لماذا الإصرار على تكبيل منظومة الأمن القومي بالمقاربة الأمنية؟
في المنطقة العربية، يصطدم التغيير ببنيات ذهنية وفكرية تقليدية تأبى التغيير أو التفكير في محاولة التعايش معه.
يشهد العالم تحوّلات جذرية يستعصي معها توقّع نمط العيش الَّذي سيسود، وطبيعة النظام العالميّ الجديد الذي يبدو قيد التشكّل، وكنه العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لكن من المؤكد أنَّ السّلطة ستُحصر بيد العلم والمعرفة، ولن يكون هناك مكان لمن التمس الجهل ببنياته الفكرية المتآكلة سبيلاً للعيش.
عندما نعاين ما بدأت تحدثه ثورة الذكاء الاصطناعي من هزات وزلازل في البنيات الاجتماعية والاقتصادية القائمة، وكيف بدأت تتحكّم في عملية صنع القرار في قلب القوى العظمى، نعي جيداً مدى حتمية التغيير والتطور والاجتهاد لضمان البقاء في عالم رهيب لا يرحم. ثمة ثورة مفاهيمية عميقة تفرض الإقبال على عملية إعادة بناء المفاهيم وأنماط التفكير لتحقيق التأقلم مع المتغيرات العالمية وتأمين النجاة.
في المنطقة العربية، يصطدم التغيير ببنيات ذهنية وفكرية تقليدية تأبى التغيير أو التفكير في محاولة التعايش معه. تظل المقاربة المتبعة منذ عقود قائمة على معادلة تحقيق "الأمن ثم التنمية"، بمعنى أولوية استتباب الأمن جغرافياً، لتفادي الفوضى والتسيّب، قبل التفكير في الخوض في تجربة التنمية.
ارتبطت هذه المقاربة بمسار بداية بناء الدولة الوطنية بعد فترة الاستعمار أو الحماية، واستمرت لعقود من الزمن، وانتقلت من خاصية "الظرفي" إلى الأبدي، وأوجدت لها جذور ممانعة تسعى إلى الاستدامة والبقاء.
أصبحت مقاربة "الأمن ثمّ التنمية" متجاوزة وعليلة، ولعلَّها تفرز عوائق أكثر من البدائل. على الرغم من ذلك، ثمة إصرار على عدم المسّ بثوابتها إلى درجة التقديس والاستماتة في الدفاع عنها. يجد هذا الإصرار دوافعه في محاور متعدّدة، أهمّها ما يلي:
- الخوف من التغيير نفسه ومخرجاته، ومن إمكانية ولوج فاعلين جدد إلى عملية صناعة القرار، وفقدان الامتيازات الشخصية بكلّ أنواعها.
- تميّز ذهنية صنّاع القرار ونفسيتهم بالهشاشة والوهن، لما يستوطنها من خوف وهلع. وتبقى شرعيتهم مهدّدة في أي لحظة، لانفصال تدبيرهم عن هموم الشعوب.
- ثقل الفكر القبلي في البنيات الفكرية والسياسية.
- اعتماد السّلطة السياسيّة على معايير تتجاوز قراءة نبض الشارع، وعلى التبجح بالثقة بالنفس. أما شرعيتها، فتقوم على الوهم والغرور وجنون العظمة.
- العجز في إبداع الحلول، والنزوع نحو الحلول السهلة والجاهزة والقرارات الارتجالية.
من نافل القول إنَّ مقاربة الأمن التقليدية تستند إلى إخضاع الناس بالترويع، ودبّ الخوف والهلع في نفوسهم، وإطلاق العنان لشطط وزارة الداخلية واحتكارها جميع السلطات، لكن إلى متى ستظلّ مقاربة كهذه صامدة وقائمة، وهي تحمل في طياتها من بذور الأفول ما ينذر بالسقوط والاندثار، وتقوم بتحدّي عامل الزمن المتحرك، وحصر المعطى الجغرافي بحدود تتجاوز المقاربة والتعريف، وتحيل إلى التطويق أكثر من الحماية الوقائية الاستباقية، وتتغاضى عن واقع الانفتاح على التغيّرات العالميّة؟ وهل يظلّ مفهوم السيادة ثابتاً في مقاربته التقليدية؟
مع مقاربة "الأمن ثمَّ التنمية"، تتعمَّق الهشاشة، ويسود الفقر، وتنتشر الجريمة والانحراف والتطرّف والفساد، لكن بنوعية بنيوية تتخلَّلها المأسسة والعمق والتّشابك الذي يصعب تفكيكه أو فهمه.
في الحقيقة، لم يعد من الممكن التفريق بين معطى الأمن ومعطى التنمية، إذ يجد الأمن نواته الصّلبة في تجربة التنمية بمفهومها العميق والرؤيوي، ويظلّ اللامادي هو المحرك والموجه والمهيمن، وليس المادي.
يرتبط الأمن بمعطيات الاستقرار النفسيّ والذهنيّ والروحيّ والإدراك وتجاوز سقف التمكّن من إشباع الغرائز البدائية بكثير، إذ يمتدّ إلى النهوض بطموحات الناس، وفتح آفاق جديدة في رحاب البيئة التشاركية، وتحقيق الكرامة والعزة، والانخراط في حركيّة العالم الجديد.
يتمثّل الأمن في المواطن الَّذي يدرك واجباته وحقوقه، ويكون مؤهلاً للانخراط في عمليات البناء والإنتاج والإسهام، ومشبعاً بحسّ وطنيّ عقلانيّ، وهو يجد وعاءه في منظومة قيم تحمي تماسك النسيج الاجتماعي، مهما اختلفت طبيعة مكوّناته وأجناسها.