكس إمبراطوريات الغزاة التي تساقطت واحدة تلو الأخرى.