أميركا بين غزة وأوكرانيا... ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين

أظهرت المواقف الغربية تجاه حرب غزة للعالم بوضوح كيف أن الغرب يتبع سياسة ازدواجية المعايير مراعاة لمصالحه. فالرئيس الأميركي قالها بصراحة، إن انتصار أوكرانيا و"إسرائيل" أمر حيوي لواشنطن.

  •  ازدواجية المعايير الغربية والكيل بمكيالين.
    ازدواجية المعايير الغربية والكيل بمكيالين.

بعد حادثة طوفان الأقصى، أعلنت الإدارة الأميركية دعمها المطلق واللامحدود لـ "إسرائيل" في " الدفاع عن نفسها" ضد هجمات المقاومة الفلسطينية. وتهافت على زيارة "تل أبيب" المسؤولون الأميركيون، على رأسهم الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي زار "إسرائيل" والتقى برئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، وكان العناق حاراً بينهما لحظة وصول بايدن إلى "تل أبيب"، وظهر نتنياهو بمظهر الطفل المدلل الذي تعرّض لنكسة وجاء بايدن، الأب الحنون، لمساعدته ومساندته في مصيبته على الرغم من أن العلاقات بينهما شهدت توتراً خلال الفترة الأخيرة حيث امتنع الرئيس بايدن عن استقبال نتنياهو بعد إعادة انتخابه رئيساً للوزراء، أواخر العام الماضي، إلى أن تمّ اللقاء بينهما في شهر أيلول/سبتمبر الماضي، ووصف بأنه كان لقاءً فاتراً وأظهر تراجعاً للثقة بين الرجلين.

ومن "إسرائيل" أعلن الرئيس الأميركي أن واشنطن ستزود "تل أبيب" بكلّ ما تحتاجه لـ " الدفاع عن نفسها" من أسلحة. أما وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن فقد هبّ لزيارة "إسرائيل" بعد أيام قليلة من عملية طوفان الأقصى، وقال خلال الزيارة إنه يأتي للتضامن مع "إسرائيل" بصفته يهودياً.

كما زار "إسرائيل" عدة مرات وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن لتأكيد التزام واشنطن الثابت بدعم "إسرائيل"، والاطلاع على سير العمليات العسكرية في غزة، وحاجات "إسرائيل" من الذخائر والأسلحة. ومن ناحية أخرى، أرسلت واشنطن حاملات طائرات وأنظمة دفاع جوي إلى الشرق الأوسط تحسّباً لتوسّع رقعة الصراع في المنطقة، في محاولة منها لردع أطراف أخرى من التدخّل في حرب غزة وفتح جبهات جديدة، وترك "تل أبيب" تقتل وتهجّر الشعب الفلسطيني.

تنتهج الولايات المتحدة الأميركية سياسة ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين بشأن الحرب في غزة، فهي رفضت إدانة المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني في قطاع غزة والتي راح ضحيتها أكثر من 11 ألف شهيد، 70% منهم من الأطفال والنساء وآلاف المصابين والمفقودين. فـ "إسرائيل" بدم بارد، وتحت غطاء أميركي وبأسلحة أميركية، قصفت بيوت الفلسطينيين على رؤوس ساكنيها من دون توجيه إنذار مسبق، واستهدفت المستشفيات ودور العبادة والمدارس والمخابز وخزانات الوقود والمياه، وفرضت حصاراً على القطاع في محاولة منها لتجويع السكان وإجبارهم على النزوح نحو الجنوب تمهيداً لتهجيرهم نحو دول أخرى، وكل ذلك تحت ذريعة القضاء على حركة حماس.

تباينت المواقف الأميركية حول استهداف المدنيين والبنى التحتية خلال الحرب الروسية الأوكرانية والهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة، فمع بدء الحرب الروسية الأوكرانية وصفت الولايات المتحدة الأميركية الهجمات الروسية على أوكرانيا بأنها "عدوان"، بينما الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة هي "دفاع عن النفس" بعد عملية طوفان الأقصى التي قامت بها حركة حماس يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

ومن ناحية أخرى، اتهم الرئيس الأميركي نظيره الروسي فلاديمير بوتين بأنه مرتكب "جرائم حرب" في أوكرانيا. وبعد اكتشاف الكثير من الجثث في مدينة بوتشا الأوكرانية، اتهم الغرب روسيا بارتكاب هذه المجزرة، وهو ما نفته موسكو بشدة، ووصف الرئيسُ بايدن بوتين بأنه مرتكب " جريمة إبادة جماعية" وفرض عقوبات إضافية على روسيا، وعلّقت عضوية الأخيرة في مجلس حقوق الإنسان. 

فظهر الغرب بموقف المدافع وحامي حقوق الإنسان والديمقراطيات في العالم، بينما غض النظر عن الجرائم التي يرتكبها بنيامين نتنياهو، والتي ترمي إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية، فهي جرائم لم يشهد العالم لها مثيلاً بقطع إمدادات الوقود عن مستشفيات غزة ما أدى إلى وفاة العشرات من المرضى والأطفال الخدج.

تتعرّض مستشفيات غزة ، التي تحوي آلاف النازحين والمرضى، لقصف "إسرائيلي"، ومنع لوصول الوقود إليها لتشغيل المولدات الكهربائية فيها، وجرى اقتحام بعضها وتفجير مستودعات الأدوية والأجهزة الطبية في مستشفى الشفاء على مرأى ومسمع العالم أجمع من دون أن يحرّك أحد ساكناً، بينما عندما اتُهمت روسيا بقصف مستشفى الأطفال والولادة في ماريوبل بأوكرانيا، وهو ما نفته روسيا واعتبرته مسرحية مدبّرة للحفاظ على المشاعر المناهضة لروسيا لدى الرأي العام الغربي، قال بايدن إن العالم كله متحد من أجل دعم أوكرانيا وجعل بوتين يدفع ثمناً باهظاً. 

بايدن نفسه رفض اتهام "إسرائيل" بارتكاب مجزرة مستشفى المعمداني، التي وقعت قبل يوم من زيارته إلى "تل أبيب"، وراح ضحيتها أكثر من 400 شهيد جلّهم من الأطفال والنساء. وبعد الضغوط الداخلية والخارجية على الولايات المتحدة لمنع استهداف المستشفيات قال الرئيس الأميركي إنه حثّ الجانب الإسرائيلي على عدم استهداف المستشفيات، وعدم اقتحام مستشفى الشفاء، وبالرغم من ذلك أقدمت القوات الإسرائيلية على دخول المجمّع الطبي، وهذا ما يفسّر أنّ واشنطن لا تضغط على "تل أبيب" من أجل عدم استهداف المستشفيات والمدنيين، بل على العكس زادت من مساعداتها العسكرية لها.

يتهم الغرب روسيا زوراً بأنها قامت بالترحيل القسري للأوكرانيين إلى روسيا، وعلى إثر ذلك فرضت عقوبات إضافية على موسكو واتهمتها بارتكاب جريمة حرب، علماً بأن روسيا فتحت ممرات آمنة لإجلاء المدنيين الذين غادر قسم كبير منهم أوكرانيا، بينما لم يرَ العالم الغربي التهجير القسري الذي تقوم به "إسرائيل" للسكان من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، ومن دون أن توفّر لهم في بعض الأحيان ممرات آمنة، فتستهدفهم على الطرقات وتقصف مناطق جنوب القطاع التي تدّعي بأنها آمنة.

في مؤتمر ميونخ للأمن الذي عقد خلال شهر شباط/فبراير الماضي قالت نائبة الرئيس الأميركي كاميلا هاريس إن روسيا ارتكبت "جرائم ضد الإنسانية" وستتم محاسبة مرتكبي هذه الجرائم. وأكد أنتوني بلينكن تصريحات هاريس وذكر بأنه لا يمكن أن يكون هناك إفلات من العقاب على هذه الجرائم، بينما لم نسمع صوتيهما حول المجازر الإسرائيلية ومحاسبة المسؤولين الإسرائيليين عنها. 

وإذا كانت المحكمة الجنائية الدولية قد أصدرت مذكّرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فمن المستبعد أن تتم محاسبة المسؤولين الإسرائيليين على الرغم من أن مدّعي عام المحكمة الجنائية كريم خان صرّح من أمام معبر رفح بأنه سيفتح تحقيقاً حول الجرائم المرتكبة داخل الأراضي الفلسطينية، لأن الغربيين الذين ضغطوا على المحكمة الجنائية لإصدار قرار باعتقال الرئيس الروسي هم أنفسهم سيعملون لمنع محاسبة المسؤولين الإسرائيليين بارتكاب الجرائم في غزة.

أظهرت المواقف الغربية تجاه حرب غزة للعالم بوضوح كيف أن الغرب يتبع سياسة ازدواجية المعايير مراعاة لمصالحه. فالرئيس الأميركي قالها بصراحة، إن انتصار أوكرانيا و"إسرائيل" أمر حيوي للولايات المتحدة الأميركية ومن شأنه أن يعزّز أمن أميركا. ولكن مساندة بايدن لـ "إسرائيل" انقلبت عليه حيث يواجه ضغوطاً داخلية وخارجية وباتت حظوظه في الفوز بانتخابات الرئاسة ضئيلة.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.