الحبر الأعظم في العراق مُبارِكاً انتصار "حشد الشجعان"
زيارة البابا فرنسيس إلى العراق بمكوناته كافة جاءت لتؤكّد وحدة العراق الّتي ثبَّتها "حشد الشجعان" بدماء شهدائه، ولتضيء للأقليات، المسيحية وغيرها، بارقة أمل بمستقبل آمن في عراقٍ موحدٍ.
لا تفوق نكبة ضياع فلسطين العربية (1948) فظاعةً ورهبةً إلّا نكبة الأمّة العربية بتنظيم "داعش" وإرهاب التكفيريّين؛ الإرهاب الذي يهدّد بضياع الأمّة العربية برمّتها، بتاريخها وحضارتها، بشعوبها وتعايشها، بمسيحيّيها ومسلميها، وبمعتقداتها ومذاهبها، هذا الإرهاب الذي خُطِّط له أن يكون مدمّراً للأمّة والكيان، وأن يكون قاضياً على كلّ معالم الوحدة والتعدّدية التي لطالما ميّزت هذه الأمة، وما زالت حربه مفتوحة على كلّ الاحتمالات.
لم تكن أبداً مصادفة أنْ نجد هذا الجنون الغريب على أرض الدّيانات السماويّة، فقد كان هناك ارتباط وثيق بين هذه الفوضى العاصفة بالقتل والتدمير والتهجير، والميزة التاريخيّة لبُقعة كانت مهد الحضارات والثقافات منذ أقدم العصور.
وإذا عُدنا إلى تاريخيّة العلاقة بين اليهود والإسلام والمسيحيّين، لَوَجَدْنا أُسُساً واضحة لعلاقة ثابتة بين المسيحيّين والإسلام، ارتكزت على أكثر من آيةٍ كريمةٍ، كما ارتكزت على التعاطف والمودّة، فأنتجت تعايُشاً وتداخلاً حضاريّاً وإنسانيّاً، ولَوَجَدْنا أيضاً تباعُداً ونُفوراً بين اليهود من جهة والإسلام والمسيحيّين من جهة أخرى. من هنا وُلِدَت المؤامرة لضرب حضارات الشرق، ولِزرع بُذور الفِتنة وتعميم ثقافة القتل والتدمير.
في الواقع، تمّ في الأساس اختيار دولة العراق هدفاً تنطلق منه قنبلة تفجير الشرق العربي والإسلامي. وقد بُنِيَ هذا الاختيار على كَوْن العراق يقع في قلب الشرق الأوسط جغرافياً واجتماعياً، ويتميز بتعدّدية كاملة واسعة تمتدّ إلى أغلب الديانات والحضارات والثقافات الإسلامية والمسيحية، ويحتضن مدينة كربلاء ومرقد أهل البيت وأقدم الكنائس في العالم، ويتضمّن ثروات هائلة من النفط والغاز والمياه.
بعد اختيار الهدف، تمّ خلق الذريعة، فساق الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش وتيّاره اليميني المحافظ ادّعاءات كاذبة بامتلاك العراق أسلحة التدمير الشّامل (بيّنت التقارير الأميركيّة التي أصدرتها لِجان التحقيق لاحقاً أنّ العراق خالٍ تماماً من هذه الأسلحة)، وجاء احتلال البلاد وما حمل من تدمير لمؤسّسات الدّولة ومحو لهويّتها الوطنيّة وتفكيك لطابعها المركزي، عبر نشر ثقافة الفوضى والقتل والإقصاء وروح الكراهية والانتقام والثأر بين بعض المكونات العراقية الضعيفة المرتهنة.
هذا التدمير امتدّت شظاياه القاتلة إلى المجتمعات المُجاورة في سوريا واليمن ولبنان والبحرين وبعض دول الخليج، إذ تمّ العمل من خلال التحريض المذهبي المسموم عبر وسائل إعلام مرتهَنة ومأجورة على خلق طفيليّات سياسيّة مذهبيّة، أخذت على عاتقها مهمّة تدمير أبعاد التعايش بين مختلف مكوّنات هذه الدّول المذكورة أعلاه وتحطيمها.
وفي كل ذلك، استند الاحتلال في العراق إلى الميليشيات والجماعات المتطرّفة للقيام بالأعمال القذِرة في التطهير العرقي، وفي التهجير الديني والطائفي، وفي تفجير أماكن العِبادة والأعمال الإرهابيّة المُتبادَلة، وفي عمليّات قتل العُلماء ورجال الدّين والشخصيّات الوطنية الدّاعية إلى الوحدة ونبذ الفتنة.
الأكثر أهميَّة في الموضوع أن "إسرائيل" لم تكن بعيدة من كلّ ذلك، بل كانت في صميم تلك الأعمال القذرة، وجاءت نتائجها الصادمة لمصلحتها. وقد أكّد الكثير من المُحلّلين الغربيّين أنَّ الوجود الإسرائيليّ في العراق في تلك الفترة من الاحتلال الأميركي، كان مكشوفاً وعلنيّاً، وهو ما أكّده الصحافيّ الأميركي سيمور هيرش في مُقابلة نُشِرت في حزيران/يونيو 2004 بِعنوان "كيف خلقت إسرائيل أسطورة القاعدة؟"، وذلك من خلال عملاء الموساد الذين كان اختصاصهم تلغيم السيّارات والتعذيب الجسديّ وقطع الرؤوس. وقد جاء هؤلاء الإسرائيليّون إلى العراق باعتبارهم مدنيّين، عرباً أو كرداً ورجال أعمال، وحتى أيضاً مُقاولين متعاقدين مع الإدارة الأميركيّة.
ولعلّ دور الموساد كان بارزاً في شمال العراق، ولا سيّما في المناطق المتوتّرة، كالموصل وكركوك، إذ تمّ إشعال الفتنة بين العرب والكرد والتركمان، وبين المسلمين والمسيحيّين. وقد ذكرت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية في عددها الصادر في 01/09/2007 أن "أكثر من 250 إسرائيلياً يسافرون سنويّاً إلى العراق للمُتاجرة بالسّلاح"، ولا يخفى ما لهذا العدد من تأثير في أعمال الفِتن والقتل.
ونقلت صحيفة "الشّعب" المصريّة في تشرين الأوّل/أكتوبر 2011 تقريراً نشرته وكالة "وين ماديسون" الأميركية بعنوان "مُخطّط صهيوني كردي في شمال العراق"، تحدّث عن الدور الخطير الذي كان الموساد الإسرائيلي يقوم به بالتعاون مع مسؤولين كرد، لتهجير المسيحيّين في الموصل وكركوك، وبأساليب متنوّعة من القتل والابتزاز والخطف وهدم المنازل، بهدف إفراغ تلك المناطق وإعادة إسكان اليهود الكرد العائِدين من "إسرائيل" فيها.
في المقلب الآخر، كان هناك فريق عراقي وطني آمن بالتعايش والوحدة والعيش السلمي، وفَهِم خطورة مخطّط الفتنة الإسرائيلي الذي أنتجه وأخرجه الاحتلال الأميركي بالتعاون مع الصهاينة على شكل إرهاب "داعش"، فكانت الفتوى التاريخية من المرجعية الدينية الشيعية بالمواجهة والصمود والمقاومة، وكان الحشد الشعبي، "حشد الشجعان"، بما حضن من مكونات عراقية وطنية، بمختلف المذاهب والطوائف والمجموعات الثقافية والدينية، وكانت معركة مواجهة الإرهاب، وكان الانتصار على هذه الجرثومة الصهيونية المنشأ، والتي انتشرت وتمدَّدت برعاية ودفع وتوجيه أميركيّ.
حافظ "حشد الشجعان" في تكوينه المتنوّع على قوة الدولة المركزية وموقعها، رغم الضغوط الخارجية إقليمياً ودولياً، وكان، وما زال، النواة القوية في وجه محاولات الاحتلال، وذلك بشهدائه الَّذين امتزجت دماؤهم، فأنبتت جبهة صامدة ثبتت وحدة العراق.
وفي خضمّ معركة "حشد الشجعان" ضد الاحتلال، جاء الاغتيال الآثم التاريخي لقائدي محور المقاومة، الحاج قاسم والحاج أبو مهدي المهندس، أولاً، انتقاماً من القادة الشهداء الذين قادوا معركة الانتصار على الإرهاب وداعميه، وثانياً، كمحاولة يائسة لزعزعة جبهة العراق الوطنية الصلبة، والتي أدارت وقادت سلمياً، وعبر المقاومة، عملية الضغط المركّز لفرض انسحاب الاحتلال، بعد أن استطاعت هذه الجبهة الوطنية استيلاد قرار جامع من مجلس النواب على شكل توصية ملزمة للسلطات التنفيذية بتسريع إنهاء الوجود والاحتلال الأميركي.
وجاءت أخيراً زيارة الحبر الأعظم البابا فرنسيس إلى العراق بمكوناته كافة، ولقاؤه التاريخي مع المرجع الشيعي آية الله السيد السيستاني، تحت عنوان "لقاء الشجعان"، لتبارك مسيرة الانتصار على الإرهاب، ولتؤكّد وحدة العراق الّتي ثبَّتها "حشد الشجعان" بدماء شهدائه، ولتضيء للأقليات، المسيحية وغيرها، بارقة أمل بمستقبل آمن ومزدهر في عراقٍ موحدٍ وقويٍ ومزدهر.