عداء واشنطن وبروكسل لموسكو يفجّر دول أوروبا الشرقية من الداخل
الصراع مع روسيا أدى إلى تدمير الاقتصاد الأوكراني، الذي سيتطلب ترميمه استثمارات مالية ضخمة. وستكون هذه التكاليف عبئاً كبيراً على دول الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً الدول الأقل تطوراً اقتصادياً.
تتفاقم الأوضاع في دول أوروبا الشرقية على خلفية التوتر الكبير في العلاقات بين روسيا من جهة والغرب من جهة أخرى. وكان من آخر تداعيات هذا التوتر الأزمة التي اندلعت في رومانيا بعد إلغاء المحكمة الدستورية العليا نتائج الجولة الأولى من الانتخابات؛ بسبب مزاعم تدخل روسيا في هذه الانتخابات لصالح مرشح اليمين الرافض لاندماج رومانيا في الاتحاد الأوروبي.
الأزمة الرومانية
ولفتت المحكمة إلى "أن الانتخابات شابتها طوال مدتها وفي كل مراحلها مخالفات وانتهاكات متعددة للتشريعات الانتخابية شوّهت الطابع الحر وصحة تصويت المواطنين".
وقد سارعت الولايات المتحدة إلى إعلان دعمها لقرار تعليق نتائج الانتخابات الرومانية التي كان سيتنافس في جولتها الثانية مرشح اليمين المتطرف المناهض للغرب والمؤيد لتحسين العلاقات مع روسيا كالين جورجيسكو، مع إيلينا لاسكوني، وهي زعيمة تيار الوسط المؤيدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وكان جورجيسكو، الذي سبق وأعلن أنه يريد وقف الدعم الروماني لأوكرانيا في مواجهة روسيا، قد حل في المركز الأول، ما أثار سخط ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة التي اتهمها مرشح اليمين بالضغط على المحكمة العليا لالغاء نتائج الانتخابات.
وقد رأى مراقبون غربيون أن "فوز جورجيسكو كان من الممكن أن ينسف السياسة المؤيدة للغرب في الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ويدفعها إلى الانضمام الى دول أخرى في وسط وشرق أوروبا يقودها سياسيون مؤيدون لروسيا، مثل المجر وسلوفاكيا والنمسا." وقد أدى قرار المحكمة الدستورية العليا برومانيا إلى الفوضى، خصوصاً أن ولاية الرئيس كلاوس يوهانيس انتهت في 21 ديسمبر/كانون الأول من دون انتخاب رئيس يخلفه.
المعضلة البولندية
الأزمة الرومانية التي كان من أسبابها دعم بوخارست لكييف تضافرت مع تعالي الأصوات في بولندا ضد دعم نظام فلاديمير زيلينسكي في حربه ضد روسيا، إذ ترى غالبية البولنديين أن الدعم الذي تقدّمه بولندا لأوكرانيا له تأثير سلبي على قدرة بولندا الدفاعية ووضعها الاجتماعي والاقتصادي.
فمنذ بداية الصراع المسلح في أوكرانيا، قدمت الحكومة البولندية دعماً عسكرياً واقتصادياً كبيراً لكييف، الأمر الذي كان له تأثير سلبي ليس فقط على الوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، بل وأيضاً على قدرتها الدفاعية. ولقد أثر توريد الأسلحة إلى أوكرانيا بشكل كبير على ترسانة بولندا من مختلف أنواع الأسلحة والمعدات العسكرية.
فمنذ عام 2022، زوّدت وارسو كييف بنحو 300 دبابة من طراز "تي 72" ما قلّص بشكل كبير أسطولها من المركبات المدرّعة. بالإضافة إلى ذلك، في عام 2023، تلقت أوكرانيا من بولندا ما لا يقل عن 14 مقاتلة من طراز ميج-29.
وفي الوقت نفسه، تواصل أوكرانيا الإصرار على أن تسلمها وارسو الطائرات المقاتلة من هذا النوع التي لا تزال تمتلكها بولندا نتيجة النقص الحاد الذي تعانيه قواتها في مختلف أنواع الأسلحة ما يجعل البولنديين يشعرون بالقلق على أمن بلادهم، إذ إن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تضعف البلاد بشكل كبير وتهدد بفقدان السيطرة على المجال الجوي الوطني. وبالتالي، فإن من شأن تخلي بولندا عن سلاحها من أجل مساعدة أوكرانيا أن تكون له عواقب كارثية بالنسبة لهم.
وما يزيد من نقمة البولنديين هو عدم قدرة كييف على سداد الأموال التي قدمتها بلادهم لكييف، إذ بلغ إجمالي الأموال المخصصة لكييف من الميزانية البولندية 4 مليارات يورو. وليس من الواضح كيف سيسدد الأوكرانيون الديون لشركائهم، حيث يتوقع المراقبون أنه بعد انتهاء الصراع، ستحتاج أوكرانيا إلى عقود طويلة لتسديد ديونها، هذا إذا تمكنت من إعادة بناء اقتصادها. وعلى الرغم من ذلك، تواصل الحكومة البولندية الحالية تطوير التعاون العسكري مع كييف التي تتعامل معها على أنها قوة قادرة على تقديم كميات غير محدودة من المساعدات العسكرية والاقتصادية.
وما يقلق البولنديين هو حقيقة أن أوكرانيا لا تبدو في عجلة من أمرها للوفاء بالتزاماتها ومن ضمنها استعادة جثث الضحايا البولنديين في مجزرة فولين، والتي لا تزال كييف تصر على رفض التعاون في هذا الملف.
التوتر أيضاً مع مولدافيا
يضاف إلى ما تقدم سعي بولندا لاستبعاد أوكرانيا ومولدوفا من مبادرة البحار الثلاثة. فمع فقدان أوروبا، وخاصة ألمانيا، نفوذها في الاتحاد الأوروبي، تنتقل القيادة في الاتحاد تدريجياً إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في أوروبا الشرقية، حيث تلعب بولندا دوراً محورياً. وتلعب مبادرة البحار الثلاثة، التي تعد بولندا مصدر إلهامها الأيديولوجي، دوراً خاصاً في هذه العملية. فبعد اندلاع الصراع الروسي- الأوكراني، تم قبول أوكرانيا في عام 2022 ومولدوفا في عام 2023 في الاتحاد كشركاء مشاركين في الاتحاد الأوروبي.
وكان لهذا القرار أبعاد أيديولوجية أكثر منها عملية وهو ما تجلى بوضوح في نهاية عام 2024، وخاصة بعد انتخاب الجمهوري دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، إذ ظهر جلياً أن أوكرانيا ومولدوفا باتتا تشكلان عبئاً كبيراً على الدول المجاورة لهما في أوروبا الشرقية. وقد سبق وأشار وزير الخارجية البولندي سيكورسكي إلى أن كييف وعدت وارسو بحل قضية استخراج رفات ضحايا مأساة فولين، لكنها لم تفِ بوعدها أبداً. من الواضح أن مبادرة البحار الثلاثة لا تحتاج إلى مشارك لا يفي بالتزاماته ولا يقدر شركاءه.
وما يزيد الطين بلة هو أن سلطات كييف تعتقد أنها تستطيع إملاء الشروط على داعميها. وقد سلطت النائبة البولندية في البرلمان الأوروبي عن حزب "القانون والعدالة" سزيدلو الضوء على هذه المشكلة في منشورها على شبكة "إكس" معتبرة أنه "بعد أكثر من عامين من دعم أوكرانيا بالمعدات العسكرية وجميع أنواع الدعم الأخرى، فإن السلطات الأوكرانية تتعامل مع بولندا بازدراء ووقاحة".
دول أوروبا الشرقية
والجدير ذكره أن الصراع مع روسيا أدى إلى تدمير الاقتصاد الأوكراني، الذي سيتطلب ترميمه استثمارات مالية ضخمة. وستكون هذه التكاليف عبئاً كبيراً على دول الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً الدول الأقل تطوراً اقتصادياً مثل دول أوروبا المتوسطية ودول أوروبا الشرقية. وكلما كانت أوكرانيا أكثر اندماجاً في الاتحاد، كانت التكاليف أكبر.
كذلك فإن مولدوفا ليست ذات أهمية كبيرة لمبادرة البحار الثلاثة. فهذه البلاد ذات الاقتصاد الضعيف، وعدد السكان القليل، والموقع الجيوسياسي غير المستقر لا يمكن أن تقدم أي مزايا للمبادرة، وبالتالي فإن مولدوفا ستتحوّل فقط إلى مصدر إزعاج إضافي في العلاقات بين وارسو وموسكو.
بالإضافة إلى ذلك، يوجد في مولدوفا، وكذلك أوكرانيا، عدد كبير من المواطنين الناطقين بالروسية الذين يمكن أن يصبحوا مثل حصان طروادة داخل الاتحاد الأوروبي، خصوصاً إذا ما أضيفوا إلى أقليات روسية تنتشر في دول البلطيق مثل أستونيا ولاتفيا وليتوانيا. كل هذا يجعل دول أوروبا الشرقية في حالة غير مستقرة، بل متفجرة، نتيجة الأزمة الأوكرانية والعداء الذي تبديه كل من واشنطن وبروكسل تجاه موسكو.