المثلّث المصري-التركي-السوري.. هل يزور السيسي أنقرة قبل دمشق؟
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان تحوّل إلى عنصرٍ فعّال ومؤثّر في مجمل المعادلات الإقليمية باسم الإسلام السياسي الإخواني المعتدل منه والمتطرف كما هو الحال في سوريا وليبيا.
في الفترة ما بين عامي 1950 و1960 كانت تركيا في الخندق الأمامي للدفاع عن المصالح الأميركية-الأطلسية ضد ما يسمّى بالخطر السوفياتي الشيوعي، كما كانت في الخندق الأمامي للتصدّي للمدّ القومي العربي الناصري المدعوم سوفياتياً حيث كانت مصر وسوريا جمهورية عربية متحدة.
وفي سنوات ما يسمّى بـ "الربيع العربي" رفع إردوغان راية الإسلام السياسي التي تبنّتها واشنطن وحليفاتها في الغرب والمنطقة وأرادت من خلالها أن توصل حركات الإخوان المسلمين إلى السلطة في عواصم هذا "الربيع" الدمويّ. وجرت الرياح كما لا تشتهي سفن إردوغان أو ربما كان السيناريو هكذا بالأصل، فصمدت سوريا وأطاح السيسي بالإخوان وسقط مشروعهم في تونس والمغرب واليمن ولم يحقّق أهدافه بالكامل في ليبيا.
وهو ما كان كافياً بالنسبة لإردوغان كي يعادي السيسي ويستنفر كلّ إمكانياته للإطاحة بالأسد والتوغّل في العراق وإقامة علاقات سرية وعلنية مع كل من كان يرى فيهم حلفاء له يساعدونه ضد أعدائه من العرب وغيرهم. وقد جاء التوتر بين قطر وكل من السعودية والإمارات ومصر في حزيران/يونيو2017 ليضع إردوغان أمام تحديات جديدة خرج منها منتصراً بعد أن أرسل جيشه إلى قطر وليبيا والصومال والعراق وهو ما سبق وأن فعله في سوريا اعتباراً من آب/أغسطس 2016.
لقد تحوّل إردوغان إلى عنصر فعّال ومؤثّر في مجمل المعادلات الإقليمية باسم الإسلام السياسي الإخواني المعتدل منه والمتطرف كما هو الحال في سوريا وليبيا ومن دون أن يحالف الحظ القاهرة المدعومة من الرياض وأبو ظبي للتصدّي للتمدّد الإردوغاني، هذا ليس فقط في سوريا بل في ليبيا المجاورة لمصر التي نقل إليها إردوغان المرتزقة من سوريا فهزم بهم قوات حفتر المدعومة من السيسي وفشل في التصدي لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا.
والغريب في الموضوع أن العواصم الثلاث التي تتحدّث عن خطر الإخوان المسلمين، وهو تنظيم إرهابي وفق تصنيفها، لم تفكّر أبداً في أي تنسيق أو تعاون مع دمشق التي تقاتل المجموعات الإخوانية الإرهابية بتياراتها المختلفة والتي ألحقت أضراراً بالغة بمصر، كما هو الحال في ليبيا وسوريا والعراق ولبنان وتونس وغيرها ولو بدرجات متفاوتة.
ومع كل ذلك فإنّ المصالحة التي استعجلها إردوغان مع حكّام الإمارات والسعودية ومصر لم تكن كافية بالنسبة لهذه الدول حتى تقرّر أي طرف أهم بالنسبة لها: تركيا أم سوريا! وهو السؤال الذي يبدو أنه ما زال مطروحاً مع استمرار "التردّد والدلال العربيّ" للمصالحة مع الرئيس الأسد. وكأن الجميع ما زال ينتظر الضوء الأخضر من الكيان الصهيوني المتغطرس. وإلا ما الذي تنتظره القاهرة والرياض وعواصم عربية أخرى حتى تفتح سفاراتها في دمشق، في الوقت الذي قال فيه وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو "إن تبادل السفراء بين القاهرة وأنقرة سيكون قريباً".
وكذلك ما الذي ينتظره الرئيس السيسي كي يزور دمشق في الوقت الذي قال فيه وزير الخارجية جاويش أوغلو يوم أمس بعد لقائه سامح شكري في القاهرة إنه "يجري حالياً التنسيق لعقد لقاء قريب بين السيسي وإردوغان"، وتوقّعت وكالة الأناضول لهذا اللقاء أن يكون بعد الانتخابات فوراً، وكأنّ إردوغان سيبقى في السلطة!
مع التذكير هنا بزيارات محمد بن زايد ومحمد بن سلمان ورئيس الكيان الصهيوني هرتسوغ إلى أنقرة العام الماضي ولقاء إردوغان "الحميم" بالسيسي في الدوحة بوساطة قطر المموّل الأكبر إن لم نقل الوحيد لجميع حركات الإسلام السياسي المعتدل منها والمتطرّف والإرهابي.
التحرّك التركي السريع صوب القاهرة جاء بعد يومين من الزيارة المهمة التي قام بها الرئيس الأسد إلى موسكو وحديثه عن شروط صعبة للمصالحة مع الرئيس إردوغان، وبالتالي انتقاداته العنيفة لإردوغان وشخصيته الإخوانية وهو ما أزعج أنقرة. ودفع ذلك الأوساط السياسية إلى الحديث عن رفض إردوغان لشروط الأسد جملة وتفصيلاً طالما أنه لا ولن يستطيع سحب القوات التركية من سوريا فوراً وقطع علاقاته مع الفصائل المسلحة وعدم عرقلة تقدّم القوات السورية لتحرير إدلب وجوارها من النصرة وحليفاتها.
وهنا يذكّر البعض بأقوال إبراهيم كالين المتحدث باسم الرئيس إردوغان إذ قال في الرابع من كانون الأول/ديسمبر الماضي "إنّ ما يسعى إليه إردوغان في حواره مع الرئيس بوتين هو إعطاء الرئيس الأسد فرصة جديدة". ويعني ذلك أنّ إردوغان لا يريد أن يقال عنه في الداخل والخارج إنه هزم أمام الأسد أو إنه اضطر إلى الرضوخ لمطالبه التي يعرف الجميع أن قبولها ليس سهلاً بالنسبة لأنقرة بسبب علاقاتها المتشابكة والمعقدة سراً كان أو علناً مع كل الأطراف في سوريا.
وكما هو الحال في ليبيا أو أي مكان آخر يرى فيه إردوغان امتداداً لحساباته السياسية والعسكرية والتاريخية والاستراتيجية والأهم العقائدية طالما أنه لا ولن يتخلّى هكذا بسهولة عن إسلامه السياسي بصيغه المختلفة. ويعرف الجميع أنه بحاجة ماسة إلى هذه الصيغ في حملته الانتخابية التي سيتحالف من أجلها مع كل القوى والتيارات الدينية وحتى المتطرّفة منها. مع استمرار حديث بعض الأوساط السياسية عن سيناريوهات خطيرة تهدف إلى تفجير الوضع الأمني قبل الانتخابات.
وهو ما سيعني حاجة إردوغان إلى الفصائل المسلحة في سوريا وفق هذه السيناريوهات التي يبدو أن العواصم العربية التي قال إردوغان عن حكّامها ما قال ثم صالحهم لا تبالي بها طالما أنها غير صادقة في أحاديثها ومشاعرها التي تتحدث عنها أحياناً فيما يتعلق بالمصالحة مع دمشق.
والأهم من كل ذلك فيما يتعلق بأحاديثها عن خطر التيارات والجماعات والفصائل المسلحة منها وغير المسلحة والمحسوبة عقائدياً على الإسلام السياسي أي الإخوان المسلمين.
وإلا لماذا رضيت العواصم المذكورة لنفسها أن تصالح إردوغان "الراعي الأول والأخير" للإخوان طيلة سنوات ما يسمّى بـ "الربيع العربي" بل وقبل ذلك عندما أعلن نفسه شريكاً استراتيجياً في مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تبنّته واشنطن في حزيران/يونيو 2004. وهو ما كان وسيلة لتسويق العدالة والتنمية كحزب إسلامي وصل السلطة ديمقراطياً في بلد مسلم وعلماني إلى دول المنطقة التي لم تستخلص أحزابها وجماعاتها الإخوانية أي درس من تجاربها الماضية.
فبايعت تلك الدول الرئيس إردوغان كزعيم سياسي وروحي وتاريخي فخذلها جميعاً بعد أن رجّح السيسي وابن زايد وابن سلمان عليها ولو بالتكتيك الذي هو بحاجة إليه لكسب المزيد من الوقت لضمان فوزه في الانتخابات المقبلة في الرابع عشر من أيار/مايو المقبل.
ويبدو واضحاً أن القاهرة وأبو ظبي والرياض هي أيضاً بحاجة إلى مثل هذا الزمن الإضافي ليس فقط كي ترجّح "عدوها اللدود" إردوغان على الرئيس الأسد، بل أيضاً كي تضع النقاط على الحروف في مسار المصالحة السعودية-الإيرانية بوساطة صينية مدعومة من روسيا، التي يزورها الرئيس الصيني شي جين بينغ وربما لبحث تفاصيل وآفاق ومستقبل المصالحة الإيرانية - السعودية التي اكتسبت أهمية إضافية بالدعوة التي وجهها الملك السعودي للرئيس الإيراني رئيسي لزيارة الرياض، وهي الدعوة التي صادفت الاستقبال الحافل للرئيس الأسد في أبو ظبي.
بات واضحاً أن هذه المصالحة إن تمّت ستقرّر مصير المنطقة بإردوغان أو من دونه مع الاستطلاعات التي تتوقّع له هزيمة مدوّية أمام منافسه زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو المعروف بمواقفه العنيفة منذ 2011 ضد إردوغان والرافضة للتورّط التركي في سوريا وليبيا والمنطقة عموماً.
كما هو معروف عنه أحاديثه المتكرّرة حول ضرورة المصالحة العاجلة مع الرئيس الأسد لمعالجة الأزمة السورية بكل تبعاتها ونتائجها العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليساهم ذلك في إنهاء أزمة اللاجئين السوريين في تركيا خلال فترة أقصاها عامان بعد استلامه للسلطة مع حلفائه.
مع التذكير هنا بالمشروع الذي طرحه كليجدار أوغلو أواسط 2018 ويهدف إلى تشكيل منظمة السلم والتعاون الشرق أوسطي وقال عنها إنها ستضم تركيا وسوريا وإيران والعراق وتهدف إلى حل مشاكل كل هذه الدول والمنطقة عموماً عبر الحوار والتنسيق والتعاون الصادق بعيداً عن كل التدخلات الخارجية وأياً كان شكلها ومضمونها (مقالي في الميادين 1-11-2019).
وهو المشروع الذي سيحمل في طياته الكثير من المفاجآت للدول الأربع ومعها دول المنطقة الأخرى بعد استلام كليجدار أوغلو السلطة كمرشح لتحالف الأمة الذي يضم خمسة أحزاب ستحظى بدعم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي.
وسيساهم ذلك بدوره في حلّ المشكلة الكردية في الدول الأربع بانعكاسات ذلك على مجمل المعطيات الإقليمية والدولية التي سيستنفر الكيان الصهيوني كل إمكانياته كي لا تكون ضده، وهو ما فشل به حتى الآن بفضل صمود سوريا وحلفائها وقد يفشل باستمرار أجواء المصالحة الإيرانية-السعودية الإيجابية بانعكاساتها المحتملة على المصالحة العربية-السورية وأخيراً التركية-العربية بإردوغان أو من دونه.
والقرار في نهاية المطاف سيكون أولاً للناخب التركي وبعدها أو قبلها للأنظمة العربية التي تعلّمت الكثير من الحكم العثماني وجيشه الانكشاري بخطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء وهو ما عوّدنا عليه إردوغان خلال عشرين عاماً من حكمه والرهان على نهايته هو حديث الجميع في الداخل والخارج.