الانقسام الإسرائيلي وإطالة عمر الحرب.. الجذور والأسباب
يتناسى نتنياهو أن المقاومة الفلسطينية وحركة حماس خصوصاً بعد احتلال رفح لن يكون لديها ما تخسره، وستزداد مواقفها التفاوضية تصلّباً ومن خلفها الشعب الفلسطيني، ولن تقبل بأقلّ من وقف الحرب والانسحاب الكامل من غزة.
قضية انتهاء الحرب على غزة واليوم التالي وإبرام صفقة تبادل للأسرى مزّقت المجتمع الإسرائيلي، ليس سياسياً فحسب بل فكرياً أيضاً، وأدخلت تلك القضايا إلى أتون الانقسام الصهيوني الداخلي، الذي بدأت شرارته تظهر بشكل قوي مع تشكيل حكومة نتنياهو الحالية في أواخر عام 2022، ووصل ذروته في قضية الإصلاحات القضائية، والذي استمرّ حتى اندلاع حرب غزة، والذي في جوهره انقسام حاد حول صورة وشكل "إسرائيل" الجديدة ومحاولة من اليمين واليمين الديني إعادة صياغة الصهيونية ومبادئها بطريقة جديدة تختلف عمّا كانت عليه في لحظة التأسيس العلمانية الأولى.
فبرغم تشكيل حكومة طوارئ وطنية إسرائيلية، لتفادي الخلافات السابقة داخل الشارع الإسرائيلي والذهاب إلى الحرب موحّدين، إلا أن تلك الانقسامات سرعان ما أطلّت برأسها مجدّداً وانعكست على قضايا الحرب ذاتها، وطريقة تعامل مكوّنات الحكومة ومجلس الحرب وتعاطيهم مع تلك القضايا، وانقسمت الحكومة والشارع الإسرائيلي مجدّداً إلى فريقين، وكأنّ الحرب لم تغيّر شيئاً في حالة الانقسام السابقة.
الفريق الأول، يريد تدمير حركة حماس والمقاومة الفلسطينية بالكلية وبأيّ ثمن حتى لو على حساب الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة في غزة، واضعين الأمن وإعادة الاستيطان في غزة قيمة صهيونية عليا على حساب حياة اليهودي الأسير، ويعتبرون حرب غزة فرصة تاريخية لتحقيق الحلم الصهيوني المتمثّل بقتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وتهجير البقية، وإصلاح الخطأ التاريخي الذي قام به أرئييل شارون في انسحابه أحادي الجانب من قطاع غزة وأربع مستوطنات من شمال الضفة الغربية، والذي بحسب رؤية اليمين الصهيوني الديني المسيحاني، أن ذلك عبارة عن انهيار فكرة "إسرائيل الكبرى" التي قامت عليها الصهيونية، وفي سبيل تصحيح ذلك ترى الصهيونية الدينية أن حياة الأسرى الاسرائيليين ثمن بخس لتحقيق ذلك، بمعنى آخر "أرض إسرائيل" الكبرى أهم من حياة اليهودي وأكثر قدّاسة.
الفريق الثاني، يعمل ويسعى إلى تدمير حركة حماس ولكنه يمتاز بأنه أكثر واقعية وبراغماتية، وتمسّكاً بالمبادئ الصهيونية العلمانية، التي تعتبر أنّ القيمة العليا لـ "إسرائيل" وللفكرة الصهيونية برمّتها، ذلك العقد الاجتماعي والسياسي والعسكري والفكري بين المستوطن اليهودي و"إسرائيل دولة اليهود"، الذي بمقتضاه تحمي الأخيرة اليهودي أينما وجد، وتشكّل له ملجأً آمناً بين عالم الأغيار المتوحّش، وبذلك تقدّم الحفاظ على حياة اليهودي كقيمة عليا ومرتكز رئيس لبقاء شرعية "إسرائيل" كدولة اليهود وكفكرة صهيونية.
معتمدين على قراءة تاريخية خاصة لتاريخ اليهود مبنية على أن السرّ في الحفاظ على الشعب اليهودي وإقامة "إسرائيل" كدولة لليهود تتمثل في الحفاظ على اليهودي نفسه وليس بالحفاظ على أرض الميعاد، حيث أن اليهود لم تكن لهم سيطرة فعلية على تلك الأرض إلا للحظات تاريخية عابرة، وبرغم ذلك بقي الشعب اليهودي كما يدّعي الآباء المؤسسون الأوائل للصهيونية، كونه حافظ على خصوصية اليهودي وحياته.
وفي التاريخ المعاصر عندما طالب بن غوريون وقيادة الوكالة اليهودية بقيام دولة يهودية بعد الحرب العالمية الثانية وخصوصاً بعد حادثة المحرقة (الهولوكوست)، اعتمدوا في تنظيرهم إقامة دولة على أرض فلسطين هدفها المركزي حماية اليهود من الإبادة الجماعية، ولذلك وضع بن غوريون والمؤسسون للكيان الصهيوني حماية حياة اليهودي القيمة الأخلاقية العليا لـ "إسرائيل".
يتسم المجتمع الإسرائيلي بحساسيته الشديدة للخسائر البشرية، وبات مبدأ استعادة الأسرى اليهود أحياء في أسرع وقت واجباً أخلاقياً جماعياً من الدرجة الأولى داخل قيم المجتمع الإسرائيلي، بل إنّ واجب "الجيش" الإسرائيلي ومن خلفه "الدولة" برمّتها بذل كلّ ما يمكن من أجل استعادة الأسرى اليهود، حتى لو كانوا أمواتاً، فواجبهم استعادة جثثهم لدفنها في أرض "إسرائيل". قد يكون هناك هدف مركزي آخر لـ "إسرائيل" من وراء ذلك، وهو منح المستوطن اليهودي الشعور بالأمن داخل "إسرائيل" برغم حالة الصراع المستمر الذي تخوضه مع الفلسطينيين، وإقناع بقية اليهود في العالم بالعودة والاستيطان في "إسرائيل" كمكان آمن لهم.
ولكن مع تغلغل الصهيونية الدينية في مؤسسات الحكم والثقافة و"الجيش" في "إسرائيل"، بما تؤمن به من قداسة دينية استمدّتها من أفكار الحاخام كوك والحاخام دروكمان لكلّ من الأرض والقوة العسكرية والاستيطان، تحوّلت تلك المفاهيم من مجرد أدوات تستخدمها الصهيونية لتحقيق أهدافها إلى مفاهيم دينية مقدّسة، وبذلك باتت هدفاً بذاتها، على عكس ما أفتى به الحاخام السفارادي الأكبر الأسبق والأب الروحي لحزب شاس "عوفاديا يوسيف" عندما وافق على اتفاق أوسلو للتسوية بما فيه من تسليم أراضٍ للفلسطينيين تحت ذريعة أن ذلك الاتفاق يحافظ على الدم اليهودي والذي هو أغلى من الأرض.
الخلاف بين الفريقين أدّى دوراً رئيسياً في إطالة عمر الحرب، وتأخير حسم قضية تبادل الأسرى واليوم التالي من الحرب، فنتنياهو في ظرفه السياسي المعقّد، وبتشكيلة حكومته الحالية، يحاول أن يجد لحظة توافق أو التقاء بين الفريقين لتمرير حسم متوافق عليه لتلك القضايا الخلافية، وإن تعذّر ذلك يكون على الأقل مقبولاً بالحد الأدنى لكِلا الفريقين، والتي تحدّد شكل نهاية الحرب على غزة.
لذلك أصرّ نتنياهو على اجتياح مدينة رفح وفجّر جهود الوسطاء في اللحظة الأخيرة، لأنه يعتبر ذلك إرضاء لحلفائه من الصهيونية الدينية، وفي الوقت ذاته، يدرك أنّ الضغط عليه سيزداد دولياً وداخلياً، الأمر الذي سيستخدمه تبريراً لتمرير حسم تلك القضايا أمام حلفائه في حال قرّر أن يتجه باتجاه الفريق الصهيوني العلماني.
لكن يتناسى نتنياهو أن المقاومة الفلسطينية وحركة حماس خصوصاً بعد احتلال رفح لن يكون لديها ما تخسره، وستزداد مواقفها التفاوضية تصلّباً ومن خلفها الشعب الفلسطيني، ولن تقبل بأقلّ من وقف الحرب والانسحاب الكامل من غزة، وصفقة تبادل أسرى مشرّفة لتضحيات شعب غزة، وعدم السماح لـ "إسرائيل" أن تتحكّم بشكل القيادة الفلسطينية في غزة بعد الحرب.