الاستقالة.. هل يفعلها نتنياهو أو يُكره عليها؟
حالات الاستقالة الواضحة التي تعبّر عن تحمل المسؤولية عن خطأ شخصي أو إخفاق وزاري نادرةٌ جداً في المشهد السياسي الإسرائيلي. وبهذا المعنى، فإن نمط سلوك نتنياهو ووزراء حكومته في إثر الفشل والإخفاق نتيجة ملحمة "طوفان الأقصى" ليس جديداً ولا مستغرباً.
مع توسع الحرب الإسرائيلية على غزة وتواصلها، تتصاعد داخل المجتمع الإسرائيلي الدعوات المطالبة باستقالة نتنياهو وحكومته، وتحميلهما مسؤولية الفشل المتواصل منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 في إثر ملحمة "طوفان الأقصى".
يبدو أنّ هذه الدعوات، وعلى الرغم من زخمها، لا تحدث أصداء ضاغطة قد تدفع نتنياهو شخصياً أو أياً من أعضاء ائتلاقه إلى اتخاذ مثل هذه الخطوة غير المسبوقة في المجتمع الإسرائيلي.
ومع إقرار بعض الوزراء ورؤساء أجهزة "الجيش" والأمن الإسرائيليين بالمسؤولية عن الفشل، إلا أن أياً منهم لم يقدِم حتى على التفكير في الاستقالة، ليس بسبب ضعف وتيرة ضغط هذه الدعوات، بل بسبب غياب ثقافة تحمّل المسؤولية والاعتراف بها في الأزمات والكوارث العامة في "إسرائيل" ككل، وعلى كل المستويات.
مفهوم "المسؤولية العامة" أو "الوزارية" أو "السلطوية" يعني أن أولئك الذين يشغلون منصباً عاماً يجب أن يظهِروا مسؤوليتهم أمام الجمهور في مجالات ولايتهم والطريقة التي يؤدون بها واجباتهم.
ورغم أن مثل هذه المسؤولية غير منصوص عليها في القانون، ولا تفرض أي عقوبات ملزمة على انتهاكها، فإنّها تعبّر عن عقدٍ غير مكتوب بين الجمهور والحكومة قد يؤدي بموجبه خطأٌ شخصي جسيم من أحد أعضاء الحكومة أو إخفاقٌ يتعلق بالمنصب الذي يتولاه إلى استقالته.
وفي الدول التي تترسخ فيها الثقافة السياسية القائمة على المسؤولية العامة والمساءلة، يحدث هذا الأمر بشكل شبه تلقائي كنوع من التعبير عن التقصير. وغالباً ما تتم الاستقالة حتى من دون أن يسبقها ضغط سياسي أو جماهيري، إذ تأتي ببساطة كإقرار بتقصيرٍ شخصي خطير أو فشلٍ في المجال الذي يتولى الوزير المسؤولية عنه. وأحياناً، تأتي في حالات تكون فيها النتائج سيئة، وليست خطيرة بالضرورة، وذلك لمنع الإضرار بثقة الجمهور بالحكومة، وكعمل أخلاقي يعبّر عن فهم المسؤول المنتخب أنه، بعلم أو بغير علم، أخلّ بالعقد المبرم مع الجمهور الذي يعد مسؤولاً تجاهه.
ورغم أن "إسرائيل" تتباهى بكونها "نظاماً ليبرالياً ديمقراطياً شبيهاً بالأنظمة الغربية"، فإنَّها ليست واحدة من تلك "الدول" حين يتعلق الأمر بالاستقالة الناتجة من ثقافة تحمّل المسؤولية. تكفي عودة سريعة فاحصة إلى التاريخ، لتبيّن أن الحالات التي اعترف فيها وزراء أو رؤساء حكومات إسرائيليون بارتكاب أخطاء وتحملوا المسؤولية إلى حد الاستقالة من مناصبهم تعدّ نادرة جداً.
ويبدو أنّ العوامل التي أدت إلى استقالة وزراء إسرائيليين فيما مضى تستثني الاعتراف بالمسؤولية العامة التي تغيب عن الخطاب السياسي الإسرائيلي.
وعلى الرغم من الأخطاء والإخفاقات المتكررة التي ارتكبها قادة ومسؤلون إسرائيليون، وشكلت لها لجان تحقيق دانت الكثير منهم، فإنَّ ثقافة تحمّل المسؤولية لم تتجذر في "إسرائيل"، حتى في حالات الفشل والكوارث الواضحة للعيان، إذ تجنب رؤساء الوزراء والوزراء الاعتراف بمسؤوليتهم الشاملة أو الشخصية، ولم يستقيلوا من مناصبهم، بل سعوا إلى التهرّب وتحميل أطراف أخرى المسؤولية.
وبالنظر إلى الوراء، نجد أن العديد من الوزراء استقالوا من مناصبهم في الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لأسبابٍ مختلفة، وكانت معظم الاستقالات مبنية على خلافات أيديولوجية مع رئيس الوزراء وحزبه، كاستقالة وزراء شاس من حكومة إيهود باراك عام 2000، على خلفية مشاركته في مؤتمر كامب ديفيد للسلام.
إلى جانب هذه الحالات، برزت حالات أخرى نتجت من أزمة ثقة بين الوزير المستقيل ورئيس الوزراء. على سبيل المثال، استقالة موشيه شاريت من الحكومة السابعة برئاسة بن غوريون عام 1956، وديفيد ليفي من حكومة نتنياهو الأولى عام 1998. وقد ربطت الاستقالة في حالات أخرى باعتبارات شخصية، كالأسباب الصحية، كما في حالتي يهوديت ناعوت عام 2004 وديفيد أزولاي عام 2018.
وثمة حالات أجبِر فيها الوزراء على الاستقالة من الحكومة وفقاً لأحكام القانون، مثلما حدث مع أرييه درعي عام 1993، ويعقوب نعمان عام 1996، وأفيغدور ليبرمان عام 2012.
أما استقالة رئيسة وزراء الاحتلال غولدا مائير ووزير الحرب موشيه ديان عام 1974، فلم تأتِ تعبيراً مباشراً وفورياً عن تحمل المسؤولية الرسمية عن إخفاقات حرب أكتوبر عام 1973، إذ استمرا في منصبيهما في الحكومة الجديدة التي تشكلت بعد الحرب إلى أن اضطرا إلى الاستقالة نتيجة الضغط الشعبي الشديد بعد نشر التقرير المؤقت للجنة أجرانات. والنتيجة أننا لا نجد فيما ورد أعلاه، وفي غيره مما لا يتسع المجال لذكره، حالات استقالة يمكن تصنيفها على أنها تعبيرٌ مباشر عن تحمل المسؤولية الشخصية أو العامة.
وكما ذكرنا، فإنَّ حالات الاستقالة الواضحة التي تعبّر عن تحمل المسؤولية عن خطأ شخصي أو إخفاق وزاري نادرةٌ جداً في المشهد السياسي الإسرائيلي. وبهذا المعنى، فإن نمط سلوك نتنياهو ووزراء حكومته في إثر الفشل والإخفاق نتيجة ملحمة "طوفان الأقصى" ليس جديداً ولا مستغرباً.
ويبدو أن كلمة "مسؤولية" تكاد تكون غائبة من قاموس أعضاء الحكومة الحالية، وحتى القلة التي نطقت بها منهم، قللت من شأنها وألمحت إلى إلقاء اللوم الرئيسي على أطراف أخرى وسياقات ماضية.
ولعل أحد أسباب غياب تحمل المسؤولية من الحياة السياسية الإسرائيلية مرتبط بفهوم "حوكمة" الحياة العامة في "إسرائيل"، والذي يقوم على أن "الخلافات التي لم تتم تسويتها سابقاً في الأطر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تجد حلها في الأحكام القضائية"، بمعنى أن رئيس الوزراء أو الوزير لا ينبغي أن يتحمل مسؤولية التقصير ما لم تقرر لجنة تحقيق أو محكمة أنه "مذنب" ويجب عليه القيام بذلك، إذ تشكل لجان التحقيق أداة مهمة لمعرفة الحقائق وتوثيق تسلسل الأحداث وطرق اتخاذ القرارات، ما يعين على استعادة ثقة الجمهور في النظام وطمأنته.
لكن المعضلة أنه في مثل هذه البيئة، حيث يتم فحص كل شيء وتفسيره وفق القانون، تضعف إلى حد كبير قيمة المسؤولية السياسية العامة. والحقيقة أن انتظار تشكيل لجان التحقيق ونتائجها يعفي الوزير من تحمّل المسؤولية المباشرة ويؤجّل نهايتها، وخصوصاً أن عمل اللجان يستغرق وقتاً طويلاً.
وإلى أن يتم نشر النتائج، قد تتغير الساحة السياسية، وقد تصبح توصيات اللجنة مهمة، وفق القاعدة التي تقول: "إذا أردت أن تنهي قضية، فشكل لها لجنة تحقيق". زد على ذلك أن الحكومة هي التي تحدد موضوع التحقيق، ولها أن تحدد حدوده أو توسّعها بحسب مصالحها.
ثمة سبب آخر مهم لغياب تحمل المسؤولية هو تطور ثقافة إلقاء اللوم على الآخر أو ما يسميها المجتمع الإسرائيلي "متلازمة حارس الجدار" التي تطورت بعد 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1987، حين قتل فدائي تسلل إلى إحدى قواعد جيش الاحتلال الإسرائيلي على الحدود مع لبنان بواسطة طائرة شراعية 6 جنود. وقد سجل هذا الهجوم الفدائي في الأوساط الإسرائيلية باسم "ليلة الحوامات".
وبعد التحقيق الذي فتحه جيش الاحتلال الإسرائيلي، وجد أن أحد المتسببين الرئيسيين في تلك النتيجة هو روني ألموغ، حارس بوابة المعسكر الذي تسلل إليه الفدائي، وتمت محاكمته على دوره في الحادث وقضى عقوبة بالسجن لمدة عام ونصف عام.
أدى قرار جيش الاحتلال الإسرائيلي بمعاقبة ألموغ إلى انتقادات عامة شديدة، ما أفرز مفهوماً جديداً في الفضاء العام الإسرائيلي سمي "متلازمة حارس الجدار"، وهو تعبيرٌ نقدي يستخدم عندما يحاول كبار المسؤولين التهرب من المساءلة عن إخفاقاتهم بتحميل مسؤولية الفشل للعناصر الأقل درجة في سلسلة القيادة، أي دحرجة المسؤولية إلى الأسفل، إلى المستوى الأقل رتبة، "لتطهير" المستوى السياسي من مسؤوليته الشاملة.
ومن المفارقة أن غياب ثقافة تحمّل المسؤولية يزيد إضعاف احتمال حدوثها في الواقع السياسي الإسرائيلي. ويبدو أن الجمهور في "إسرائيل" يدرك صعوبة امتثال المسؤولين المنتخبين لهذه الثقافة، وتحديداً نتنياهو، في ضوء حقيقة أنه استمر في السنوات الماضية في منصبه على الرغم من تقديم لائحة اتهام ضده.
والسبب الثالث والأخير في غياب ثقافة تحمّل المسؤولية يتعلق بالبنية المؤسسية لـ"دولة إسرائيل"، وخصوصاً النظام الانتخابي، إذ يغيب عنه البعد المناطقي أو "الطريقة الوطنية" والبعد الشخصي "طريقة القائمة المغلقة"، وهي خصائص تضعف العلاقة أو "الاستجابة" بين المواطنين وممثليهم المنتخبين، وتضعف الشعور بتحمّل مسؤوليتهم.
وفي ضوء انعدام الأمثلة على تحمل المسؤولية الوزارية تاريخياً في "إسرائيل"، وغياب حالات الاستقالة الطوعية على خلفية الفشل، فمن الصعب الاعتقاد أن الجمهور الإسرائيلي سيشهد استقالة أي من المسؤولين المنتخبين الحاليين في ظل سلسلة الإخفاقات والخلل الوظيفي في حكومة نتنياهو.
ومن المستبعد أن يقوم رئيس الوزراء أو أحد من حكومته بالاستقالة في خضم الأزمة الحالية بما يسمح بتشكيل "حكومة طوارئ وطنية" برئاسة رئيس وزراء آخر، تؤدي إلى تخفيف أجواء عدم الثقة وإشعار الجمهور بأن حكومة كهذه ستهتم فقط بالتعامل مع الوضع الطارئ من دون اعتبارات التغطية على إخفاق وزرائها. علاوة على ذلك، ليس من المؤكد، حتى في نهاية الحرب، أن نتنياهو سيستقيل هو أو أحدٌ من وزرائه كسلوك واضح على تحمّل المسؤولية.
ومع ذلك، ربما يجد الجمهور الإسرائيلي نفسه هذه المرة غير مضطر إلى انتظار نتائج لجنة التحقيق لمطالبة الحكومة بتحمل مسؤولية الفشل، ومن الممكن تحت وقع حجم الفشل والخسائر الفادحة التي مني بها المجتمع الإسرائيلي أن يقول كلمته بطريقة لا لبس فيه، بأن نتنياهو شخصياً وحكومته الفاشلة يجب أن يرحلوا إلى غير رجعة.