شبكة الكهرباء الأميركية.. ترهّل ومأزق متجدد
حال شبكة التوزيع الكهربائي على نطاق الأراضي الأميركية لا تبشر بالأمل، في المديين القصير والمتوسط، بل تعدّ الأزمة مركبة تتحكم بها عوامل متعددة.
تصاعدت، في الآونة الأخيرة، تحذيرات رسمية أميركية، ومن عديد الخبراء والمختصين، من نقصٍ في إمداد توزيع التيار الكهربائي، لا سيما في المدن الصناعية والمراكز الاقتصادية الكبرى، يفاقمه ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة في عموم القارة الأميركية، بشكل خاص، في ظل ازدياد الطلب على طاقة التبريد في فصل الصيف.
حال شبكة التوزيع على نطاق الأراضي الأميركية لا تبشر بالأمل، في المديين القصير والمتوسط، بل تعدّ الأزمة مركبة تتحكم بها عدة عوامل: ذاتياً، يمكن تعريفها بالبنيوية ترتبط بسيطرة "القطاع الخاص" ومصالحه في مراكمة الأرباح وتراجع استثماراته في البنى التحتية التي تعود إلى ما ينوف عن 4 عقود زمنية؛ وموضوعياً، كوارث طبيعية ببروز تشققات هيكلية في إحدى أهم وأبرز منشأة لتخزين التيار الكهربائي وتوليده، "سد هوفر" في ولايات الغرب الأميركي، والذي أطلق عليه "سد المعجزة" في إبّان مرحلة تصميمه وإنشائه على نهر كولورادو على ضفتي ولايتي أريزونا ونيفادا، خلال مرحلة "الكساد الكبير" التي اجتاحت الولايات المتحدة بين عامي 1931 و 1936.
"سد المعجزة" شكّل تحدياً هندسياً آنذاك؛ نظراً إلى العوامل المعوقة التي واجهها علماء الطبيعة، والجيولوجيا، وتنبؤاتهم بأنه "لن يصمد وستزيله قوى الطبيعة عاجلاً أم آجلاً"، واعتماد تقنيات لم يتم التثبت من فعاليتها. جرى تصميمه باعتماد نظام السدود القوسية التي توزّع حجم قوة الضغط الناشئة من المنتصف إلى الصخور على جانبي السد، لتخفيف سرعة اندفاع المياه مع جسم السد، فضلاً عن طبيعة المناخ الصحراوي الذي تسببت حرارته المرتفعة في سرعة تصلّب طبقات الإسمنت، وإسهامها في إضعاف متانة البناء الخراساني. وتم ابتكار حل هندسي يتيح تمديد أنابيب لضخ الماء البارد نسبياً بين المواقع المراد صب الخرسانة بها، وتمكين التحام طبقات الإسمنت المختلفة بشكل متناسق (معلومات مستقاة من موقع "هيئة استصلاح الأراضي" الرسمية (Bureau of Reclamation)، المشرفة على مشاريع ضخمة متعددة في 17 ولاية في الغرب الأميركي).
اندلع حريق بعد انفجار هائل في محوّل كهربائي لـ "سد هوفر"، يوم 20 تموز/يوليو الجاري، وشوهدت أعمدة الدخان الكثيفة تتصاعد من منشأة السد الذي توفّر مولّداته الطاقة الكهربائية لمحطات تغذية في ولايات نيفادا وأريزونا وكاليفورنيا، ويعدّ أيضاً أكبر خزان مياه لتوليد الطاقة والري في البلاد (بيان "هيئة استصلاح الأراضي" الأميركية).
تعطّل إيصال التيار الكهربائي إلى المنازل والمؤسسات العامة، نتيجة انفجار السد، لم يكن المشهد الأول في انكشاف تشققات شبكة التوزيع الضخمة في الأراضي الأميركية وترهّل أدائها، إذ تتكرر حوادث انقطاع التوصيل بصور مطابقة لما سبقها ويسبقها من تجارب، من دون معالجة وافية وملموسة لتحديث البنى التحتية، إلا في حالات استثنائية.
في مثل هذه الأيام من صيف العام الماضي، رصدت يومية "واشنطن بوست" انقطاعاً متواصلاً للتيار الكهربائي في ولايات أقصى الشمال الغربي، واشنطن وآيداهو وأوريغون، إضافة إلى كاليفورنيا ونيفادا ومشيغان في أواسط البلاد، ما دفعها إلى القول عن الانقطاع المستمر بأنه يشكل "ناقوساً للحال المهترئة لشبكة توزيع التيار الكهربائي الأميركية، والتي تمضي في مسارها العملي دائماً وهي على حافة الهاوية" ("واشنطن بوست"، 29 حزيران/يونيو 2021).
وأضافت الصحيفة أن درجة حرارة الصيف العالية، بما تشكله من ضغوط إضافية على استخدام التيار الكهربائي، لم تكن هي مصدر انقطاع التيار في ولاية تكساس في شهر شباط/فبراير من شتاء العام عينه، مثلاً، بل سبقتها ولاية كاليفورنيا في انقطاع شبه شامل للطاقة الكهربائية في عام 2020.
وفنّدت الصحيفة مزاعم حاكم ولاية تكساس عن الحزب الجمهوري، غريغ آبوت، في 8 حزيران/يونيو 2021، بأن إدارته "صادقت على تنفيذ وإنجاز كل الإجراءات المطلوب اتخاذها لمعالجة قصور أداء شبكة الكهرباء في تكساس"، بأن ذلك لم يكن دقيقاً، ولم يصمد تطمين الحاكم أكثر من أسبوع، ليتبيّن أن شيئاً من ذلك القبيل لم يتحقق.
يشار إلى أن أحدث البيانات المناخية تشير إلى ارتفاع درجة الحرارة في ولاية تكساس لنحو 115 درجة فهرنهايت (46 درجة مئوية)، وتسببت في انقطاع متزايد للتيار الكهربائي (وكالة "رويترز"، 22 تموز/يوليو 2022).
أقرت الناطقة باسم "هيئة استصلاح الأراضي"، باتي آرون، بجسامة المعضلة الناجمة عن تراجع منسوب مياه السد نتيجة الجفاف العام الذي "نشهد استمراره لنحو 23 عاماً في حوض نهر كولورادو وبحيرة ميد، والتي انخفض منسوب مياهها بنحو 28%".
من خيارات معالجتها لأزمة الجفاف، أفادت "هيئة استصلاح الأراضي" بضرورة تقليص حجم استهلاك الفرد للمياه في المناطق الحضرية المكتظة، مثل جنوبي ولاية كاليفورنيا ومدينتي لاس فيغاس وفينكس، فضلاً عن خفض حجم المياه المخصصة لري الأراضي والمحاصيل الزراعية، وما ينطوي عليه من تفاقم أزمة في نقص المواد الغذائية المعروضة ويواكبه ارتفاع ملحوظ في الأسعار.
في جانب المعلومات، فإن شبكتي كهرباء الولايات المتحدة وكندا مترابطتان، وما تتأثر به إحداهما تتأثر به الأخرى وإن بنسب متفاوتة، بيد أن قطاع الكهرباء الأميركي مملوك بالكامل لعدد ضئيل لا يتجاوز 10 من الشركات الخاصة، والتي "تعمل باستقلالية عالية عن بعضها بعضاً"، وتشرف عليها بشكل محدود وزارة الطاقة الفيدرالية، تولّد بمجموعها 4.12 تريليون كيلو واط، بنسبة 61% من مصادر أحفورية و19% من الطاقة النووية، و 20% من مصادر متجددة كالرياح والطاقة الشمسية تتصدرها ولاية كاليفورنيا ("هيئة معلومات الطاقة الأميركية"، لعام 2021).
تتضمن شبكات التوزيع الأميركية "أكثر من 7000 مفاعل لتوليد الطاقة، ومئات الآلاف من الأميال الناقلة لخطوط كهربائية عالية التوتر ونحو 55،000 محطة ناقلة" (أسبوعية "يو أس نيوز آند وورلد ريبورت"، 23 أيلول/سبتمبر 2016).
تم تصميم شبكة التوزيع الأميركية لمدة لا تتجاوز 50 عاماً، بحسب الخبراء، قبل إدخال تحديثات وإنشاء محطات بديلة موازية لاستيعاب تزايد الطلب على توفير التيار الكهربائي، بل هناك أجزاء منها يفوق عمرها 100 سنة، وفق بيانات "المجمّع الأميركي للهندسة المعمارية" وتقييمه، تعززها بيانات صادرة عن "وزارة الطاقة الأميركية" التي رصدت ارتفاعاً ملحوظاً بنسبة 124% في منسوب انقطاع تام للتيار الكهربائي في عموم الولايات المتحدة التي تستهدف نحو 500،000 مشترك على الأقل. وأضاف المجمّع العلمي أن تراكم تلك الحالة المأساوية هو نتيجة مباشرة لتقدم عمر شبكات التوزيع وتراجع إجراءات تحديثها.
عند احتساب تراجع نسبة "مخزون الطاقة" للاحتياجات الطارئة لدى الشركات المعنية التي تبلغ نحو 2.3% في ولايات الشمال الأوسط مقابل تنامي الطلب بنسبة 1.7%، وتبنى عليه نماذج موازية في مناطق الكثافة السكانية الأخرى، يقترب المرء من عمق حجم التحدي الذي وصل إلى "مستوى متقدم من المخاطرة" للقسم الغربي من الأراضي الأميركية (تقرير "شركة اعتماد كهرباء أميركا الشمالية"، بتاريخ أيار/مايو 2022).
وعبّرت يومية "وول ستريت جورنال" عن الحالة المأساوية لشبكة توليد الكهرباء بعنوان صادم "شبكة توليد الكهرباء الأميركية لا يعوّل عليها تصاعدياً"، فقد ارتفع معدل انقطاع التيار إلى نحو 180 حالة في عام 2020، في حين سجّل أقل من 10 حوادث في عام 2000 ("وول ستريت جورنال"، 18 شباط/فبراير 2022).
المجلة الأميركية المتخصصة بالعلوم الطبيعية أصدرت حكماً أقسى من يومية المال والأعمال بعنوان مباشر "تكرار حوادث انقطاع التيار في أميركا هو أكثر من أي دولة متطورة"، استناداً إلى بحث علمي قدمه مهندس كمبيوتر وكهرباء في جامعة مينيسوتا، تموز/يوليو 2014 (مجلة "بوبيولار ساينس"، 17 آب/أغسطس 2020).
وأوضح تقرير المجلة أعلاه أن إنشاء معظم خطوط الشبكة الراهنة تم في عقد الخمسينيات من القرن الماضي بعمر افتراضي لنحو 50 عاماً، لكنها لم تواكب متطلبات التمدد وزيادة الطلب على الطاقة، واكتفى المشرفون عليها بإضافة ما يحتاجونه من مولدات ومعدات أخرى قديمة.
تصطدم سبل معالجة انقطاع التيار الكهربائي المزمنة مع الأولويات السياسية الراهنة، ليس لأجندة الرئيس جو بايدن فحسب، بل لعموم المؤسسة الحاكمة بتركيز أولوياتها على محاربة روسيا لاستنزافها في أوكرانيا، والصين أيضاً. وتراجعت، حكماً، وعود الرئيس الأميركي بإيلاء مسألة مكافحة تلوث البيئة أهمية الصدارة، وتجديد العمل باتفاقيات باريس للمناخ، التي انسحب منها سلفه الرئيس دونالد ترامب.
في السياق عينه، تتقلّص أيضاً طموحات حملة الرئيس بايدن الانتخابية في الاستثمار بالسيارات الكهربائية، والتراجع التدريجي عن الاعتماد على مصادر طاقة ملوّثة، وفي ظل ارتفاع مطّرد لكلفة مصادر الطاقة، حال أقرّ بها وزير الطاقة الأميركي، بيت بوتيجيج، بأن طاقة شبكة الكهرباء الراهنة لن تتحمل مزيداً من ضغط مطالب تزويد السيارات الكهربائية بالطاقة.
من الخيارات "المرّة"، التي وضعت المؤسسة الحاكمة نفسها أمامها، إعادة التجديد لشركات التنقيب والحفر عن النفط والغاز، وصرف الأنظار عن التعهدات المتتالية للمسؤولين بالاستثمار في مصادر "طاقة نظيفة"، وذلك أسوة بما يجري لحلفاء واشنطن في دول الناتو التي أضحت على مفترق طرق مؤلم لتوفير الغاز قبل حلول فصل الشتاء، وندوب خيارات البحث عن بدائل طاقة وفيرة ورخيصة لمصادر الطاقة الروسية.