هل تؤدي استفزازات "الناتو" لروسيا في أوكرانيا إلى الحرب؟
النخب الأميركية تسهب في توضيح المواجهة المسلّحة المحتملة مع موسكو بأنها "قد" تستند إلى 3 احتمالات تنطلق بالتوازي.
منذ بدأ الرئيس الأميركي جو بايدن مهامه الرئاسية، مطلع العام الحالي، تميّزت سياسته نحو روسيا بالتصعيد والحزم، إذ وصف نظيره الروسي بـ"القاتل" وبأنه "سيدفع ثمن" سياساته، ما اعتبره خبراء العلاقات الأميركية الروسية بأنه تصريح جاء بخلاف "إطار الأعراف الدبلوماسية"، واستدعت موسكو سفيرها في واشنطن إثر ذلك، وأقرّت واشنطن حزمة جديدة من القيود على مسؤولين روس ومنتجات روسية.
وقبل تدارك الأمر بين رئيسي البلدين، استمر منسوب التوتر في علاقاتهما ينذر بتدهور جديد، أكده بيان للسفارة الروسية في واشنطن إذ عبّر عن "تصريحات متهورة لمسؤولين أميركيين يمكن أن تؤدي إلى انهيار العلاقات التي تشهد خلافاً كبيراً أساسياً". وسرت توقعات بشأن ضرورة عقد لقاء قمة بين الرئيسين، اِلتأم في الـ 16 من تموز/يوليو الماضي في جنيف مستغرقاً 4 ساعات، "لكنهما لم يحرزا تقدماً ملموساً"، باستثناء إعادة الحرارة إلى اجتماع لجان مشتركة رفيعة المستوى لبحث القضايا الثنائية والدولية، من ضمنها أوكرانيا وبيلاروسيا، واستمر الاحتقان السياسي بين البلدين، عبّر عنه "معهد هدسون" للأبحاث بأن "البيت الأبيض لم يحقق شيئاً، والرابح الأول كان (الرئيس) بوتين".
في تطور لافت، وقبل أقل من أسبوع من لقاء القمة بين الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين، "أمر البيت الأبيض وزارة الدفاع (البنتاغون) بتأجيل التجارب" التي كان مخططاً لها على تقنية صاروخية أسرع من الصوت بعدة مرّات، "كي لا تصعّد التوترات مع موسكو" (صحيفة "بوليتيكو"، 29 أيلول/سبتمبر 2021).
ما لبثت أن حذّرت واشنطن قمة الدول الصناعية "G-20"، المنعقدة في روما في الـ 30 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، من "منسوبٍ عالٍ من عدم الاستقرار" في أوكرانيا، نتيجة توترات تشهدها مع روسيا، واتهامها الأخيرة بأنها تستعد "لاجتياح محتمل" للأراضي الأوكرانية، و"حشد 114،000 جندي" على حدودها مع أوكرانيا، بحسب المصادر الاستخبارية الأميركية.
وكرّست مراكز أبحاث النخب السياسية الأميركية المختلفة ما وصفته بـ"الخطوط الحمر" الأميركية أمام روسيا، وعدم تخطيها، وأن "الاختبار الحقيقي يتمثل في ما إذا كانت روسيا ستغيّر سلوكها وتقلّل من أفعالها العدائية ضد الولايات المتحدة وأوروبا" (مركز التقدم الأميركي، 17 تموز/يونيو 2021).
وتصدّر الأسطول السادس الأميركي، المرابط في البحر الأبيض المتوسط، تصعيد موجة العداء لروسيا بمشاركة "بوارجه ومدمراته الصاروخية"، إلى جانب ترسانات حربية تابعة لـ32 دولة من حلف الناتو وأعوانه، في مناورات استفزازية في مياه البحر الأسود، في الـ13 من تشرين الثاني/نوفمبر الحالي، بالقرب من القاعدة الرئيسية للأسطول الروسي في سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم، اعتبرها رئيس أركان الجيش البريطاني، نيك كارتر، بأنها إيذان "بتجاوز منسوب التوتر بين الغرب وروسيا منذ الحرب الباردة"، محذّراً من "إمكان اندلاع حرب بالصدفة".
في السياق عينه، أجرت البحرية الروسية تدريبات عسكرية "بعد يومين" على انطلاق مناورات "نسيم البحر" لحلف الناتو في أوكرانيا، في أيلول/سبتمبر الماضي. أما في المناورات الأخيرة لحلف الناتو، فقد اكتفت موسكو "بمتابعة طائرات وسفن دول الناتو في المنطقة"، بحسب تصريحات منسوبة للرئيس فلاديمير بوتين، وخشية الجانب الروسي أيضاً من مغزى تلك المناورات للدلالة على "تعديل" في أولويات الاستراتيجية الأميركية، التي تطمح إلى اعتبار البحر الأسود منطقة عمليات للأسطول السادس، وانتهاكاً أيضاً لاتفاقية مونترو، المبرمة لتنظيم حركة مرور السفن الحربية والتجارية عبر المضائق التركية، والتي تحظر بقاء السفن الحربية أكثر من 3 أسابيع للدول غير المطلّة على البحر الأسود. التفّت واشنطن مع ذلك على الشرط المقيّد بتدوير سفنها وبوارجها الحربية مرة كل 21 يوماً في المنطقة.
أما المواجهة المسلّحة "الافتراضية" مع موسكو، فقد أسهبت النخب الأميركية في توضيحها، بأنها "قد" تستند إلى 3 احتمالات تنطلق بالتوازي في مواجهة روسيا: شبه جزيرة القرم في الجنوب، ومقاطعة كالينينغراد على بحر البلطيق في الغرب، وجزر كوريل المتنازع عليها بين روسيا واليابان (دورية "ذي ناشيونال انترست"، 22 تشرين الأول/اكتوبر 2021).
وفي حال نشوب حرب مع موسكو من دول حلف الناتو، يعتقد الخبراء العسكريون الغربيون أن روسيا ستدفع بقواتها التابعة للجيوش المنضوية إلى اللواء 41 عبر أراضي بيلاروسيا باتجاه مقاطعة "سوالكي"، والتي ستنضم إلى القوات الروسية في محافظة كالينينغراد المحاطة ببولندا وليتوانيا على بحر البلطيق، ومن ثم سيدخل الجيش الأول في الحرس المدرّع المعركة ويتقدم نحو نهر "أودر"، بمحاذاة الحدود البولندية الألمانية.
وأكدت الدورية الأميركية أعلاه "التطور العالي لأسطول الغواصات الروسية"، والذي يوفّر لها "ميزة مطلقة في البحر الأسود، ويمكنها من تدمير حاملات الطائرات الأميركية بسرعة وسهولة في حال ظهورها" في تلك المنطقة. واستطردت أن القوات البحرية المهاجمة "محكوم عليها بالهزيمة في معظم الأحيان" إن دخلت المعركة من دون حماية جوية، مشيرة إلى شبه إجماع بين الخبراء العسكريين الغربيين على تفوّق نظم الدفاع الجوي الروسية وقدرات أخرى رديفة في القرم.
جدير بالذكر الإشارة إلى تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، على هامش قمة الدول الصناعية في روما، محذراً واشنطن من إنشاء قواعد جديدة في رومانيا وبلغاريا، ودفعهما "إلى انتهاج سياسات صدامية إلى حد كبير، وأن ذلك لا يسهم في تعزيز الاستقرار الدولي".
نيات واشنطن في منطقة البحر الأسود تتميّز بالوضوح، كما شهدنا في شهر نيسان/إبريل من العام الحالي، وبالسعي بشتى السبل لاستدراج روسيا إلى "فخ" عسكري ضد أوكرانيا وتحشيد "حلفائها" خلفها، بيد أن خياراتها الإقليمية لم تنضج في موازاة الرغبات أو تتبلور في خطوات عسكرية، باستثناء الاستفزازات المتواصلة في مواجهة روسيا.
وجددت مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية، آفريل هينز، قبل أيام معدودة، التهويل بقرب غزو روسيا لأوكرانيا، ورحلت على عجل قاصدة بروكسل، مقر قيادة حلف الناتو، لوضع مندوبي الحلف في "أجواء المعلومات الاستخبارية الأميركية حول احتمال تدخل روسيا عسكرياً في أوكرانيا". وفي الوقت عينه، تحدث رئيس هيئة الأركان الأميركية، مارك ميللي، مع القائد الأعلى للقوات الأوكرانية، فاليري زالوجني، وتبادلا وجهات النظر بشأن "أنشطة روسيا المقلقة في المنطقة" (صحيفة "نيويورك تايمز"، 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2021).
واستطردت الصحيفة نقلاً عن مصادرها الأمنية، بأن الأجهزة الاستخبارية في لندن وواشنطن "لديها اقتناع مشترك بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يُعدّ لعمل عسكري للسيطرة على مساحات واسعة من أوكرانيا، أو لزعزعة استقرارها بما يضمن قيام حكومة موالية لموسكو". وعزا المسؤولون الأميركيون التشدد الروسي نحو أوكرانيا إلى انعكاس حالة الإحباط المتزايدة لدى الرئيس الروسي من "تعثر المسار السلمي الذي تتصدره فرنسا وألمانيا منذ العام 2014". ومع خروج المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل من المسرح الدولي "تتراجع حدة الضغوط على أوكرانيا لتقديم تنازلات" لروسيا.
جدير بالذكر أن المدمرة الأميركية المسلّحة بصواريخ موجهة، "يو أس أس دونالد كوك"، تعرّضت للتشويش الإلكتروني خلال إبحارها في البحر الأسود "وأضحت مشلولة، على الرغم من حمولتها المتطورة من نظام "إيجيس" للدفاع الجوي" في العام 2017. بل استطاعت القوات الروسية العاملة في سوريا، والمسلحة بنظم إلكترونية متطورة، التشويش على وسائط الاتصالات التابعة للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها (دورية "ذي ناشيونال انترست"، 3 أيلول/سبتمبر 2021).
كما أكّد رئيس هيئة العمليات البحرية الأميركية، جون ريتشاردسون، نجاح روسيا في التشويش على قطع البحرية الأميركية قائلاً: "يلجأ البحارة الأميركيون إلى تطبيق وسائل دفاعية متواصلة ضد مساعي روسيا للتشويش الإلكتروني، كما شهدناه في عمليات الساحة السورية، وتعرضنا للتشويش أيضاً ونحن في عرض المياه الدولية" (موقع "صوت أميركا"، 6 آب/أغسطس 2018).
أمام هذه اللوحة من الضغوط الأميركية "لتوريط" حلفائها الأوروبيين في استفزاز روسيا، يدرك الأخيرون جيداً، وخصوصاً المنضوون إلى حلف الناتو، ارتفاع أسعار الطاقة على الصعيد العالمي، وبلدانهم على أبواب فصل الشتاء القارس، وكذلك اعتمادهم المتزايد على الغاز الروسي الذي "سيدخل كأحد سبل الضغط" من قبل الرئيس الروسي على الدول الأخرى.
ما يضاعف منسوب قلق الدول الأوروبية من فعالية الحليف الأميركي، ولا سيما تلك التي كانت تحت مظلة "حلف وارسو" قبل نحو عقدين، دراسة أجرتها "مؤسسة راند"، الوثيقة الصلة بالبنتاغون والصناعات العسكرية، خلصت فيها إلى أن "حلف الناتو لن يكون بمقدوره حماية الدول الأعضاء على الحدود الشرقية استناداً إلى الموارد الراهنة". وأضافت الدراسة أن تمارين الحروب دلّت على ضرورة توافر "7 كتائب عسكرية (قتالية) للحؤول دون سقوط سريع لدول بحر البلطيق الثلاث".
سارعت واشنطن إلى سد بعض الثغرات البنيوية في ترسانة "الناتو" التسليحية، التي أشّرت عليها دراسة "راند" وبيانات موازية أخرى، بإعادة تفعيل وحدة قتال نووية في ألمانيا، "دارك إيغل"، مهمتها إطلاق نيران أسلحة أسرع من الصوت ضد مواقع القيادة والتحكّم في روسيا، والتي باستطاعتها الوصول إلى موسكو في غضون 21 دقيقة ونصف، تعزّزها وحدات وأسلحة أخرى متطورة موجهة ضد الأراضي الروسية.
عقدت لجنة القوات المسلّحة في مجلس الشيوخ، البالغة الأهمية ومحور صنع القرار الاستراتيجي الأميركي، جلسة استماع في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر الحالي، شارك فيها إيان بريجينسكي، نجل مستشار الأمن القومي الأسبق زبغنيو بريجينسكي، حول "أمن البحر الأسود"، سلّط فيها الضوء على "طموحات روسيا العدوانية، وموقفها الهجومي لا يزال ماثلاً أمامنا اليوم ويمثّل تهديداً حقيقياً لأوكرانيا وأمن منطقة البحر الأسود".
وحثّ بريجينسكي (الابن) الولايات المتحدة على "بلورة استراتيجية شاملة في مواجهة روسيا، وزيادة الحضور العسكري المتطور لجيوش الحلفاء والشركاء (أوكرانيا وجورجيا)، والانتقال إلىى مرحلة الحرب الهجينة بتسخير عامل القوة الاقتصادية في المواجهة" ضد الغاز الروسي.
وذكّر بريجينسكي أعضاء لجنة القوات المسلحة بخطورة التساهل مع روسيا التي "لو أُتيحت لها الفرصة لإخضاع أوكرانيا، فلن تتوقف عن ممارسة دورها كإمبراطورية، والإمبراطورية ببساطة لا يمكنها الارتقاء إلى مستوى الديموقراطية الحقة".
لا تزال توقعات المراقبين في واشنطن تستبعد إقدام بوتين على غزو أوكرانيا، حتى كتابة هذه السطور، وتقرأ في التحركات الروسية العسكرية بُعداً ردعياً للناتو ودعماً للجماعات "الانفصالية" المؤيّدة لروسيا.
إذا أقدمت واشنطن على خطوات تصعيدية، بإرسال المزيد من الأسلحة النوعية وخاصة منظومات دفاع جوي فعالة ضد سلاح الجو الروسي، فقد تقدم روسيا على استهدافها وتوجّه إنذاراً بخطوات ميدانية، وبالتوغل في مناطق حدودية، وتعلن أن أي خطوات استفزازية جديدة للناتو ستكون مبرراً لخطوات أوسع.
إدارة بايدن، المنشغلة بالملفات الداخلية، لا تبدو على استعداد للاستجابة إلى دعوات الكونغرس المعادية لروسيا للمغامرة في فتح جبهة عسكرية مع روسيا، ولو بالوكالة. لذلك يلاحَظ حرص شخصيات بارزة في طاقم بايدن للأمن القومي على التواصل المتكرر مع نظرائهم الروس وتفعيل قنوات التشاور التي انطلقت بعد قمة جنيف بين بوتين وبايدن في حزيران/ يونيو الماضي، أبرزها زيارة مدير وكالة الاستخبارات المركزية، بيل بيرنز، إلى موسكو.