إلى الخليج الهادر.. هل يُسمع النّفير؟
هذا ليس مقالاً للحكم أو الدفاع عن مجتمعات لم يسمح لنا بمعرفة الكثير عنها، لكنّه مقال مؤمن بالشعوب؛ الشعوب التي تهبّ للدفاع عن قضاياها في بلدان طبّعت منذ عشرات السنين.
"يا وطني الكبير، هل تسمع النفير؟
من المحيط الثائر.. إلى الخليج الهادر"
تحضرني هذه الكلمات هذه الأيّام مع إعلان استكمال النّفير التطبيعي الأردني والمغربي، وما رافقه من تظاهرات طلابيّة وشعبيّة في البلدين، واعتقالات لعدد من الناشطين والطلبة، يقابلها النّفير التطبيعي الإماراتي والجولات العديدة لوزير الخارجية الصهيوني ومسؤولي الأمن والاستخبارات وغيرهم، وتطلّعاتهم السرمديّة إلى علاقات أكثر دفئاً ومتانة مع سلطات هذه الدول، من دون أن يرافق هذه الزيارات أي صدى يُذكر للخليج الّذي نريده هادراً وصارخاً ومواجهاً، كما في ذاكرتنا التي تنشد معاني القومية والوحدة العربيّة، ليس لضرورات تاريخية وعقائدية وعاطفيّة فحسب، وإنّما لعلمنا أنّ الشعوب - مهما حاولت الأنظمة جعل ذاكرتها "سَمَكيّة" - وحدها تدفع ضريبة الخضوع لعدوّها، فهل الشعوب الخليجية توافق اليوم حقاً على التطبيع؟ وهل الأنظمة الخليجية التي تسعى للحصول على تكنولوجيات المراقبة والاستخبارات من الصهاينة تأمن فعلاً شعوبها الصائمة – بالإكراه - عن الكلام منذ زمن؟
لا يختلف اثنان على أن الأنظمة الخليجية متطرّفة جداً في التعامل مع الآراء المناهضة لسياساتها الداخليّة والخارجيّة، وأنها تشنّ حملات اعتقال لأسباب تافهة، فما بالك بالإدلاء بآراء سياسيّة مناوئة لتطلّعاتها! وأن التهديد بالقتل والاعتقال لا يطال مواطنيها فحسب، بل يطال حتى الوافدين للعمالة لديها إلى درجة أن هؤلاء يتحرّزون في حياتهم العامّة في مواقع التواصل الاجتماعي من حيث الإعجاب أو التعليق على منشورات لا ترضي سياسة الدولة، خوفاً من الاعتقال أو الترحيل.
ولنا أن نتذكّر التهديدات السعوديّة الأخيرة في الأزمة المفتعلة مع الوزير اللبناني جورج قرداحي، لنحكمَ على تفوّق تلك الأنظمة في استعباد الناس وقمع كلّ من يخالفها الرأي، ولو كان لا ناقةَ له فيها ولا جمل، فكيف يمكن الحكم اليوم على شعب ترأسه "ديوك" تقف على مزبلة التاريخ للتوقيع باسمه على تطبيع لم يؤخذ رأيه به، ولم يستفتَ عليه؟ وكيف يمكن توقّع نفير عظيم في بلاد أقل ما توصَف به أنّها ممالك التطهير الكبرى (في مقال نشره موقع "عين الشرق الأوسط" (Middle East Eye)، وُصفت المملكة السعودية بمملكة التطهير الكبرى إبّان حملات الاعتقال الواسعة التي حدثت فيها إثر تولّي محمد بن سلمان زمام السلطة).
هذا ليس مقالاً للحكم أو الدفاع عن مجتمعات لم يسمح لنا بمعرفة الكثير عنها، لكنّه مقال مؤمن بالشعوب؛ الشعوب التي تهبّ للدفاع عن قضاياها في بلدان طبّعت منذ عشرات السنين، وما زالت صرخات الرّفض تقيّد تحويل هذا التطبيع إلى علاقات اجتماعيّة ومحليّة ترحّب بمغتصبٍ لأرض يسعى لأخذها عنوة وكراهية، وهي نفسها الشعوب التي تدفع ثمن الانهزام والسكوت مضاعفاً، ولنا في "أوسلو" وما رافقها حتى يومنا هذا خير مثال على الثمن الفادح الّذي دفعه الفلسطينيون إفقاراً وتهجيراً واعتداءً وتنكيلاً وأسراً واستشهاداً.
إن الشعوب الخليجية المغلوبة - إلى حدّ ما - على أمرها وحدها تعرف ثمن هذا العهر الفاضح، والتقارير التي تبرر أسباب عدم إقدام السعودية على توقيع اتّفاقيات التطبيع مع الكيان الصهيوني تتحدّث عن خشية كبيرة لدى ابن سلمان من حركات مناهضة لها، ناهيك بأنّ هذه التقارير نفسها تتحدّث عن فتور العلاقات الدبلوماسية بين السعودية والإدارة الأميركية، وأحد أسبابها الأخبار التي تتحدّث عن انتهاكات حقوق الإنسان فيها.
لذا، تراهن هذه السلطات اليوم على خلق الوهم بعداوة "إيران - الشيعيّة" لدى شعوبها، وتراهن على قدرة التخويف والتهديد على غضّ بصرهم عن المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة واستبدال ذاكرتهم بذاكرة مستقبليّة عن أعداء افتراضيين يريدون "تشييعهم" بالقوة ومسخ هويّتهم وتحويلهم إلى عبيد في مشروع إمبراطوري وهميّ يسكن خيال هذه السلطات أكثر بكثير ممّا تفترضه حكايات الخيال والميتافيزيقيا، وهي رهانات قد لا يكون الهدف منها إلا كسب مزيد من الوقت لتطبيق اتّفاقيات تزوّدهم بأجهزة الاستخبارات والتجسس الصهيونية، وبها يطبقون على أنفاس محكوميهم، وينامون قريري الأعين بأن نَفَساً لن يخرج قبل أن يمرّ على الديوان الملكي!
ونحن أيضاً نراهنُ على الوعي والحكمة، وعلى أن صوت المعركة مع العدو الحقيقي سيعلو على ضجيج الأوهام والخرافات، وأن أصوات الجماهير التي خرجت في الأيام القليلة الماضية في الأردن والمغرب ستطرق سمع الإنسان الخليجي لتذكّره بالّذي يجب حقاً تذكّره...
ونراهن على تلك القلّة التي خرجت عشية التطبيع الإماراتي والبحريني لتندد به في بيانات وائتلافات أعرب من خلالها العديد من الناشطين عن الرفض والاستنكار، وتشكّلت في إثرها ائتلافات، منها "ائتلاف الخليج ضدّ التطبيع"، ونُظِّمت ندوات تابعها عدد كبير من الناشطين في السعودية والإمارات والبحرين وسلطنة عمان والكويت وقطر، وكلّها رفضت التطبيع، فضلاً عن التصريحات المناوئة للتطبيع التي يدلي بها شيوخ ووجهاء وحكام في إمارات معيّنة، رغم كلّ الضغط الممارس عليهم لإجبارهم على مباركة الخطوة.
قد يكون النفير المسموع اليوم هو نفير التطبيع، وقد يكون الإسلام الراندي (نسبةً إلى مؤسسة "راند" الأميركية) الّذي يكيّف الإسلام كما يناسبه سياسياً هو اليوم التيار الأكثر رواجاً في تلك المجتمعات، كما يقول أستاذ الفقه السعودي محمود السعيدي، لكن في بالنا ما زالت صورة الخليج الهادر تغطّي تصدّعات الواقع، فنحاول أن نسمع الأخبار المقتضبة القادمة من هناك، ونترجمها بكلّ لغات الرفض التي نحبّها، لنؤكد أن قلّة قليلة يكاد صوتها لا يُسمع ما زالت تعرفُ عدوّها جيّداً، وتربي أطفالها جيّداً، وتخطط أن مستقبلها يجب أن يكون كما يليق بالشعوب الحرّة أن تكون: "مقاوِماً، لا مطبِّعاً، ولا مستسلِماً".