اتفاق وقف إطلاق النار: بين دلالات التوقيت وتحديات ما بعد الحرب

تنبع أهمية الاتفاق من كونه يوقف الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، بغض النظر عن التقييمات السطحية التي تحاول حصره في إطار "النصر" أو "الهزيمة".

0:00
  • استهدف الإسرائيلي في حربه قبل أي شيء الإنسان الفلسطيني.
    استهدف الإسرائيلي في حربه قبل أي شيء الإنسان الفلسطيني.

يأتي توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين "إسرائيل" وحماس كحدث يحمل العديد من الدلالات السياسية والعسكرية، خصوصاً في ظل التعقيدات التي شهدتها الحرب الأخيرة على غزة. فما الذي دفع "إسرائيل" إلى القبول بهذا الاتفاق الآن؟ وما أهميته في سياق الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي الممتد لعقود؟

توقيت توقيع الاتفاق ليس مصادفة، بل يعكس ضغوطاً متعدّدة واجهتها "إسرائيل" داخلياً وخارجياً. على الصعيد الدولي، يبرز دور الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب كعنصر ضغط رئيسي على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

ترامب، المعروف باستخدامه أوراق ضغط كبيرة، لم يكن ليتردد في مواجهة نتنياهو إذا حاول تعطيل الاتفاق، كما حدث في فترات سابقة أثناء ولاية الرئيس جو بايدن.

داخلياً، تعرض نتنياهو لضغوط من أهالي الأسرى الإسرائيليين، الذين تتزايد أصواتهم للمطالبة بحلول، بالإضافة إلى المؤسستين العسكرية والأمنية الإسرائيليتين، اللتين وصلتا إلى قناعة بأن استمرار القتال لن يحقق أهدافاً عسكرية جديدة. تدمير المقاومة كفكرة وكحاضنة شعبية بات هدفاً غير واقعي، خصوصاً مع استنزاف "الجيش" الإسرائيلي المتواصل، كما أظهرت خسائره في العملية العسكرية الأخيرة شمال غزة وفي جباليا.

كما أن الوضع السياسي الداخلي لـ "إسرائيل" وفّر مرونة نسبية لتمرير الاتفاق. دعم الشارع الإسرائيلي للتهدئة حدّ من تأثير شخصيات متطرفة مثل وزير "الأمن القومي" إيتمار بن غفير، الذي هدّد بالاستقالة، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش.

التزام "إسرائيل" بالاتفاق يبقى رهيناً باستمرار الضغوط الدولية، ولا سيما من الوسطاء كترامب. تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق، التي تنص على عودة أكثر من مليون نازح فلسطيني إلى منازلهم، سيخلق صعوبة موضوعية أمام "إسرائيل" للعودة إلى الحرب مجدداً.

كما أن الاتفاق ينفذ على مراحل، ما يضع "إسرائيل" أمام تحديات إضافية. أي نقض للاتفاق سيعني بقاء أسرى إسرائيليين لدى المقاومة، وهو ما سيؤدي إلى غضب شعبي كبير داخل "إسرائيل"، خصوصاً إذا لم تستطع الحكومة تقديم مبررات واضحة لاستئناف الحرب.

تنبع أهمية الاتفاق من كونه يوقف الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، بغض النظر عن التقييمات السطحية التي تحاول حصره في إطار "النصر" أو "الهزيمة".

فرغم أن هذه الحرب لم تحرز النصر المطلق على الاحتلال من قبل المقاومة، ولكنها في المقابل، لم تكن هزيمة نكراء مدوية لا لغزة وشعبها الذي سطّر أروع ملاحم الصمود والصبر، ولا لحماس والمقاومة، إذ لا يزال مقاتلوها حتى لحظة التوقيع في مواقعهم يشتبكون ويكبّدون العدو الخسائر.

استهدف الإسرائيلي في حربه قبل أي شيء الإنسان الفلسطيني في عملية إبادة جماعية جسدية وتجريف معنوي للوعي الفلسطيني، قبل أن يستهدف القدرات العسكرية للمقاومة وقادتها، لذا حفظ الدم الفلسطيني هو الانتصار الأهم، بعيداً من أي سجال حول الهزيمة أو النصر، وكون هذه الحرب ما هي إلا حلقة من سلسلة طويلة من الصراع المستمر مع الاحتلال الإسرائيلي، يجب أن ينصب جام الاهتمام على كيفية الاستفادة من هذه الحرب؟

من خلال وضعها على طاولة التقييم واستخلاص العبر، فالاتفاق لا يشكل نهاية الصراع، بل مدعاة إلى التفكير في مستقبل الصراع وطرق إدارته الأمثل والأنجع والأكثر تأثيراً، والأقل كلفة، هذا من جهة، والبحث عن سبل لإعادة بناء ما دمرته الحرب، نفسياً وجسدياً واقتصادياً، كضمانة وحيدة لمواصلة النضال ضد الاحتلال، وهذا مطلوب بالضرورة ممن يؤمن بوجوب استمرارية المقاومة والنضال ضد الاحتلال قبل أي جهة أخرى.

فمن أجل مواجهة المخطط الإسرائيلي الحقيقي لهذه الحرب، من المهم أن يتمحور التركيز الآن بعد وقف إطلاق النار حول تلبية احتياجات الشعب الفلسطيني، من إعادة النازحين إلى بلداتهم ومدنهم، وتوفير المأوى والحياة الكريمة لهم، من أجل تعزيز الإنسان الفلسطيني على أرضه في مواجهة مخططات التهجير الطوعي، التي سرعان ما ستطل برأسها مجدداً بعد الحرب، ناهيك بضرورة تكريس وعي الإنسان الفلسطيني بجدوى فكرة المقاومة وأهمية دورها في حماية الشعب والأرض.

أولى الخطوات الفعلية لتحقيق ذلك، تتطلب تقييم الحرب بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والأمنية بشكل موضوعي واستخلاص الدروس اللازمة، من خلال المراجعة الشاملة لخطط المقاومة واستراتيجياتها وعلاقتها بشعبها قبل أن تخضع أي جهة أخرى، فالحرب ليست مجرد حدث عابر بل محطة ينبغي لها أن تفتح باب المراجعة، والمحاسبة ليس من أجل الانكفاء عن مشروع المقاومة والنضال بل لضمان استمرارية المشروع وتحقيق أهدافه الوطنية المشروعة.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.