أزمات العراق الاقتصاديَّة بين الحلقات المفرغة والحلول الغائبة

إنَّ أي معالجة في العراق تتوقف عند العوامل الخارجية وتهمل العوامل الداخلية، ستكون غير مجدية، بل إنَّ المنهج الحقيقي للحلول ينبغي أن ينطلق من تفكيك العوامل الداخلية لتحقيق الإصلاحات المنشودة.

  • إقدام الحكومة على خفض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار بحوالى 20%، لم تكن خطوة صحيحة
    إقدام الحكومة على خفض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار بحوالى 20%، لم تكن خطوة صحيحة

خلال العامين الأخيرين، تعرَّض الاقتصاد العراقي لهزات وانتكاسات كبيرة، تسببت بتراجع الأوضاع الحياتية والمعيشية لفئات وشرائح اجتماعية كثيرة. تجلى ذلك التراجع من خلال تزايد معدلات الفقر، وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين، وارتفاع أسعار المواد الغذائية وغير الغذائية، ولا سيما بعد خفض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار الأميركي وتصاعد معدلات التضخّم.

وإذا حددنا قراءة المشهد الاقتصادي العراقي في العامين الأخيرين، يمكن تشخيص 3 وقائع أو أحداث ساهمت بنسب متفاوتة في تعميق الأزمة الاقتصادية - الحياتية، وهي:

- التظاهرات الاحتجاجية التي انطلقت في مطلع شهر تشرين الأول/أكتوبر 2019 في العاصمة بغداد وعدد من محافظات البلاد، للمطالبة بتحقيق الإصلاحات وتصحيح مسارات العملية السياسية والقضاء على الفساد بشتى أشكاله ومظاهره وصوره.

- ظهور جائحة كورونا في أواخر العام 2019، وتفشيها وانتشارها في مختلف بقاع العالم، ومن بينها العراق، حيث ظهرت أول إصابة بالفيروس في 24 شباط/فبراير من العام الماضي، لينتشر في ما بعد في كل مدن البلاد ومحافظاتها بسرعة قياسية.

- الانخفاض الحاد في أسعار النفط في الأسواق العالمية، تزامناً مع تفشي جائحة كورونا، جراء تراجع الطلب على هذه السلعة الاستراتيجية. وبما أن العراق يعتمد بصورة أساسية في دخله القومي على النفط كمصدر أساسي وشبه وحيد، فقد كان من الطبيعي جداً أن يتأثر كثيراً، لينسحب ذلك التأثير على كل القطاعات والمجالات.

وفي ما يتعلق بالتظاهرات الاحتجاجية، فهي، وإن كان تأثيرها محدوداً مقارنة بتأثير جائحة كورونا وانخفاض أسعار النفط، إلا أنها، ولعدة شهور، عطلت وشلَّت مركز العراق التجاري والاقتصادي الأول، المتمثل بسوق الشورجة وسط العاصمة بغداد، بصورة شبه تامة. وقد ألقى ذلك التعطل والشلل بظلاله الثقيلة على أعداد كبيرة من الناس، بدءاً من التجار الكبار وأصحاب المحلات والمشاريع الكبيرة، مروراً بالتجار الصغار، وانتهاءً بأصحاب البسطات والباعة المتجولين وأصحاب المطاعم وسائقي سيارات الأجرة.

ولا شكّ في أن توقف نشاط وحركة سوق الشورجة والمناطق المحيطة به والقريبة منه، يعني تفاقم المشاكل والأزمات الحياتية التي تعانيها فئات وشرائح اجتماعية عديدة، تعتمد في تأمين احتياجاتها ومتطلباتها الأساسية على العمل اليومي ذي العائد المالي المحدود.

ومع بداية العام 2020، وبينما لاحت في الأفق بوادر انفراج في حلحلة الأمور، من خلال إعادة الحياة إلى قلب بغداد الاقتصادي، ظهرت جائحة كورونا لتزيد الطين بلّة، إذ إن تأثيراتها وانعكاساتها لم تقتصر على مدينة دون أخرى أو على قطاع اقتصادي حياتي دون آخر، فقد ضربت بقوة، وفي وقت واحد، كل المفاصل، ولا سيما على الصعيد العالمي المرتبط بالواقع المحلي، كما هو الحال بالنسبة إلى أسعار النفط التي تراجعت بشكل حاد وسريع، مع تدني الطلب عليه إلى حد كبير خلال الشهور الستة الأولى من ظهور الجائحة.      

ووفقاً لتقرير صادر عن المرصد الاقتصادي العراقي في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، "تراجعت إيرادات الحكومة العراقية بنسبة 47% في الشهور الثمانية الأولى من العام 2020، بينما بقيت النفقات مرتفعة نتيجة لفاتورة الأجور العامة والرواتب التقاعدية. وتسبّبت مثل هذه الالتزامات الصارمة في الموازنة المالية بضغوط على احتياجات التمويل الحكومية التي يتوقع أن تصل إلى نسبة ضخمة تبلغ 25.8% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية العام 2020". 

ويقول المرصد في تقريره المذكور: "حتى في ظل سيناريو الأثر المخفف، قد يواجه ما يصل إلى 5.5 مليون عراقي الفقر نتيجة لهذه الصدمة المزدوجة. فضلاً عن ذلك، يمكن للتقليص المحتمل لفاتورة الأجور العامة والرواتب أن يدفع ما بين 0.4 إلى 1.7 مليون عراقي آخر إلى الفقر، ما لم يتم تنفيذ إجراءات التقليص على نحو تدريجي وفعال". 

وتوقع المرصد الاقتصادي انكماش اقتصاد البلاد بنسبة 9.5% خلال العام 2020. وبينما انخفضت أسعار النفط إلى أدنى مستوى لها خلال 5 أعوام، انكمش الاقتصاد العراقي بنسبة 6.8% خلال النصف الأول من العام، بما في ذلك انكماش الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي بنسبة 9.2%، بعد أن ألقت إجراءات الإغلاق العام والاحتواء الخاصّة بجائحة كورونا بظلالها على قطاع الخدمات.

ولم تكن الصورة التشاؤمية القاتمة التي رسمها المرصد الاقتصادي بعيدة عن الواقع، وهو ما أثبته المعطيات والحقائق اللاحقة، وما اتفقت عليه أطراف عديدة، وإن كانت نظراتها إلى الأزمة من زوايا وأبعاد مختلفة ومتفاوتة. 

ويذهب محللون وخبراء في الشؤون المالية والاقتصادية إلى "أن الأزمات الأمنية والاقتصادية المتعددة في الأعوام الأخيرة تركت تأثيرات مناطقية وفئوية متفاوتة في العراق، بيد أن آفاق المستقبل الاقتصادي للبلد تتوقف على احتمالات انتعاش أسواق النفط وقدرة قطاع الرعاية الصحية على التكيف مع جائحة كورونا".

وفي منتصف شهر نيسان/أبريل الماضي، أعلنت وزارة التخطيط العراقية ارتفاع مؤشرات الفقر في البلاد إلى 27%، فيما أكدت أن العراق يعيش أزمة مركبة. وفي ذلك، يقول المتحدث باسم الوزارة عبد الزهرة الهنداوي: "بعد رفع سعر صرف الدولار، إن مؤشر التضخم ارتفع بنسبة 4.9 إلى 5%، بينما ارتفعت مؤشرات الفقر الأولية بنسبة 26 - 27%"، مشيراً إلى أن "وزارة التخطيط انتهت من إعداد خطة الإصلاح والتعافي، وأخذت بعين الاعتبار الأزمة المركبة التي يعيشها البلد، الاقتصادية والصحية، وما نجم عنها من رفع نسبة الفقر ورفع الأسعار والتضخم وحالة الانكماش الاقتصادي التي عصفت به".

ويرى متخصّصون، فضلاً عن عموم الرأي العام، أن إقدام الحكومة على خفض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار بحوالى 20%، لم تكن خطوة صحيحة، لأنها إذا كانت قد عالجت من خلالها مشكلة نقص الموارد المالية بالعملة المحلية المطلوبة لتأمين رواتب الموظفين والمتقاعدين وشبكة الحماية الاجتماعية، وضمان استمرار تمويل ودعم المؤسسات المختلفة - ولا سيما الصحية منها - فهي خلقت مشاكل أخرى، أو بتعبير آخر، فاقمت المشاكل الحياتية القائمة لدى أغلب الناس، باعتبارها أدت من الناحية الفعلية إلى تراجع القيمة الحقيقية لما يتقاضاه ملايين الموظفين الحكوميين وأصحاب المهن الحرة في القطاع الخاص من جانب. ومن جانب آخر، أفضت إلى ارتفاع السلع والبضائع بصورة تلقائية، لأن العراق يعتمد بنسبة كبيرة جداً في تأمين مختلف احتياجاته من السلع الأساسية والكمالية على الاستيراد بالعملة الصعبة - الدولار – ومن الطبيعي أن رفع قيمة الأخيرة يعني في ما يعنيه رفع أسعار السلع المستوردة، ليزيد ويفاقم معاناة المواطن العادي صاحب الدخل الشهري أو اليومي المحدود.        

كما أن الورقة البيضاء للإصلاح الاقتصادي، التي أقرها مجلس الوزراء العراقي في شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، وصادق عليها البرلمان في وقت لاحق، لم تفلح في التخفيف من وطأة المشاكل والأزمات الاقتصادية، رغم مرور ما يقارب عاماً على إقرارها، وبقيت موضع جدل وسجال حاد بين من يراها قارب إنقاذ وحلّاً حقيقياً، ومن لا يرى فيها إلا رؤى نظرية بعيدة عن واقع الحال وتعقيداته الكبيرة والكثيرة. 

هذه الرؤية التشاؤمية لم تتشكل وتتبلور من فراغ، إنما استندت إلى أرقام وحقائق ووقائع ومعطيات تراكمت على مدى الأعوام الثمانية عشرة المنصرمة، هذا إذا لم نشأ الخوض في ما خلفته سياسات نظام حزب "البعث" المنحل (1968-2003) من كوارث ومآسٍ وويلات.

صحيح أن جائحة كورونا والهزات العنيفة في أسواق النفط، يُضاف إليها بقدر معين جانب من إفرازات التظاهرات الاحتجاجية وتبعاتها، هي التي رسمت صورة المشهد الاقتصادي العراقي خلال العامين المنصرمين، لكن في الحقيقة إن جوهر الأزمة أو المشكلة لا يكمن في العوامل الثلاثة المشار إليها، ولا بالفترة الزمنية المحصورة بعامين، وإنما هناك عوامل أخرى تمتدّ على مساحة زمنية أوسع.

من بين هذه العوامل، غياب التخطيط السليم وتعدد الاجتهادات الارتجالية المحكومة بأمزجة سياسية وتفكير ضيق ومحدود، ناهيك بتفشي الفساد الإداري والمالي في مختلف مفاصل الدولة، من أعلى قمة الهرم وحتى أدنى نقطة في القاعدة. يتجلى ذلك بمئات أو آلاف المشاريع المتلكئة والفاشلة والمتوقفة والأساليب العقيمة في معالجة مشكلات البطالة، من خلال التوظيف الحكومي، بدلاً من إصلاح الواقع الصناعي والزراعي، وتفعيل القطاع الخاص، وتهيئة البيئة الاستثمارية الجاذبة، وليس الطاردة لرؤوس الأموال.    

وكذلك، إنَّ الاحتلال الأميركي وهيمنة واشنطن على مختلف المفاصل الحكومية، ومنها الاقتصادية والمالية، مثل البنك المركزي، فضلاً عن تحكّم الإدارة الأميركية في موارد العراق المالية عبر صندوق تنمية العراق (DFI) تحت إشراف بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، بحجة حمايتها من الملاحقات القضائية من الدائنين والمطالبين بالتعويضات، كان له أثر سلبي كبير في تبديد أموال طائلة وتوفير الغطاءات للكثير من الفاسدين، أفراداً كانوا أو مؤسسات أو شركات، واستمرار الدوران في حلقة مفرغة في ملفات حساسة وحيوية، من قبيل ملفي الكهرباء والنفط.  

إلى جانب ذلك، إن الإرهاب بنسخته الأولى المتمثلة بتنظيم "القاعدة"، ونسخته الثانية المتمثلة بتنظيم "داعش"، ساهم هو الآخر بتعميق الأزمات الاقتصادية والحياتية في العراق وتوسيعها، سواء من خلال تدمير البنى التحتية والمنشآت الحيوية والمؤسسات الخدمية أو الإنفاق الكبير من قبل على المؤسسات الأمنية والعسكرية، لتمكينها من مواجهته والتصدي له. ولا شك في أنَّ الإرهاب في العراق وعموم المنطقة يعد نتاجاً للاحتلال الأميركي والتواجد الأجنبي، ولم يخطئ من اعتبر الفساد والإرهاب وجهين لعملة واحدة.  

من الطبيعي أن أي معالجة تتوقف عند العوامل الخارجية الطارئة، كجائحة كورونا وارتفاع أسعار النفط، وتهمل العوامل والظروف الداخلية، ستكون غير مجدية ولا طائل منها، بل إنَّ المنهج الحقيقي للحلول الجذرية ينبغي أن ينطلق من تفكيك العوامل الداخلية، لتحقيق الإصلاحات المنشودة، ومثلما قال المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي، ساروج كومار جا، قبل بضعة أسابيع، "إن جسامة التحديات الاقتصادية التي يواجهها العراق تحتاج إلى حلول طويلة الأمد وإصلاحات هيكلية طال انتظارها. وإذا ما تم تنفيذ الإصلاحات التي نصت عليها الورقة البيضاء للحكومة، فسوف تعزّز خلق الوظائف، وخصوصاً في القطاع الخاص، والنمو الاقتصادي، وهما شرطان أساسيان لتحسين سبل عيش العراقيين". 

لكن لا يبدو حتى الآن أن المؤسسات المالية الدولية الكبرى، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أصبحت جزءاً من الحل، ولم تعد جزءاً من المشكلة في العراق، كما هو الحال مع بلدان أخرى. في الوقت ذاته، إن ورقة الإصلاحات البيضاء لا يمكن أن ترى النور وتتحرك في المسارات الصحيحة والصائبة من دون أن تتوفر لها الأرضيات والمناخات الملائمة. ومتى ما تم ذلك، فحينذاك يمكن انتظار نتائج طيبة، وإن كان الأمر يتطلب وقتاً طويلاً وصبراً كثيراً.