بين صموئيل هنتنغتون وجوزيب بوريل
الغرب بكل من فيه يساراً ويميناً أصبح بنية رأسمالية استعمارية واحدة، وأي فروقات في المواقف السياسية ليست سوى استجابات لمتطلبات انتخابية داخلية.
عام 1927، ولد الكاتب والسياسي الأميركي صموئيل هنتنغتون صاحب مقال "صراع الحضارات"، الّذي سيحدث ضجيجاً ولغطاً منذ نشره في مجلة "فورين بوليسي" عام 1993 وحتى يومنا هذا.
لاحقاً تحولت مقالة "صراع الحضارات" إلى كتاب يفند نظرية فوكاياما عن نهاية التاريخ ويتهمها بالقصور. يطرح هنتنغتون في الكتاب نظريته القائلة إن نهاية الصراع بين الليبرالية والشيوعية، ليست سوى نقطة انطلاق لصراع أوسع بين الحضارات يقسم العالم إلى معسكرين؛ الحضارة الغربية بقيادة الولايات المتحدة من جهة، وبقية العالم من جهة أخرى.
لهذا الصراع مستويات، اعتبر هنتنغتون أنَّ أخطرها هو الصراع بين "العالم المسيحي" و"العالم الإسلامي"، إذ كانت حدود العالم الإسلامي، في رأيه، مرسومة بالدم، كما أنَّ قيمه المرتبطة بالعمل الجماعي والتمسك بالقواعد الدينية تعتبر مناقضة للعقيدة الأميركية القائمة على المساواة والفردية والحكومة التمثيلية والملكية الخاصة. تتناقض هذه المبادئ ذات الطابع البروتستانتي مع الحضارة الأرثوذكسية التي تشمل الشعوب السلافية، وفي مقدمتها روسيا.
في كتابه "من نحن" الصادر عام 2004، يرى هنتنغتون أن الأرثوذكسية تقوم على العمل الجماعي، وغياب المبادرة الفردية، وعدم الاهتمام بالتعليم، واعتبار الفقر فضيلة تقود أصحابها إلى الجنة.
في رأيه، هذه المبادئ، تضاف إليها العولمة الاقتصادية المتعددة الأقطاب، هي أخطر ما يواجه الحضارة الغربية بنسختها الأميركية، وأنّ الولايات المتحدة مطالبة بسن التشريعات واتخاذ الإجراءات الكفيلة بحماية الحضارة الغربية التي تقودها.
كان صراع العالمين المسيحي والإسلامي القاعدة التي استند إليها الرئيس جورج بوش الابن في أول خطاب له بعد تفجيرات 11 أيلول/سبتمبر 2001، عندما تحدَّث عن الآخرين الذين يستهدفون أسلوب الحياة الأميركية، وأعلن حربه على الإرهاب التي طالت – حصراً - الدول الإسلامية، مثل أفغانستان والعراق واليمن وباكستان.
أما الصراع مع الحضارتين الأرثوذكسية والصينية، فقد أطلقت شرارته أحداث الانهيار المالي عام 2008، عندما شعرت الرأسمالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة بالخطر المحدق بها، فأطلقت حرباً تجارية طالت بشكل رئيس الصين التي تعرضت للعديد من العقوبات الاقتصادية، ونالت روسيا جزءاً مهماً من هذه الحرب والعقوبات، مع تصعيد عسكري من قبل حلف الناتو باتجاهها في أوروبا، وهو التصعيد الذي بلغ ذروته بانطلاق العملية العسكرية الروسية ضد الناتو، والتي تشكل على أرض الواقع حرباً بين الناتو (الحضارة الغربية) وروسيا (الحضارة الارثوذكسية).
على الرغم من النظرية الدونية التي تحملها نظرية صراع الحضارات للمسيحية اللاتينية، وبشكل خاص الإسبانية منها، ممثلة بالمكسيك والبرازيل، فإنَّ الأمركة الثقافية لأوروبا دفعت الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية والأمن، الإسباني جوزيب بوريل، إلى تبني نظرية هنتغتون، وتقسيم العالم إلى: حديقة تمثلها أوروبا، وأدغال يمثلها بقية العالم، ودعوة البستانيين الذين يعتنون بالحديقة إلى بناء الأسوار ووضع الحواجز لمنع زحف الأدغال نحو الحديقة.
لاحقاً، اعتذر السيد بوريل عن تصريحاته، وقال إنها أخذت خارج سياقها، فسياقها مرتبط بالأزمة في أوكرانيا. بعبارة أخرى، الأدغال هي روسيا وبيلاروسيا وإيران التي تدعم روسيا بالمسيّرات.
جوزيب بوريل سياسي إسباني ولد عام 1947، وهو مهندس طيران يحمل درجة ماجستير في الرياضيات، وسبق أن تطوع للخدمة في "كيبوتس غال أون" في "إسرائيل" عام 1969. وهناك التقى زوجته المستقبلية، وتعلّم الاعتماد على بناء الحواجز للفصل بين المجتمعات، وهو أيضاً عضو في الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني. شغل عدة مناصب حكومية، بما فيها منصب وزير الخارجية، ومرشح الحزب الاشتراكي لمنصب رئيس الوزراء، ورئيس البرلمان الأوروبي.
لم يكن السيد جوزيب بوريل أول شخصية يسارية أوروبية تنحاز إلى آراء هنتنغتون اليمينية، فقبله صرح الفيلسوف الألماني الرائد في مدرسة فرانكفورت ماكس هوركهايمر لصحيفة "دير شبيغل": "نحن في المجتمع الغربي المتطور نشكّل جزيرة الحرية، وهذا ما يجب حمايته تماماً من البربرية".
هذه النظرية للحضارة الغربية تتسم بالانعزالية، رغم ادعائها الانفتاح على الآخر وقبولها التعدد الثقافي، والتي تدفع الغرب إلى ارتكاب أبشع الممارسات اللاإنسانية لحماية مصالحه الاقتصادية والسياسية، تحت شعار حماية أسلوب الحياة الغربية الديمقراطي الليبرالي.
كل هذه الممارسات ترتكب بغطاء أخلاقي من نظرية صراع الحضارات، ما يدفعنا إلى التساؤل: هل كان صموئيل هنتنغتون، الذي عمل مخططاً أمنياً في حكومة الرئيس الأميركي جيمي كارتر، وقبلها عمل مستشاراً في حكومة ليندون جونسون، يكتب من بنات أفكاره، أم أنه كان منظّراً للسياسات الأميركية، ويكتب ما يُطلب منه لتبرير تلك السياسات؟
بقدر ما تلقي الأحداث ظلالاً من الشكّ على الكثير من الفلاسفة والمفكرين الذين يتم تسويقهم من قبل الغرب، إلا أنَّ إجابة السؤال السابق لا تعني أبناء الشعوب المضطهدة إلا في جزئية واحدة من تفاصيلها. هذا الغرب بكل من فيه يساراً ويميناً أصبح بنية رأسمالية استعمارية واحدة، وأي فروقات في المواقف السياسية ليست سوى استجابات لمتطلبات انتخابية داخلية، لكن لا يوجد أي طرف من القوى السياسية الغربية معني حقيقة بمعاناة شعوب الأطراف وبالثمن الذي تدفعه من أجل أن يحظى الغرب بالرفاهية التي يعيشها.
وبناءً على ذلك، علينا نحن أبناء الجنوب والأطراف "قلع شوكنا بأيدينا" والمبادرة للبحث عمّا يجمعنا ويوحدنا في مواجهة الحضارة الغربية المتوحشة، ولنسقط نظرية صراع هنتنغتون لمصلحة نظريتنا القائمة على صراع الأمم في سبيل عالم أكثر عدالة من دون رأسمالية.