تكثيف الاعتداءات على سوريا: "إسرائيل" لم تتعظ من درس غزّة
ما ميّز هذه الاعتداءات الأخيرة على سوريا ليس فقط زيادة عددها، وإنما توسيع دائرة المناطق الجغرافية التي تستهدفها، بحيث لم تعد مقتصرة كما في السابق على المناطق التي عادة ما يروّج على أنها مركز للوجود الإيراني في سوريا.
زادت وتيرة "الاعتداءات الإسرائيلية" على الأراضي السورية بشكل ملحوظ منذ السابع من أكتوبر الماضي، مستهدفة كالعادة مواقع عسكرية وأحياء سكنية، تارة بحجة استهداف ما تسمّيه "الوجود الإيراني"، وتارة أخرى الردّ على إطلاق بعض القذائف والطائرات المسيّرة باتجاه المستوطنات الصهيونية في مرتفعات الجولان السوري المحتل.
وما ميّز هذه الاعتداءات ليس فقط زيادة عددها، وإنما توسيع دائرة المناطق الجغرافية التي تستهدفها، بحيث لم تعد مقتصرة كما في السابق على المناطق التي عادة ما يروّج على أنها مركز للوجود الإيراني في سوريا كمدينة السيدة زينب مثلاً، فقد شهدت الفترة الماضية استهداف مناطق جديدة كمنطقة مزّة فيلات في دمشق، وقرى الأسد السكنية في ريف دمشق، وعدة مواقع في حمص، درعا، والقنيطرة.
كما ويميّز هذه الاعتداءات أيضاً إصرار "إسرائيل" لفترة زمنية على إخراج مطاري دمشق وحلب عن الخدمة، وذلك عبر استهداف مهابط الطائرات.
هذا التطوّر في ملف الاعتداءات "الإسرائيلية" على الأراضي السورية يثير مجموعة تساؤلات عن الغاية من زيادة وتيرة هذه الاعتداءات منذ عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر.
فمثلاً هل الغاية هي فعلاً استهداف العسكريين الإيرانيين العاملين في سوريا وتعطيل ما تعتبرها خط إمداد حزب الله بالسلاح، ولا سيما بعد فتح الحزب جبهة الشمال دعماً للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة؟ أم أن "تل أبيب" تحاول استغلال عدوانها على قطاع غزة لتوسيع دائرة عملياتها ضد الأراضي السورية وتكريس واقع جديد لتلك العمليات؟ أم أنّ هناك محاولة "إسرائيلية" لتوسيع دائرة الحرب في المنطقة للتغطية على إذلال "جيشها" في قطاع غزة؟
"محاسبة" إيران
جميع الاحتمالات المذكورة أعلاه تبدو منطقية ولها ما يؤيّدها على الأرض، فهناك إصرار إسرائيلي-أميركي مشترك على تحميل إيران جزءاً من المسؤولية عن عملية "طوفان الأقصى" من خلال الدعم المستمرّ والمقدّم بأشكال متعدّدة لفصائل المقاومة الفلسطينية، والخيار المتاح أمام "إسرائيل" والولايات المتحدة لـ "محاسبة" إيران على دعمها، لكن من دون جرّها إلى الحرب المباشرة، يتمثّل في زيادة استهداف عسكريّيها العاملين في سوريا، ولا سيما القادة المؤثّرين في التشكيلات المعنية بالتنسيق مع فصائل المقاومة. ومثل هذا الخيار من شأنه الإسهام بتحقيق هدفين:
-الأول يتمثّل في السعي إلى "محاسبة" طهران على دعمها ليس فقط لفصائل المقاومة الفلسطينية، وإنما للفصائل العراقية التي قامت لغاية تاريخه بما يزيد على 130 هجوماً مباشراً بالصواريخ أو القذائف أو الطائرات المسيّرة على القواعد الأميركية المنتشرة في العراق وسوريا والأردن، فضلاً عن استهداف مرفأ إيلات الصهيوني عدة مرات.
وهذه الهجمات بحسب الأميركي يجب ألّا تبقى بلا ردّ كي لا تزداد وتتطوّر إلى استهداف للقوافل العسكرية الأميركية في سوريا والعراق، والتي تشير المعلومات إلى أنها حدّت كثيراً من حركتها ودورياتها خلال الفترة الماضية.
ورغم النفي الأميركي المستمرّ بعدم العلم بالهجمات الإسرائيلية على الأراضي السورية، إلا أن الواقع يؤكد وجود مشاركة أميركية إما بالمعلومات الاستخبارية أو بالأسلحة المقدّمة، إذ كيف يمكن الاقتناع أن "الجيش" الذي ينجح في استهداف شخصيات إيرانية عاملة في سوريا بشكل دقيق ومذهل، يفشل في الوقت نفسه بتمرير صورة واحدة للرأي العام تظهر نجاحه في استهداف خلية واحدة للقسّام في قطاع غزة مكوّنة من بضعة أفراد فقط!
- أما الهدف الثاني فهو الضغط على إيران لوقف مشاريعها في سوريا، والتي في مقدّمتها مساعدة الجيش السوري على إعادة بناء وتأهيل قواعده ومنشآته على طول خط وقف إطلاق النار في الجولان السوري المحتل وجبهة درعا، والتي كانت قبل العام 2011 تشكّل عاملاً مقلقاً لـ "إسرائيل" ولحكومة نتنياهو بالتحديد، وهو ما منعها منذ اتفاقية فض الاشتباك في العام 1974 من مجرّد التفكير باستهداف أي نقطة سورية ولو بالخطأ.
فضلاً عن أن استمرار الهجمات الإسرائيلية على الأراضي السورية ورقة مهمة لواشنطن في مقاربتها للأزمة السورية، وهي لن تتخلّى عنها إلّا في حالتين: حدوث تطوّرات تهدّد فعلياً بنشوب حرب إقليمية أو تلبية بعض طلباتها المتعلّقة أساساً بمصالحها وأمن الكيان الصهيوني.
نذر شؤم للإسرائيليّين
وحتى فرضية جرّ المنطقة إلى مواجهة عسكرية مباشرة ليست ببعيدة عن الفكر "الإسرائيلي" الذي تبيّن أنه، وعلى عكس ما رُسّخ في الذاكرة العربية، ساذج ويفتقد للذكاء بدليل انسياقه في عدوانه على قطاع غزة خلف أهداف يستحيل تحقيقها لاعتبارات عديدة، ولم يحصد بعد أكثر من أربعة أشهر ونيف سوى المزيد من الخسائر البشرية والمادية وغضب الرأي العام العالمي.
وتالياً فمن غير المستغرب أن يقحم هذا الفكر نفسه في حرب أوسع اعتقاداً منه أنها يمكن أن تكون مشابهة في نتائجها العسكرية والسياسية لعدوان حزيران عام 1967، وتغطي على هزيمته المذلة في قطاع غزة وشمال فلسطين المحتلة. لكن هل فعلاً "إسرائيل" قادرة على تحمّل تبعات حرب إقليمية؟
منطقياً، وبعد الصفعة المؤلمة التي تلقّاها الكيان الصهيوني في عدوانه الحالي والمستمر على قطاع غزة، فإن هذا الكيان غير قادر على تحمّل تكلفة أخرى إضافية ستكون هي الأكبر هذه المرة، سواء من حيث حجم الخسائر العسكرية والبشرية أو من حيث الخسائر الاقتصادية الداخلية والخارجية، إنما الذي دفع بآلاف الجنود إلى التهلكة في قطاع غزة يمكن أن يفعل ذلك مرة أخرى تحقيقاً لمآرب سياسية داخلية أو لخطأ في الحسابات والتقديرات.
ومع ذلك لنتذكّر المؤشّرات الآتية التي تكوّنت بعد عدوان غزة، ونرى مدى قدرة الكيان أو مصلحته على تحمّل ثقل آخر لهذه المؤشّرات:
- الخسائر البشرية الناجمة عن العدوان على قطاع غزة، والتي هي اليوم أعلى خسارة تتلقّاها "إسرائيل" منذ نشأتها المشؤومة. ومن دون شك هذه الخسائر ستكون أكبر وأعمق في أيّ مواجهة إقليمية مباشرة.
فإذا كانت صواريخ الفصائل الفلسطينية وصلت إلى ما لا يتخيّله العقل الصهيوني، فإنّ ما هو موجود لدى الجبهات الأخرى سيكون كفيلاً بتحقيق ما عجزت عنه الصواريخ المحلية لفصائل المقاومة في غزة، وتالياً خسائر أكبر على كل المستويات.
- ارتفاع الخسائر الاقتصادية التي تكبّدتها "إسرائيل" من جرّاء عدوانها على القطاع إلى أرقام مهولة. وهذه الخسائر لا تتوقّف على تراجع أداء القطاعات الاقتصادية المحلية وزيادة الإنفاق العسكري كما هو معتاد في الحروب والنزاعات، وإنما هناك عوامل أخرى تسبّبت بتفاقم تلك الخسائر من قبيل منع حركة أنصار الله اليمنية مرور السفن المتجهة عبر باب المندب إلى مرافئ فلسطين المحتلة على البحر الأحمر، وقف بعض الدول والشركات لتعاملاتها الاقتصادية والاستثمارية مع "إسرائيل".. إلخ.
- المتغيّرات الديمغرافية الداخلية من نزوح ما يزيد على 300 ألف مستوطن من الشمال والجنوب إلى الداخل، وهجرة الآلاف إلى خارج الكيان باتجاه الدول الغربية التي يحملون جنسيتها أو يرغبون بتأسيس مشروعات فيها بعيداً عن حالة عدم الاستقرار التي كانوا يعيشونها داخل الكيان.
- تغيّر موقف الشارع الإسرائيلي من قضية الحرب من جرّاء الضغوط النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشونها اليوم في ضوء استمرار الحرب على غزة. وهو تغيّر يعبّر عنه الشارع بالتظاهرات الداعية إلى وقف الحرب والتفاوض مع فصائل المقاومة لإطلاق الرهائن بأيّ شروط تريدها تلك الفصائل، إضافة إلى الانقسامات السياسية العميقة التي تعيشها الأحزاب الإسرائيلية وجمهورها.
- الموقف الأميركي والغربي الداعم سراً وعلانية للعدوان على غزة، إلا أنه يرفض تماماً إشعال حرب إقليمية لقناعته أن مسيّرة واحدة يمكن أن تشعل أسعار النفط والطاقة في أسواق العالم، وتتسبّب بانهيار اقتصادي للعديد من الدول وتقود إلى أوضاع اجتماعية كارثية في دول أخرى.