أنت مختلف
إن هذا الكون يعكس رؤيتنا له بكل التفاصيل، ويمكن لنا دائماً أن نغيّر الصورة التي يتم عكسها.
فكرة أنك تعيش في عالم مختلف عنك هي إحدى الحالات الوهمية التي يُطلقها العقل المفكّر بناءً على المعطيات المحيطة به. يصيبنا هذا التفكير أينما حَلَلْنا. ولو استرجعنا كل الماضي الذي عشنا فيه لَوجدنا العلة الحقيقية التي تواظب على اللحاق بنا. دائماً ما كنا نشعر بأننا لا ننتمي إلى هذا المكان الذي لا يتقبَّل كل أفكارنا أو أفعالنا. وهذا الشعور هو ما يحفّز العقل على الاستمرار في التفكير، من أجل إخراجنا من المحنة التي نستمرّ في استدراجها، والعيش من خلالها.
كل المجتمعات، كما كل الأماكن، يشبه بعضها بعضاً. يكمن الفارق الوحيد بين كل ذلك فيمَن يخوض تلك التجربة، وكيف يخوضها. إن عقل التفكير يُصدر أحكاماً عشوائية على كل أشكال الحياة المحيطة ببيئتنا، كما أنه يستنبط أحكاماً فارغة نتيجة لكتلة الألم التي قام باحتضانها من الماضي، وأصرّ على استحضارها في كل لحظة من المستقبل، الذي لم ولن يأتيَ أبداً.
نمارس معظم أيام حياتنا من دون تقبّل، ودائماً نخوض الصراعات والمعارك الخارجية والداخلية كي نحصل على نسخة مُرضيه من الحياة، أو على أمل في المستقبل يمنحنا كل أشكال الراحة التي نطمح إليها. لكننا نغفل عن أن التجربة التي نمارسها في هذه الحياة هي نتيجة كل الأفكار والأفعال التي نقوم بتطبيقها في عالمنا المادي. إننا لا نتحمّل مسؤولية ردّ فعلنا على الأحداث، بل نحن نكون المسؤولين المباشِرين عن كل حدث يصيب حياتنا. وإذا برمجنا عقولنا على تردّد تحمّل المسؤولية المطلقة، لَوجدنا وسائل لا نهاية لها لخلق نسختنا الخاصة من الواقع. وهذا فن في حد ذاته؛ فن التقبّل.
أنت مثير للشفقة! هكذا ينطق عقلك المفكّر حين تحاول الاستسلام، وتقبَل الكون كما هو من دون رغبة في تغيير أي شيء. إن الشيء الوحيد الذي يحتاج إلى أن يتغيّر هو أنت، وخصوصاً أفكارك في العقل الواعي. وما إن تبدأ رحلة التغيّر ستجد عراقيل شتى يقدّمها إليك عقل التفكير الذي تسيطر عليه "الأنا"، ويمنعك من متعة الاستسلام الحقيقي، بحيث إن "الأنا" تخاف التغييرَ الذي لا تعرف عنه شيئاً. فبالنسبة إلى "الأنا"، فإن الاستسلام بالمعنى المادي هو ضعف وفقدان للسيطرة، وهذا ما تتجنّبه "الأنا" بكل طاقتها، ويعكس فينا كل أشكال الصراع، داخلياً وخارجياً، في آن واحد. نعم، يجب علينا التخلي عن فكرة السيطرة أو التملّك. لسنا في حاجة إلى أن نسيطر على الأمور كي تكون لمصلحتنا، أو نتملّك الأشخاص أو الجماد حتى يصبحوا جزءاً منا لا نستطيع التخلي عنه. كي لا نصاب بخيبات الأمل علينا أن نعي أن الكمال، الذي نبحث عنه من خلال السيطرة أو التملّك، موجودٌ في داخلنا، وهو يحتاج إلى الاستسلام فقط لا غير. وبقاؤنا في تلك الحلقة المفرغة يمنع عنا لذة الحياة الحقيقية، والتي تتجلّى في كل لحظة من الحياة.
أحياناً نعتقد أن ومضة من النور أصابتنا وأصبحنا غريبين عن المجتمع الذي نعيش فيه، وتتدخل "الأنا" فينا كي تعكس لنا صورة غشيمة مفادها أننا أفضل من كذا أو كذا، بناءً على بعض أفكارنا الوهمية عن التنوير، غافلين في معظم الأوقات عن مشقّة الرحلة التي نخوضها، من دون أن نسمح للمجتمع أو بعض أفراده المقرّبين منا بأن يأخذوا بعضاً من الزمن الذي قطعناه حتى وصلنا إلى ما نحن عليه. هنا يكون الاختلاف مَرَضاً نشعر به، كأن كل حياتنا سوف تتحسّن حين نغيّر المجتمع أو نرحل عنه. وفي كل مرة نرحل، نجد كتلة الألم نفسها تلاحقنا بأشكال متعددة، مسبّبة لنا الحالة النفسية نفسها أينما حَلَلْنا. فالهروب الذي نمارسه في هذه الحالة هو هروب من أنفسنا، لأن كل ما نقوم بمحاربته في الخارج، أي المجتمع، موجود في داخلنا، ولو أنكرت "الأنا" ذلك. وعدم تقبُّلنا هذا الواقع يجعلنا نتخبط من مكان إلى مكان، ومن رحلة إلى أخرى، من دون جدوى، بل في بعض الأحيان نكون قد استنزفنا أنفسنا بكل ما فيها، حدّ الانهيار التام.
إن هذا الكون يعكس رؤيتنا له بكل التفاصيل، ويمكن لنا دائماً أن نغيّر الصورة التي يتم عكسها. وكي تتغيّر الصورة في المرآة علينا أن نتغير من الداخل، ونسمح لغيرنا، بدون إطلاق الأحكام من خلال الحب غير المشروط، بأن يأخذ وقته في التغيير. فالاختلاف هو وقود الحياة. ولو كنا نسخاً مطابقة لما أدركنا النور أبداً...
نعم، أنت مختلف، وكذلك الجميع...