انقلابات الساحل الأفريقي.. تأثيرات تتخطى حدود الإقليم

ليس الانقلاب الذي حصل في النيجر علامة فارقة في تاريخ أفريقيا، فقد شهدت القارة بعد نيل كل دولها استقلالها أكثر من 187 انقلاباً.

  • انقلابات الساحل الأفريقي.. تأثيرات تتخطى حدود الإقليم
    انقلابات الساحل الأفريقي.. تأثيرات تتخطى حدود الإقليم

حتى اليوم، لم يتقبّل العقل الغربي إمكانية أن تكون الانقلابات التي غيّرت المشهد في دول الساحل الأفريقي، من مالي إلى النيجر مروراً ببوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، نتيجة طبيعية لإدراك شعوب تلك الدول حجم المأساة التي سببها الاستعمار الغربي عموماً، والفرنسي خصوصاً. 

فالاستقلال الذي منحته القوى الاستعمارية لتلك الدول كان صورياً، إذ إن التركيز على وجود شخصية سيادية وهمية لتلك الدول، من خلال الإيحاء بوجود جهاز سيادي يقودها نظرياً على المستويين الداخلي والخارجي، لم يكن في الحقيقة إلا مجرد ستار يخفي الاستعمار خلفه أدوات يهيمن من خلالها على القرار السياسي والاقتصادي، والتحكم بمفاصل الدولة العميقة التي وجدت في خدمتها لمصالح الاستعمار وسيلة تحقق بها مآربها الضيقة. 

وإذا كان الغرب في مرحلة الحرب الباردة قد دعم نظرياً فكرة الحكم المدني الممهد لبناء مجتمع ديمقراطي، وفضّلها على أنظمة الحكم الشمولية أو حكم العسكر اللذين سادا أفريقيا في مرحلة ما بعد الاستقلال، فإن ذلك الحكم المدني المُسقَط على تلك الشعوب لم يكن مراعياً لأصول نشأة الدولة وتطورها الطبيعي الذي قد ينجح في تثبيت أسس المواطنة والعدالة والمساواة، وإنما ارتكزت أسسه على خدمة المصالح الاستعمارية، إذ إن الاستقرار والأمن لن يتحققا إلا من خلال تكريس أسس العلاقة وفق منطق الحماية وتحقيق مصالح الغرب بواسطة اتفاقيات التعاون والاستثمار المجحفة عموماً بحق تلك الدول.

لم تكن الدولة الفرنسية في علاقاتها مع دول الصحراء والساحل الأفريقي سوى نموذج لذلك الواقع، إذ تدلل علاقاتها التاريخية مع تلك الدول على نوع من الوصاية والاستغلال المشرّع بحكم الأمر الواقع، وبحكم الإيحاء بعدم قدرة تلك الدول على ضمان أمنها واستقرارها إلا من خلال التسليم والخضوع المشرعَن لفرنسا، التي ما زالت متمسكة بميراثها الاستعماري التاريخي في منطقة الساحل الأفريقي. وإذا عدنا إلى مرحلة ستينيات القرن الماضي، فإن الإصرار الفرنسي على ضرورة الإبقاء على علاقات تبعيةٍ عضويةٍ مع دول الساحل والصحراء الأفريقية ما زال قائماً، وذلك من خلال الإصرار على ربط العملات الأفريقية بالفرنك الفرنسي، والحفاظ على مركزها المتقدم في ميزان التجارة البينية بينها وبين تلك الدول، وما زالت حتى اليوم المصدر الأول للسلع والمستورد الأول للمواد الخام واليورانيوم مع تلك الدول، من دون أن ننسى اتفاقيات التعاون العسكري التي أبرمتها مع 25 دولة أفريقية، وكان ضمنها اتفاقيات تقضي بإنشاء قواعد عسكرية في كل من تشاد وأفريقيا الوسطى والكاميرون وجيبوتي وجزر القمر والسنغال والغابون.

بالطبع، لا يمكن النظر إلى تراجع النفوذ الفرنسي في دول أفريقيا على أنه نتيجة لفشل الدبلوماسية الفرنسية، أو تراجع قدرتها على إقناع تلك الدول بجدوى البقاء تحت وصايتها فقط، وإنما يرتبط هذا الواقع بعاملين، أولهما داخلي يمكن توصيفه بصحوة أفريقية ذات ميول استقلالية سيادية، وثانيهما ذو طبيعة خارجية، إذ يمكن القول إن القوى التحررية تحاول الاستفادة من التغييرات التي طرأت على النظام العالمي. ففقدان المحور الغربي سيطرته العالمية وتجرؤ القوى الدولية على التمرد والبحث عن أمنها القومي والاستراتيجي من دون أي خوف من رد فعل الولايات المتحدة الأميركية أو حلفائها قد يشكل عاملاً مساعداً في وقوع تلك الانقلابات ونجاحها.

ليس الانقلاب الذي حصل في النيجر علامة فارقة في تاريخ أفريقيا، فقد شهدت القارة بعد نيل كل دولها استقلالها أكثر من 187 انقلاباً. وعليه، يفترض قراءة الأحداث الأخيرة بطريقة مغايرة للتحليلات التي تربط الانقلابات بالواقع المعيشي لأكثر من 360 مليون نسمة يعيشون في دولها، أو بالدور الذي تلعبه القوى الغربية في علاقاتها مع الأنظمة الحاكمة، ومدى حاجاتها إلى تغييرها. فالانقلابات الخمسة الأخيرة التي حدثت في الأشهر العشرة الأخيرة، والتي كان آخرها في النيجر لم تكن تهدف إلى محاولة الاستيلاء على السلطة بالتوازي مع محاولة الحفاظ على العلاقات مع قوى الوصاية الغربية، وإنما جاءت كلها لتنسف أطر العلاقات الخارجية التي كانت القوى الحاكمة تعدّها بمنزلة ضامن لبقائها في الحكم.

يمكن صوغ الأحداث في النيجر، وقبلها في بوركينا فاسو ومالي، تحت عنوان ما حدث في قصر الأمة بعاصمة الكونغو الديمقراطية كينشاسا، حين قال الرئيس الكونغولي تشيسكيدي للرئيس ماكرون بأنه يجب أن تتغير طريقة رؤية الأشياء عند التحدث عن علاقاتنا مع فرنسا على وجه الخصوص، ومع الغرب بشكل عام. من خلال هذا التصريح، يمكن التقدير أن الدول الأفريقية قد ضاقت ذرعاً بالرؤية الأبوية التي ينتهجها الغرب في علاقاته معها. فالأبوية الناعمة التي حاول ماكرون تطبيقها في زيارته الأخيرة لأفريقيا من أجل أن يعيد بعضاً من قدرة فرنسا على التحكم في تلك القارة اصطدمت برفض لا يعبّر عن قرار أفريقي بالثورة والانقلاب على أبوية فرنسا ورعايتها فقط، وإنما يعبّر عن قناعة أفريقية بضرورة العمل على تحقيق الاستقلال الذاتي المرتكز على أسس لعلاقات خارجية متوازنة تحفظ مصالح شعوب تلك الدول ومقدراتها.

وإذا أردنا مقاربة آثار تلك الانقلابات، فإن آثارها الخارجية ستتخطى تلك الداخلية منها. ففي حين شدد قادة الانقلاب في الدول الأفريقية، خصوصاً في مالي وبوركينا فاسو والنيجر على ارتباط الأسباب الأساسية للانقلاب بفشل السلطات السابقة في تحقيق الاستقلال، ومعالجة الأزمات المعيشية والأمنية التي تعاني منها بلادهم، بما يوحي بالنية لتحسين واقع تلك الدول، انطلاقاً من السعي لاستغلال مقدرات دولهم وثرواتها في عملية بناء أسس الدولة الحديثة ومنع التدخل في شؤونها الداخلية، فإن وقوع تلك الانقلابات في لحظة حرجة على مستوى التجاذبات الدولية أوحى بحتمية تأثيرها في موازين القوى العالمية، انطلاقاً من تأثيرات الصراع في أوكرانيا والجهود الغربية الهادفة إلى الحد من التمدد الصيني في العالم. فالسعي الفرنسي لإفشال الانقلاب في النيجر ودعم "إيكواس" في التحضير لعمل عسكري في ذلك البلد، مقروناً بالرفض الروسي والصيني للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، واستعداد مالي وبوركينا فاسو لدعم النيجر عسكرياً، لا يمكن أن يُقرأ إلا ضمن سلوك تدويل الحدث.

 وانطلاقاً من مفارقة أن الانقلابات الأخيرة لم تكن معزولة عن الدعم الشعبي في تلك الدول، حيث باتت شعوب تلك الدول تفضل حكم العسكر على عمليات النهب والاستغلال المنظم لثرواتها من جانب الغرب، بالإضافة إلى توفر نموذج آخر للعلاقة مع الخارج، إذ يبرز النموذج الصيني والروسي الملتزم بعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والباحث عن معادلة رابح - رابح في صفقاته واستثماراته كبديل عملي من النموذج الغربي المتمثل بمعادلة الاستقرار والحكم مقابل الهيمنة على المقدرات والتحكم بالاقتصاد، يمكن التأكيد أن أثر تلك الانقلابات سيتمدد ليساهم في تبلور النظام الدولي الجديد، إذ إن أي خسارة للقوى الغربية، الأوروبية والأميركية، في أفريقيا، ستترك أثرها المعنوي على الأقل، لناحية ظهور ميل إلى عدم تقبّل شعوب العالم النموذج الغربي كنموذج وحيد صالح لإدارة العلاقات الدولية.