"إسرائيل" تنزف.. فرصة تعزيز التناقض

الوقت ملائم. ظروفٌ كهذه توفر بيئة خصبة لتسريع الانفجار، من خلال إقفال الدائرة، وتحفيز مكوّنات النواة على التسارع. 

  • "إسرائيل" تنزف.. فرصة تعزيز التناقض

مهما حاول رئيس حكومة الاحتلال دفع محور المقاومة في اتجاه عدم الرهان على الأوضاع الداخلية لكيانه، فإن الوقائع والمعطيات تسجّل كل يوم خلاصات معاكسة. 

لم يعد الأمر يحتاج إلى ردّ من أطراف المحور على كل تصريح صادر عن بنيامين نتنياهو، بما في ذلك التقدير الذي خرج به في خطابه منذ أيام. تتكفّل بهذه المهمة جهاتٌ من داخل الكيان. رئيس الحكومة الأكثر تطرّفاً في تاريخ الكيان، ويُفترض في هذه الحالة أنها الأكثر اندفاعاً وعدوانية، رأى أن أعداءه مخطئون للغاية إذا اعتقدوا أن الدعوات إلى رفض الخدمة والسجال داخل "إسرائيل" هي "الوقت الملائم".

معلّق الشؤون العربية في "القناة الـ12" الإسرائيلية وصف الخطاب بأنه فارغ تماماً، بينما هاجمه بيني غانتس، ودوّن في "تويتر" أنه "بالبكاء لا يبنون قيادة". وكذلك فعل رئيس الحكومة السابق، نفتالي بينيت، مغرداً أنه "خطاب غير قيادي، ومخجل".

لم تتمحور ردود المعارضة والصحافة الإسرائيليتين حول تقدير نتنياهو بشأن رهانات أعدائه حصراً، وإنما حول ما جاء في مجمل الخطاب، الذي اتهم فيه المعارضة بالتسبب بتأَكُّل الردع الذي اعترف به ضمناً. بيد أن مقالات كثيرة سبقت الخطاب فنّدت هذه النقطة تحديداً، ودعمتها باستدلالات واستنتاجات.

غداة الخطاب، توصّلت الحكومة الإسرائيلية إلى قرار منع اليهود من اقتحام حرم المسجد الأقصى حتى نهاية رمضان. عكست الصحافة الإسرائيلية، بدايةً، وجود تباين بشأن هذا القرار بين قادة الأجهزة الأمنية وبعض الوزراء المعنيين. لاحقاً، أعلنت أنه تم بإجماع الأجهزة الأمنية، وبتوصية من وزير الأمن، يوآف غالانت.

لم يأتِ قرار المنع، بخلاف ما درجت عليه العادة سابقاً في السماح باقتحام الأقصى، نتيجة أسباب إنسانية أو استجابة لضغوط خارجية، إنما جاء أساساً نتيجة تقديرات وتبعات لا يمكن أن تتحمّلها حكومة نتنياهو في هذه المرحلة. مفاعيل إطلاق الصواريخ من غزة ومن جنوبي لبنان لَـمّا تنتهِ بعدُ، وإن حاولت مجموعة من الصحف والأجهزة الإسرائيلية تليينها عبر استحضار أسباب، وعزل أخرى، من أجل تبرير قرار منع دخول الأقصى لليهود.

في هذا الإطار، نقلت "القناة الـ12" العبرية، عن مصادر في الشرطة الإسرائيلية، أن المعلومات الاستخبارية أظهرت وجود خشية من أن تنزلق المواجهات في الحرم القدسي إلى المدن المختلطة. إلّا أن صحيفة "إسرائيل هيوم" كانت أكثر وضوحاً عبر الإشارة إلى توتّر في كل القطاعات من شوارع القدس والحرم القدسي، وصولاً إلى حدود لبنان وسوريا وغزة، عدا عن هجماتٍ محتملة في أنحاء فلسطين التاريخية.

وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، أبدى انزعاجه من القرار، وعارضه بداهةً، كما هو متوقَّع. موقف يتضافر مع أجواء من الاستياء والغضب بدأت تعمّ أوساط الناخبين المؤيدين للائتلاف اليميني الحاكم. يتوقع هؤلاء من الحكومة ورئيسها أن يمارسا السلطة فعلياً، على نحو يعكس رغباتهم وأجنداتهم، عبر المضي قُدُماً في تنفيذ السياسات والمشاريع التي ينادون بها، والتي أدّت إلى ما أدّت إليه من إشكاليات وشروخ في الداخل، ومع الخارج. وهذا ما يفسّر انخفاض شعبية حزب الليكود ونتنياهو في استطلاعات الرأي الحديثة. لكن، ماذا في يد نتنياهو أن يفعل؟

لا هو قادر على السير إلى الأمام وترجمة أجندة اليمين المتطرف الذي يحكمه، وإلّا فإنه يخاطر في هذه الحالة في دفع الشرخ الداخلي إلى مستويات تُنذر بحرب أهلية، وبتفاقم الأزمة مع الإدارة الأميركية، وأيضاً بتصعيد المواجهة مع الفلسطينيين، وتسخين جبهتي غزة ولبنان في الحد الأدنى. ولا هو قادر على المراوحة، وإلّا فإنه يخسر مزيداً من رصيده ومن رصيد حكومته، الأمر الذي قد يؤدي إلى انتقال الشرخ إلى داخل الائتلاف الحكومي.

هذا الواقع المشحون بتناقضات تتصل جذورها بأزمة بنيوية عميقة داخل الكيان، معطوفاً على تناقضات ناتجة من تغيّرات في البيئتين الإقليمية والدولية لغير مصلحة "إسرائيل"، في مقابل معادلات قوة راسخة وحديدية بات يفرضها محور المقاومة، أمورٌ تجعل من الصعب على "إسرائيل" تنفيس أزمتها المتشعّبة في حرب خارجية من دون أن تعمل ألف حساب، الأمر الذي يدفع الأزمة إلى الارتداد عليها من جديد فيما يشبه الدائرة المقفلة. 

أهمية الوصول إلى معادلة ترابط الساحات وتكاملها بين أطراف محور المقاومة وميادينه تكمن في هذه النقطة بالتحديد. ظروف كهذه توفر بيئة خصبة لتسريع الانفجار من خلال إقفال الدائرة وتحفيز مكونات النواة على التسارع.

أبرز الأدوات التي يمكن أن تساهم في هذه النتيجة هي العمليات الفدائية داخل فلسطين المحتلة. يزيدها زخماً الضغطُ المتزامن من مختلف الساحات. أهمية ذلك في هذه المرحلة أن نتائجها لا تنحصر فقط بالجانب المعنوي، وتشرّب الوعي الإسرائيلي انعدامَ الأمن واستحالة الانتصار، بل تشمل أيضاً تحقيق أهداف سياسية، من شأنها أن تعزّز التناقض أكثر في ساحة تحمل ما يكفي من التناقضات والشروخ السياسية والاجتماعية. فعلى أي أساس، يدعو نتنياهو أعداءه إلى عدم الرهان على أن "الوقت ملائم" على خلفية السجال الداخلي ورفض الخدمة؟

الضغوط المتواصلة والمتصاعدة على الجهاز العصبي للاحتلال المستنفر طيلة الوقت تعزز عملية تحفيزه. إذا تكامل ذلك مع عمليات خارجية تقيّد حركته ومبادرته في الداخل، من خلال إجباره على دفع الثمن، كمثل عملية إطلاق الصواريخ والمسيّرات الأسبوع الفائت من غزة ومن جنوبي لبنان ومن الجولان، فإنه لن يطول الوقت ليصل إلى النقطة التي يفقد فيها أعصابه. 

صحيح أنه لا يجب عدم الركون إلى النتائج التي تحقّقت في الجولة الأخيرة، وأن نتنياهو يتحيّن الفرصة لرد الاعتبار إلى الردع المتأَكِّل على مستوى الكيان، وإلى صورته على المستوى الشخصي الآخذة في التدهور، وصحيح أن "إسرائيل" لم تفقد قوتها التدميرية الهائلة، ولا ردعها بالكامل، وأن مخالبها وأنيابها ما زالت قادرة على الإيذاء، مسنودةً بأجهزة أمنية مشهود لها بالكفاءة المهنية، لكن رؤية المشهد، من أبعاده المتعددة، يُظهر أنها باتت تقاتل قتالاً تقهقرياً، وأن الوقت بات يشكّل عبئاً إضافياً عليها، في موازاة تقلّص الحلول والحيل التي يمكن أن تلجأ إليها.

قد تنجح "إسرائيل"، في الأيام والأسابيع المقبلة، في تحقيق خرق أو تنفيذ عمل أمني يمكن تسويقه داخلياً، كإنجاز، في محاولة لترميم الردع وتعديل موازين القوى، لكنه يبقى إنجازاً موضعياً لا يغيّر في المعادلات الكبرى وفي المسار العام. هذا إذا لم يقابل عملها أي رد يؤجج جنونها.

واقع "إسرائيل" اليوم يسمح بتشبيهها بذئب جريح يعاني نزيفاً حاداً، وهو محاط بمجموعة من الحراب التي تتقدّم نحوه ببطء، لكن بثبات وعزيمة. حراب لا يستطيع الفكاك منها، وكلما تقدم الوقت فقدَ مزيداً من الدماء.