السيد نصر الله ومعادلة الردع الجديدة.. كسرٌ للحصار
ما يثير الدهشة أنّ مجرّد الحديث عن سفينة حرّك السفيرة شيا والأدوات اللبنانية في لبنان للتصدي لفعل الحزب.
كلمة فصل هي ضربة معلّم؛ هكذا سطّر سيّد المقاومة معادلة جديدة، فكان مفعولها أقوى من صاروخ باليستي عابر للقارّات. فالولايات المتّحدة الأميركية كانت أول من تلقّى هذه الضربة. وهنا تدخّل الأصيل مباشرة، من دون الحاجة إلى من يتبعه ويتلقّى أوامره. لقد أعلن الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في كلمته يوم العاشر من محرّم الحرام، في التاسع عشر من آب/أغسطس، تحميلَ أول سفينة محروقات إيرانية أبحرت إلى لبنان، في تحدٍّ للحصار المفروض من الإدارة الأميركية وحلفائها العرب في المنطقة.
هذا الحصار ساهم في تفاقم الأزمة الاقتصادية الحادّة، والفقدان المخيف للمحروقات في الأسواق اللبنانية، بالإضافة إلى انعدام التغذية بالتيار الكهربائي، والتي لا تتجاوز أربع ساعات يومياً، الأمر الذي رفع الطلب على المازوت لتوليد الطاقة من المولدات الخاصة، وبيعها للمشتركين. إلاّ أنّ قرار مصرف لبنان المركزي، في الحادي عشر من آب/أغسطس، والقاضي بالتوقف عن دعم المشتقات النفطية وفق سعر 3900 ليرة للدولار، ورفضَ الحكومة والدولة للقرار قبل إنجاز البطاقة التمويلية، أدّيا إلى تقنين قاسٍ حتى لدى المولدات، الأمر الذي انعكس على الدورتين الاقتصادية والحياتية، بحيث فُقد الوقود والمازوت. وبات سعر صفيحة البنزين يتخطّى 400 ألف ليرة، وصولاً إلى 500 ألف وأكثر في السوق السوداء، مع عدم فتح المركزي اعتمادات لسفن راسية عند الشواطئ اللبنانية. وأدّى هذا الأمر إلى توقّف بعض المستشفيات والمخابز عن العمل، الأمر الذي ضاعف أزمة اللبنانيين، بحيث بات هناك طابور للوقود، وآخر للخبز.
مع كلام الأمين العام لحزب الله، وهو ليس جديداً إلاّ في ناحية التوقيت، دخلت الإدارة الأميركية مباشرة على الخط، عبر سفيرتها في بيروت دوروثي شيا، لتعلن موافقة إدارتها على إمداد لبنان بالكهرباء والغاز عبر سوريا، من الأردن ومصر. يُعَدّ هذا الفعل الأميركي السريع والمباشِر، بعد دقائق على كلام السيد نصر الله، مؤشّراً على مدى تأثير موقفه الذي أعلنه في حزيران/يونيو الماضي، ومفاده أنّ الحزب سيؤمّن المواد النفطية للبنان، بالعملة المحلية، في حال عجز الدولة عن القيام بهذه الوظيفة.
بقي هذا الرهان قائماً منذ أشهر على أنّه: هل سيجرؤ حزب الله على تحدي واشنطن و"تل أبيب" في ظل حرب السفن الدائرة في بحر العرب والمتوسط بين إيران و"إسرائيل".
إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، والتي تمنع إمداد لبنان بأيّ مساعدة مالية أو عينية، تخطّت على نحو فجائي، قانونَ قيصر، الذي يحظر التعامل مع سوريا التي تبيع كهرباء للبنان، ويمتنع المصرف المركزي اللبناني، امتثالاً للعقوبات الأميركية، عن الدفع إلى دمشق. وما يثير الدهشة أنّها تحرّكت سريعاً لتُحضر الكهرباء الأردنية عبر خط الربط السداسي القديم من سوريا، وصولاً إلى لبنان. كما أعلنت شيّا استعداد مصر لمدّ لبنان بالغاز اللازم لإنتاج الطاقة في معمل دير عمار شماليّ لبنان عبر الأردن، ثمّ سوريا. والهدف طبعاً هو منع حزب الله من إحضار المحروقات الإيرانية.
هل ستنجح واشنطن في إبقاء هيمنتها على لبنان؟
هذا القرار الأميركي العاجل، والذي يحتاج إلى فترة ليصبح ساري المفعول، يدلّ على إحراج إدارة واشنطن، التي نجحت، بسحر ساحر، في الحصول على موافقة من البنك الدولي لتأمين قرض يُدفع من خلاله ثمن الغاز المصري، علماً بأنّ لبنان، الذي أعلن تخلّفه في آذار/مارس 2020 عن سداد ديونه بالعملة الصعبة، لا يستطيع الحصول على أيّ قرض بعد أن خفّضت وكالات التصنيف العالمية تصنيفه، وهو في حاجة إلى كفالة سيادية من جانب صندوق النقد، وهذا لا يعطى لدولة متخلّفة عن السداد، وتعاني انهياراً في كل الصعد، ولم تباشر برنامجاً إصلاحياً مع الصندوق.
بالعودة إلى الإعلان الأميركي، تحتاج خطوط الغاز إلى صيانة في سوريا والأردن، وصولاً إلى الشمال اللبناني، مع تهيئة منشآت دير عمار لاستقبال الغاز، وإنتاج الطاقة عبر الغاز، والذي يحتاج إلى عدّة أشهر، بحسب مطّلعين على الملف. أمّا بالنسبة إلى الكهرباء الأردنية، فهي تحتاج إلى شبكات نقل وتوزيع، وتحسين قدرة الشبكة اللبنانية على استيعاب كميات أكبر من الكهرباء بغية ضخّها في الشبكة اللبنانية، وتحسين ساعات التغذية، وهذا يحتاج أيضاً إلى أشهر.
خلاصة الأمر أنّ مسارعة واشنطن إلى التدخّل، بصورة مباشِرة، وفظّة، بغية محاصرة حركة حزب الله الساعي لإنقاذ بلده وشعبه، تُظهر مدى أهمية ما قام به الحزب في كل الصعد، من كسر الاحتكارات السائدة في لبنان، والتي تغطّيها أميركا وأدواتها، إلى القرار الجريء والقاضي بالمواجهة، وصولاً إلى الحرب.
فالأمين العام لحزب الله توجّه مباشرة إلى واشنطن وكيان الاحتلال، عبر اعتباره السفينة أرضاً لبنانية منذ إبحارها، الأمر الذي يرتّب على ذلك تبعات في حال المسّ بها من جانب واشنطن أو ربيبتها "تل أبيب". والتجربة الأخيرة خير برهان عندما قام الكيان الغاصب بالإغارة بسلاحه الجوي على منطقة لبنانية مفتوحة، وهي الغارة الأولى منذ حرب تموز/يوليو 2006، فسارع الحزب إلى الردّ في منطقة مفتوحة في مزارع شبعا المحتلة، من أجل تثبيت قواعد الاشتباك، وعدم المسّ بالتوازن الموجود. والحزب باشر عملياً إلى فكّ الحصار المفروض على لبنان وشعبه، وهو مستعدّ للذهاب بعيداً في المواجهة العسكرية، إن ارتكبت إدارة بايدن أو حكومة الاحتلال الإسرائيلي، برئاسة نفتالي بينيت، أيَّ حماقة.
والسفينة لن تكون يتيمة، فهناك أسطول من السفن المتعلقة بالمحروقات وسواها من مواد يحتاج إليها لبنان في ظلّ الارتفاع الحاد للدولار وللأسعار، وتدهور القيمة الشرائية لدى اللبنانيين، بالإضافة إلى تحكّم مجموعة مسيطرة ومهيمنة في كل القطاعات، من محروقات وأدوية ومواد غذائية مستوردة، الأمر الذي يضع الحزب أمام خِيارين: إمّا المضي في معركته الاقتصادية، والتي أعلن أنّه سيخوضها دفاعاً عن لبنان وشعبه وكرامته في مواجهة الحرب الاقتصادية الأميركية، وإمّا أن يرضخ ويستسلم ويُخْلي الساحة. والمطلوب هو الحزب وسلاحه، وضرب بيئته، وصولاً إلى الانتخابات النيابية المقبلة، التي تسعى واشنطن، عبر سفارة عوكر، للعمل جاهدة، ولاسيّما مع مجموعات الـ N G O S من أجل اختراق بيئة الحزب، وتحويله إلى مسؤول وحيد عن هذه الأزمة.
على مدى 39 عاماً، منذ بداية المقاومة ضدّ إسرائيل، وحتى عندما حضرت واشنطن بعسكرها إلى الشواطئ اللبنانية، كان وما زال قرار هذا الحزب المواجهة، وعدم الفرار من الميدان، بالرغم من الأعباء الكبيرة. والآن، في ظل الحصار وما راكمه الحزب من قدرات، فهو لن يُخْلي الساحة، ولن يترك الشعب اللبناني يُذَلّ، وخصوصاً أنّ أمينه العام السيد حسن نصر الله لطالما وعد وصدق، وشدّد على أنّ الصمود والمواجهة سيؤدّيان إلى الانتصار في هذه المعركة على أميركا، رمز الشر، والشيطان الذي هُزم في أفغانستان، وسيخرج من كامل المنطقة.
ما يثير الدهشة أنّ مجرّد الحديث عن سفينة حرّك السفيرة شيا والأدوات اللبنانية في لبنان للتصدي لفعل الحزب، ووصفه بـ"الشنيع والخارق للسيادة"، بينما ما تقوم به المندوبة السامية في عوكر، من تدخّل في كل إدارات الدولة والأجهزة الأمنية والجيش، ليس خرقاً للسيادة.
لكنّ التهويل بعقوبات أميركية والويل والثبور وعظائم الأمور، لا ولن ينفع. فأصحاب السيادة نسَوا أنّ طهران تبيع النفط والكهرباء والغاز لمجموعة من الدول، على رأسها الصين وكوريا الجنوبية واليابان وباكستان وأفغانستان والعراق، كما أرسلت الجمهورية الإسلامية أسطولاً من المشتقات النفطية إلى فنزويلا، حديقة واشنطن الخلفية، ولم تجرؤ إدارة ترامب على المساس بها إلاّ في الحدود الدنيا؛ فقط من أجل الصورة الإعلامية.
وهنا، نخاطب أبناء السيادة المزعومة، والذين ينتظرون الفُتات من المائدة الأميركية، بأن يستفيقوا وينظروا إلى الحقائق حولهم، فأميركا ستتخلى عنهم كما فعلت قديماً في فيتنام مع عملائها، وكما فعلت الآن في أفغانستان، حيث فضّلت الكلاب على تابعيها الأذلاّء. لكنّ مَن اعتاد الهزائم، ولعق نعل السيّد الأميركي، لن يشعر بالكرامة والعزّة اللتين صنعتهما المقاومة، وما زالت.
وهنا السؤال: كيف ستكون آثار هذه الخطوة الجبّارة لمواجهة الوحش الأميركي اقتصادياً؟