الليرة التركية.. بين الدين والإيمان والدولار
تواصل الليرة التركية تراجعها أمام الدولار الأميركي وباقي العملات الأجنبية، تزامناً مع قرار المصرف المركزي التركي برفع الفائدة. وإردوغان أكد مراراً أنه ملتزم بالنصوص الدينية التي تمنع الفائدة، ولن يتراجع ما دام في السلطة، ولن يرضخ للابتزازات.
قرر المصرف المركزي التركي، الخميس الماضي، رفع الفائدة المصرفية من 8.5% إلى 15%، وهو ما كان كافياً لتراجع قيمة الليرة التركية أمام الدولار وباقي العملات الصعبة بنسبة 5%؛ لأن الأوساط المالية كانت تتوقع للفائدة أن ترتفع إلى 20-25%. قرار المصرف المركزي أثار نقاشاً كبيراً في الأوساط السياسية والمالية التي عادت وذكّرت الشعب التركي بتناقضات الرئيس إردوغان في مجمل سياساته الخارجية والداخلية وفي مقدمتها المالية، وأنها سبب الأزمة الخطيرة التي تعاني منها تركيا الآن. فقد قال الرئيس إردوغان أكثر من مرة إنه " خبير اقتصادي " وهو " المسؤول عن الاقتصاد والمال" بعد أن قرر خفض الفائدة المصرفية تدريجياً منذ عام 2020، وهو ما أدى إلى تراجع قيمة الليرة التركية مقابل الدولار بنحو 370% خلال الأعوام الثلاثة (في 25 حزيران/يونيو 2020 كان الدولار 6.8 ليرات والآن 25.3 ليرة) فقط.
ومن دون أن يؤثر كل ذلك على الرئيس إردوغان الذي أكد في أكثر من حديث أنه ملتزم بالنصوص الدينية التي تمنع الفائدة، وأنه لن يتراجع عن إيمانه هذا ما دام في السلطة، وأنه لم ولن يرضخ لابتزازات الأوساط المالية الإمبريالية وضغوطها، والتي تريد لتركيا أن تركع أمامها. وهو مؤمن بأن نسبة التضخم ستنخفض مع الاستمرار في خفض نسب الفائدة، حتى وإن ارتفعت في أميركا وأوروبا. وهو التأكيد الذي دفع إردوغان إلى تغيير ثلاثة وزراء مالية وثلاثة من محافظي المصرف المركزي خلال السنوات الأربع الماضية، وفشلوا جميعاً في إقناعه بضرورة التخلي عن سياساته المالية التي كلفت البلاد مئات المليارات من الدولارات، ووصلت الديون الخارجية إلى 500 مليار دولار، وتراجع احتياطي المصرف المركزي إلى ناقص 70 مليار دولار، كما زادت نسبة التضخم على 150%، وهو ما انعكس بشكلٍ خطير على غلاء المعيشة والبطالة. واستنجد إردوغان بالقروض التي حصل عليها من قطر والإمارات والسعودية وروسيا واليابان، ولا يدري أحد كم وصلت قيمتها حتى الآن.
ومن دون أن يكون كل ذلك كافياً لمنع الانهيار الخطير في قيمة الليرة التي حاول وزير المالية الجديد الحفاظ عليها من خلال زيارته الأولى إلى الإمارات في اليوم الذي قرر فيه المصرف المركزي رفع الفائدة المصرفية. وأثارت هذه الزيارة تساؤلات جدية في الأوساط السياسية التي استغربت مرافقة نائب رئيس الجمهورية جودت يلماز للوزير شيمشاك ولقاءهما محمد بن زايد الذي كان في إسطنبول قبل أسبوعين. وتتحدث المعلومات منذ فترة عن اهتمام الإمارات بمشاريع الخصخصة التي سيعلن عنها الرئيس إردوغان، وأهمها بعض الموانئ وشركة الخطوط الجوية والشركة الوطنية للنفط ومؤسسات أخرى.
المعارضة التي حمّلت إردوغان وتناقضاته مسؤولية الكارثة المالية التي لم يبال بها 52% من المواطنين الذين صوّتوا لإردوغان الذي أقنعهم بشعاراته ومقولاته القومية العنصرية والدينية الطائفية عندما قال لهم إنه الوحيد الذي "يتصدى لمؤامرات الدول والقوى الإمبريالية التي تستهدف الأمة والدولة التركيتين". ومن دون أن يمنع هذا الاتهام الذي صدّقه الناخبون الرئيس إردوغان من الاستنجاد بمحمد شيمشاك، لسان حال الأوساط المالية الإمبريالية في لندن ونيويورك، وتسليمه وزارة المالية والخزانة في الوقت الذي فرضت فيه أوساط مالية أخرى على إردوغان حفيظة أركان فعيّنها محافظاً للمصرف المركزي بعد أن تحدث الإعلام عن علاقاتها الغامضة بالأوساط المالية اليهودية في أميركا، وقيل إنها كانت تدير العلاقات المالية للشيخ تميم آل ثاني في واشنطن.
المعارضة التي تذكّر الناخبين بتناقضات إردوغان الخارجية والداخلية، وتقول إنه هدّد وتوعّد زعماء مصر والإمارات والسعودية والكيان الصهيوني، لكنه عاد وتوسل إليهم كي يصالحوه، تتهم إردوغان أيضاً بالتسوّل من زعماء الخليج، وهو الذي اتهم محمد بن زايد بتمويل محاولة الانقلاب الفاشل في تموز/ يوليو 2016، الذي قيل إن أتباع فتح الله جولان هم المسؤولون عنه. كما تذكّر المعارضة بما قاله إردوغان عن محمد بن سلمان، إذ اتهمه بالمسؤولية عن مقتل جمال خاشقجي في إسطنبول في تشرين الأول/أكتوبر 2018.
وأما تناقضات إردوغان الداخلية، فتقول عنها المعارضة إنها الأكثر غرابة، إذ تخلى عن غالبية رفاق دربه الذين أسس معهم حزب "العدالة والتنمية" عام 2001، واختار بدلاً منهم رفاق درب جدداً كانوا من ألدّ أعدائه في الماضي، وباتوا الآن حلفاء له، وهم زعماء حزب "الحركة القومية" العنصري و"الوحدة الكبرى" و"الرفاه الجديد" و"اليسار الديمقراطي" و"الهدى" الإسلامي الكردي، وساعدوه في تحقيق انتصاره في الانتخابات الأخيرة.
المعارضة التي تذكّر بالمثل التركي "ليس للنقود دين وإيمان " تقول لقد أثبت إردوغان حقيقة هذا المثل عندما تراجع عن إيمانه الذي انطلق منه في قراراته السابقة بخفض الفائدة، بناءً على تعليمات النصوص الدينية التي يؤمن بها. وتذكّر المعارضة أيضاً بأحاديث إردوغان خلال الحملة الانتخابية، إذ كان يقول "إنني أتلقى الأوامر من الله تعالى، فيما يتلقى كليجدار أوغلو، وهو مرشح أعداء الأمة، وحلفاؤه التعليمات من حزب العمال الكردستاني المدعوم من أعداء الأمة والدولة التركية " ويبدو أن إردوغان يريد أن ينسى كل ما فعلوه ضده وضد هذه الأمة والدولة التي وصلت إلى طريق مسدود في مجمل سياساته الداخلية والخارجية، التي لم يبال بها 52% من الشعب الذين صوّتوا لإردوغان، وهو ما يحتاج إلى دراسة اجتماعية ونفسية عميقة.
لقد أثبتت التطورات الأخيرة أنه، أي إردوغان، يرضخ لتعليمات أصحاب رساميل المال، إقليمياً ودولياً، ويتنافسون فيما بينهم لفرض أجنداتهم على إردوغان على صعيد السياسة الخارجية. فروسيا بمساعداتها المالية، ويقال إنها زادت على 30 مليار دولار تريد لإردوغان أن يبقى إلى جانبها في الأزمة الأوكرانية، رغم تناقضاته في العلاقة معها ومع واشنطن والغرب عموماً. في الوقت الذي تسعى فيه الرياض وأبو ظبي لمنافسة الدوحة في علاقاتها مع أنقرة، ويعرف الجميع أنها، أي الدوحة، المموّل الرئيسي لجميع تحركات إردوغان ذات الطابع الإخواني في سوريا وليبيا والعراق والمنطقة العربية عموماً.
في الوقت الذي تراقب فيه واشنطن كل هذه المواقف من كثب لضمان مصالحها ومصالح الحلف الأطلسي في تركيا، التي وضعت "تل أبيب" أيضاً من أجلها العديد من الحسابات التي سيأتي من أجلها نتنياهو إلى أنقرة أواسط الشهر القادم، ويحمل معه سلاح المليارات من الدولارات التي تتحكّم في اللوبيات اليهودية في أميركا وأوروبا، وكانت السبب الرئيسي في إفلاس الدولة العثمانية وانهيارها في عهد السلطان عبد الحميد الذي يتغنى إردوغان وأتباعه بأمجاده، وأنتج التلفزيون الحكومي من أجلها العديد من المسلسلات التاريخية البطولية التي دغدغت مشاعر المواطن التركي "ذي الدين والإيمان المتين" وراح ضحية الدولار الذي لا دين له ولا إيمان!