تشريع عقوبة الإعدام للأسرى الفلسطينيين، هل تحتاجه "إسرائيل"؟
طرحُ قانون تشريع عقوبة الإعدام للأسرى الفلسطينيين في هذا التوقيت بالذات والمصادقة عليه يؤكد أبعاده السياسية والاستنزاف البرلماني الذي يمارسه الائتلاف الحكومي الإسرائيلي لجني مكاسب سياسية.
أقرّت اللجنة الوزارية لشؤون التشريع في حكومة الاحتلال الإسرائيلية، الأحد الماضي، مشروع قانون تنفيذ عقوبة الإعدام بحق منفذي العمليات الفدائية من الفلسطينيين. القانون المقترح يتيح للمحاكم أن تفرض عقوبة الإعدام على مرتكبي "جريمة" القتل على أساس قومي ضد "مواطني إسرائيل" من دون الحاجة إلى إجماع من قضاة المحكمة وبأغلبية قاضيين فقط من أصل 3، وهو ما ينطبق على المحاكم العسكرية والمدنية على السواء.
ومن المقرر أن يتم طرح مشروع القانون أمام الكنيست للتصويت عليه بثلاث قراءات، علماً بأن الاتفاقات الائتلافية التي وقّعها "الليكود" مع حزب "القوة اليهودية" برئاسة بن غفير، وأدت إلى تشكيل الحكومة الحالية، تضمّنت تمرير قانون إعدام الأسرى منفّذي العمليات الفدائية.
تتيح القوانين التي ورثتها "إسرائيل" في عام 1948، عن الانتداب البريطاني، مع بعض التعديلات، فرض عقوبة الإعدام لعدة جرائم. ومع كونها خياراً قانونياً بموجب القانون، فإن "إسرائيل" لا تستخدم عقوبة الإعدام فعلياً، حيث نفّذ حكم الإعدام فيها مرتين فقط، الأولى عام 1948 بعد اتهام مئير توبيانسكي، ضابط "الجيش" الإسرائيلي بتهمة التجسس، فخضع لمحكمة عسكرية وأدين وأعدم رمياً بالرصاص. أما الثانية فكانت عام 1962 عندما أعدم أدولف أيخمان بتهمة المشاركة في جرائم الحرب المتعلقة بالهولوكوست.
في عام 1954، صوّت كنيست الاحتلال على إلغاء عقوبة الإعدام في جريمة القتل العمد، لكن الإلغاء لم يكن شاملاً، إذ تم الإبقاء على عقوبة الإعدام لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والجرائم ضد الشعب اليهودي والخيانة وبعض الجرائم بموجب القانون العسكري أثناء الحرب.
لطالما دعا سياسيون إسرائيليون وأحزاب إسرائيلية يمينية إلى فرض عقوبة الإعدام على أسرى فلسطينيين. ولسنوات عديدة ظل النقاش في الجمهور الإسرائيلي، في الدوائر القانونية وفي كنيست الاحتلال الإسرائيلي حول موضوع "عقوبة الإعدام للإرهابيين" حاضراً، خاصةً في أعقاب العمليات الفدائية التي قتل فيها إسرائيليون أو في إطار حملات دعائية انتخابية لاستقطاب أصوات الناخبين من اليمين الإسرائيلي.
في إطار هذا الجدل الذي لم ينته، ولا يبدو أن نهايته في الأفق القريب، عارض البعض عقوبة الإعدام لأنها لا تردع الفلسطينيين، في حين ادّعى آخرون عكس ذلك. فغالبية الذين نادوا بتطبيق العقوبة يرون أن هناك قناعةً بأن "المدان" لن يغيّر شخصيته حتى بعد سنوات طويلة في السجن، وربما يعرّض السلم العام للخطر عند إطلاق سراحه.
بالنسبة لهؤلاء فإن عقوبة الإعدام مبرّرة لأنها تضمن لأقارب "الضحايا" أن "يهدأ بالهم وأن يواصلوا حياتهم"، فالعقوبة الأكثر شدةً هي الأكثر ردعاً. من جهة أخرى يبدي "المجتمع" الإسرائيلي كراهيةً للعمليات، ويجب، بالنسبة للمؤيدين، أن تتكيّف العقوبة مع مستوى الغضب والكراهية التي يشعرون بها تجاه مرتكبي العمليات.
ثم إن حقيقة أنه لا توجد عقوبة إعدام في "إسرائيل" تخلق مبرراً لقوات الأمن والمواطنين لـ "تحقيق العدالة" واتخاذ القانون بأيديهم، وحين تطبّق الدولة عقوبة الإعدام فإنها تفعل ذلك إرضاءً "لمشاعر الانتقام" لدى المستوطنين الذين سيتركون حينها تطبيق العدالة لجهات الاختصاص.
وأخيراً فإن عقوبة الإعدام، بالنسبة للمؤيدين، تأتي لحل مشكلة خطف الجنود وصفقات الإفراج عن الأسرى، إذ يجب التأكد من أن هؤلاء الأسرى لن يبقوا على قيد الحياة، فلا تضطر "إسرائيل" لمقايضتهم، أو لإطلاق سراحهم والإضرار بالردع الإسرائيلي.
والواقع أن عقوبة الإعدام تتعارض مع القانون الأساسي "لكرامة الإنسان وحريته والحق في الحياة"، ولا يوجد دليل عملي قاطع يدعم الافتراض بأنها عقوبة رادعة، فعندما يتعلق الأمر بالفدائيين الفلسطينيين، من المشكوك فيه أن تردعهم مثل هذه العقوبة لأنه عادةً ما تكون وجهتهم الشهادة أثناء تنفيذ عملياتهم.
ووفقاً للخبراء فإن عقوبة الإعدام ليس لديها ما تضيفه في هذا الشأن، فلم يثبت أنها فعالة ورادعة، والدراسات التي أجريت حول هذا الموضوع في دول مختلفة لم تظهر انخفاضاً في أنواع الجرائم التي فرضت عليها عقوبة الإعدام، وهذا بالتأكيد هو الحال مع عمليات ناشئة عن خلفية أيديولوجية.
وعلى الرغم من أن الهيئات البرلمانية الإسرائيلية غالباً ما لا تقول صراحةً أن تشريعاتها موجّهة بحق الفلسطينيين، لكنها في هذا القانون تتحدث صراحةً عن قانون حصري يخص الفلسطينيين. والشواهد الكثيرة تؤكد ازدواجية التناول القضائي الإسرائيلي فيما يزعم أنه "ردع"، منها على سبيل المثال رفض المحكمة الإسرائيلية العليا هدم منزلي المتطرفين اليهوديين اللذين أدينا بقتل الشهيد الطفل محمد أبو خضير من مخيم شعفاط بالقدس المحتلة، رغم عشرات عمليات الهدم التي نفذها جيش الاحتلال ضد منفذي العمليات من الفلسطينيين.
والأصل في قانون يسنّ لمحاربة ما تسميه "إسرائيل" بـ "الإرهاب" أن يطبّق على الجميع، لكن في مثل هذه الملفات، من الصعب تخيّل إصدار القضاة حكماً بالإعدام على يهودي أدين بعمل إرهابي، فالمحكمة العليا ميّزت في السابق في قضية هدم المنازل بزعم "الردع"، وقضت بأن العمل الإرهابي اليهودي لا يتطلب "الردع"، وبالتالي لا يستدعي هدم منازلهم، بادعاء أنها حالات نادرة وغير متكررة.
هنالك أيضاً خشية لدى الأوساط الأمنية تحديداً، من أن تنفيذ عقوبة الإعدام قد تؤدي إلى اختطاف جنود لمنع إعدام الأسرى خلال الفترة الطويلة نسبياً التي تجري فيها محاكمتهم، وهي المخاوف التي عبّر عنها جهاز الأمن الإسرائيلي "الشاباك" في تقديرات قدّمها إلى حكومة الاحتلال حول مشروع قانون عقوبة الإعدام لفلسطينيين أدينوا بقتل إسرائيليين، محذراً من "أن سنّ هذا القانون سيؤدي إلى موجة عمليات اختطاف يهود في أنحاء العالم من أجل مبادلتهم بأسرى فلسطينيين محكومين بالإعدام".
زد على ذلك أن استخدام عقوبة الإعدام سيضرّ بجهود "إسرائيل" لملاحقة العمل الفدائي الفلسطيني، لأن الفلسطيني الذي ينفذ عمليةً يقتل فيها يهوداً لن يستسلم وهو يعلم أنه سيحكم عليه بالإعدام، وفي حال أسر المنفّذين وإعدامهم فإنهم بالنسبة للفلسطينيين شهداء يشكّلون نموذجاً يحتذى في المجتمع. يرتبط كذلك جزء كبير من الحجج ضد عقوبة الإعدام بالافتراض بأن الإجراءات الجنائية التي تنطوي على فرض عقوبة الإعدام تعاني من عيوب عنصرية وقانونية.
ففي الحالة الفلسطينية، تعتمد النيابة الإسرائيلية إثبات التهم على الفلسطينيين بناءً على الاعترافات التي تنتزع في ظروف تحقيق قاسية تحت التعذيب والتنكيل، بالتالي هي اعترافات باطلة تبنى عليها محاكمات غير عادلة.
من الواضح جداً أن هذا القانون يتناقض مع معايير الديمقراطية والحريات والمحاكمة العادلة، خاصةً مع تزايد الاتجاهات لإلغاء هذه العقوبة في عدد من الدول بما في ذلك في معظم الولايات الأميركية، فالدول الديمقراطية تسعى للتخلّص من أحكام الإعدام وشطبها من قوانين العقوبات، ولطالما تغنّت "إسرائيل" أمام الهيئات القضائية الدولية بأنها تعطّل عقوبة الإعدام، وأنها تضمن للسجين حقوقه الأساسية وفق ما تنص عليه المواثيق الدولية.
هذا التشريع من شأنه أن يحرج "إسرائيل" مستقبلاً خاصةً وأنها تدّعي أن الدول التي تمارس عقوبة الإعدام هي دول دكتاتورية؛ فهل تستطيع دولة تسعى لسن قانون يقضي بالإعدام ادعاء أنها دولة ديمقراطية، خصوصاً وأن القانون يستهدف فئةً معينةً على أساس قومي، وبالتأكيد ستضرّ عقوبة الإعدام بعلاقات "إسرائيل" الخارجية وتخدم حركة المقاطعة ضدها، لأنه على الأرجح سيكون معظم المحكوم عليهم من العرب، الأمر الذي سينظر إليه على أنه تمييز وتجسيد واضح للأبرتهايد.
لا شك أن طرح هذا القانون يأتي في ظل تصاعد ملحوظ في وتيرة التصريحات التحريضية الصادرة عن قادة سياسيين في "إسرائيل"، بسبب الخارطة السياسية التي تشكّل الائتلاف الحكومي الحالي، خاصةً أن من يدفع بهذا القانون، بن غفير، الذي يقف على رأس المؤسسة الأمنية في "إسرائيل"، والقانون موجّه بشكل مباشر ضد الفلسطينيين حتى لو لم يشر نصه صراحةً إلى ذلك.
فهل تحتاج إسرائيل لشرعنة قتل الفلسطينيين بمحاكمات صورية وهي من أوائل الدول التي شرعنته من دون محاكمة بسياسة الاغتيالات، إذ لطالما شهدنا حالات إعدام ميدانية نفّذها جنود إسرائيليون ومستوطنون بحق فلسطينيين. ولعل أبرزها حالة الشهيد عبد الفتاح الشريف، الذي أعدم ميدانياً في مدينة الخليل على يد الجندي إليئور أزاريا، الذي حظي بدعم هائل من وزراء وأعضاء في الائتلاف الحكومي بقيادة حزب الليكود.
كما أعدم أحد جنود الاحتلال بدم بارد ومن مسافة صفر، قبل شهرين الشاب عمار حمدي مفلح في بلدة حوارة، بعد أن استهدفه بأربع رصاصات من مسافة صفر، من دون أي مبرّر ورغم أنه لم يكن قادراً على الحراك.
ويومياً نشهد ارتفاعاً مخيفاً في حالات الإعدام الميدانية التي ينفذها جنود الاحتلال بحق فلسطينيين، أي أن الجيش والشرطة والمستوطنين الإسرائيليين ينتهزون الفرصة لتنفيذ الإعدامات الميدانية، أو ما يسمّونه بـ "تحييد" منفذي العمليات، الذي يصوّر على أنه بطولة لدى الرأي العام الإسرائيلي، بحجة حماية السلم العام.
إن طرح هذا القانون في هذا التوقيت بالذات والمصادقة عليه يؤكد أبعاده السياسية والاستنزاف البرلماني الذي يمارسه الائتلاف الحكومي بقيادة الليكود لجني مكاسب سياسية من طرح تشريعات عنصرية شعبوية ذات أبعاد سياسية في ظل شبهات الفساد التي تلاحق أعضاء الائتلاف الحكومي. وحكومة الاحتلال تبحث عن شيء متطرف يصرف انتباه الناس عن فضائحها وعجزها عن جلب الأمن للمستوطنين، وتستجدي به تعاطف جمهور المستوطنين والمعسكر اليميني.
والتقدير أن إقرار هذا القانون سيتعثّر، ليس بسبب اعتبارات قانونية أخلاقية، إنما لدواعٍ سياسية ولتقديرات الأجهزة الأمنية في "إسرائيل"، التي حذرت صراحةً من أن القانون يشكّل خطراً على أمن "إسرائيل". والواقع أنه من السذاجة الاعتقاد بأن "إسرائيل" بحاجة إلى تشريع الإعدام، ببساطة لأنها تمارسه خارج إطار القانون وبشكل مفرط وواسع من دون قيود ومن دون أن تتعرّض للانتقاد، ومن لا يرتقي شهيداً من الفلسطينيين بنيران جنودها ومستوطنيها تقتله في سجونها ببطء.
فلماذا تحتاج إلى أن تحرج نفسها أمام "المجتمع الدولي" بتشريع لن يعود عليها بالمنفعة الفعلية، بل سيثير الشكوك حول صورتها المدّعاة كدولة "ديمقراطية" ليبرالية.