منذ 8 تشرين الأول.. ماذا فعل حزب الله؟
أرقام عمليات حزب الله العسكرية في جبهة الجنوب تبيّن مدى المأزق الاستراتيجي الذي تعيشه "إسرائيل" من هذه الجبهة لعدم القدرة على التعامل معها بما يسمح بعودة المستوطنين.
في 8 تشرين الأول/ أكتوبر، عقب عملية "طوفان الأقصى" البطولية، بدأ حزب الله عمليةً عسكريةً إشغاليةً لإسناد المقاومة الفلسطينية في غزة ودعمها، وردع الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان.
بدأت جبهة لبنان العمل وفق البيان الأول للمقاومة من مزارع شبعا المحتلة، ولا تزال هذه الحرب الإشغالية مستمرةً على مدار سبعة أشهر. وقد طرح كثيرون أسئلة حول هذه الجبهة وأهميتها وتأثيرها على العدو الإسرائيلي. نتحدث في هذه المقالة عن البعد الاستراتيجي لهذه الجبهة بالإجابة عن السؤال الذي طرحناه وهو ماذا فعل حزب الله بعد 8 تشرين الأول/ أكتوبر؟ وللإجابة عن هذا السؤال، فإنّا قد اعتمدنا على أرقامٍ خاصّةٍ بهذه الجبهة تظهر بيقين لا يعتريه الشك أهمية ما يقوم به حزب الله.
العقل الاستراتيجي في الحرب
يمكن تعريف الاستراتيجية بأنّها القدرة على استخدام الوسائل لتحقيق الأهداف، والمواءمة بينها، حيث لا تتعدى الأهداف حجم الوسائل والعكس صحيح، وبالتالي يجب لتحقيقها بذل جهودٍ مضنيةٍ لإنجاح عملية التوازن بين الوسائل والأهداف، واختيار الوسيلة الأنجح للوصول إلى الهدف وهو ما يميز القائد الذي يمارس هذا العمل الدقيق. فهي إذاً علمٌ يعنى بالخطة الحربية، أو هي فنّ التخطيط للعمليات العسكرية قبل نشوب الحروب، وفي الوقت نفسه، فنّ إدارة تلك العمليات عقب نشوب الحروب. وتأخذ الاستراتيجية الجيّدة في حسبانها ما يمتلكه القائد من موارد لتحقيق الهدف كما يجب أن تكون متناسقة مع الرؤية، الرسالة والأهداف العامة للمبادرة.
وكما يقول الجنرال والمؤرخ العسكري البروسي كلاوزفيتزClausewitz بأنّ لكلّ عصرٍ نوعه الخاصّ من الحروب، وأن الظروف الفعلية للحرب لا يمكن أن تكون مثاليةً موضوعةً بشكلٍ مسبق؛ فأجواء الحرب ليست محكومةً بأسبابٍ بسيطةٍ بل بتداخل سلاسل من الأسباب والتأثيرات المختلفة، معتبراً أنّ القائد العسكري الناجح هو الذي يعمد إلى استخدام هذه العلوم لتحقيق هدفه في سحق العدو. ولأنّ الحرب هي أمرٌ مليءٌ بالتعقيدات المتشابكة، فينبغي للقائد العسكري أن يتحلى بقوة الإرادة من ناحية، وبالحدس والأفق الواسع في وضع التصورات، من الناحية الأخرى.
وقبل كلاوزفيتز، رأى صن تزو في كتابه الشهير "فن الحرب" أنّه في حالة الصراع المسلّح، على الرجل الارتكاز على عاملين حاسمين هما: ملكة العقل والفضيلة، لأنّهما إذا ما استخدمتا بشكلٍ صحيحٍ ستؤديان إلى النصر. ولذلك، يجب عدم التعامل مع الحرب بخفةٍ وتهوّر، إنّما يجب استباقها بإجراءاتٍ تؤدي إلى تسهيل تحقيق النصر. ويشدد على نقطةٍ هامةٍ هي أنّ من يصل أولاً إلى أرض المعركة وينتظر العدو يكن مرتاحاً في المواجهة، ومن يصل متأخراً ويندفع إلى القتال يكن منهكاً. لذلك، فالمقاتل الجيد يستدرج العدو إلى أرض المعركة ولا يدع العدو يستدرجه، وذلك بالتلويح له بفائدةٍ ما.
مما تقدم يمكن القول، إن قادة حزب الله وعلى رأسهم الأمين العام سماحة السيد حسن نصر الله، تعاملوا مع هذه الجبهة وفق رؤيةٍ عقليةٍ راجحةٍ، فعند انطلاق المعركة تم اتخاذ قرارٍ عقلانيٍّ مبنيٍ على معرفةٍ مسبقةٍ بالعدو وتفكيره وخططه ومبادئه وأهدافه وقدراته، إذ خبر حزب الله "جيش" العدو على مدار 40 سنةً تكتيكياً واستراتيجياً وعلى كل المستويات السياسية، الأمنية، العسكرية، التكنولوجية، الثقافية، والأيديولوجية. وينطلق حزب الله في عمله أيضاً من عوامل وأوضاع ومقدماتٍ عقليةٍ تستند إلى معرفة ما يملكه القائد من عناصر هامّةٍ تجعله يخوض حرباً صعبة كهذه، وفي ظلّ أوضاع تمنع من فتح حربٍ شاملةٍ، وبالتالي يخوض الحزب معركةً إشغاليةً استنزافيةً، مبنيةً على قتال ٍلا تناظري.
هذا النوع من القتال كسبه حزب الله منذ تأسيسه مروراً بتحرير العام 2000 ومن ثم حرب تموز 2006 التي أذلت "الجيش" الإسرائيلي وصولاً إلى الحرب في سوريا، حيث بنى حزب الله خلالها -قادةً وعناصر -خبرة عسكرية منقطعة النظير، فقد استطاع أن يُنمّي قدراته العسكريّة لمحاكاة أساليب القتال في مختلف الأوضاع والبيئات الجغرافيّة المحيطة بأيّ معركة، ليرسم من خلال هذه الحرب ومن ثم المعركة بين المعارك بمواجهة العدو الإسرائيلي معادلاتٍ عسكريةً جديدةً، اتكأ عليها في خوضه حرب الإسناد لقطاع غزة.
هذا ما حققه حزب الله
من الناحية العملية؛ لا شك أنّ معركة الإسناد اليوم تختلف عن عدوان تموز عام 2006. في السابق، كانت "إسرائيل" تهاجم وحزب الله يُدافع، أمّا اليوم فإنّ حزب الله الذي يدافع عن أرضه في وجه الاعتداءات الإسرائيلية، يعمل وفق تكتيكات الحرب الاستنزافية في منطقةٍ جغرافيةٍ محدودةٍ تجعل "الجيش" الإسرائيلي في حيرةٍ بين زيادة التصعيد أو ضبط الوضع، وهنا تظهر الأهمية الاستراتيجية لهذه المعركة والتي سنبيّنها أيضاً من خلال هذه الأرقام. تطورت الحرب التي يخوضها حزب الله تدريجياً من شهر تشرين الأول/أكتوبر وصولاً إلى نهاية شهر نيسان/أبريل، إذ طورها حزب الله لتكون أكثر إيلاماً من خلال ما يستخدمه من أسلحةٍ دقيقةٍ، وبالنظر إلى الأهداف العسكرية التي يستهدفها.
أرقام عمليات حزب الله العسكرية في جبهة الجنوب تبيّن مدى المأزق الاستراتيجي الذي تعيشه "إسرائيل" من هذه الجبهة لعدم القدرة على التعامل معها بما يسمح بعودة المستوطنين.
فهذه العمليات أدت إلى تهجير 230 ألف مستوطن من 43 مستوطنة في شعاع 5 كلم بحسب الإعلام الحربي في المقاومة، فضلاً عن سقوط 750 إسرائيلياً بين قتيل وجريح منذ بداية الحرب.
وقد تطورت هذه العمليات على مدار سبعة أشهر كالآتي:
شهر تشرين الأول/2024 – 177 عملية، شهر تشرين الثاني - 250 عملية، شهر كانون الأول -306 عمليات، شهر كانون الثاني 2024 - 254، شهر شباط 229، شهر آذار 268، شهر نيسان 208، هذا يبين التطور في العمليات، إذ بلغ عددها قبل الهدنة التي حصلت في غزة 427 عملية، فيما وصلت حتى بداية الأسبوع الأول من أيار/مايو إلى حدود 1995، وقد تطورت هذه العمليات أيضاً خلال هذه المدة في العمق الجغرافي حيث وصلت إلى ثكنة شراغا في عكا بعمق 15 كلم.
إذاً، تطور حزب الله في عمله لناحية توسيع العمق الجغرافي في الكثير من الأحيان، ولناحية استهداف مراكز حساسة للعدو بدأت تزيد معها خسائره المادية والبشرية، مع ملاحظة السلاح المستخدم في بعض العمليات ودخول أسلحة دقيقة تُكشف للمرة الأولى، نظير "فلق" بأجياله المختلفة و"ألماس" والمسيرات، فضلاً عن رصده الدقيق ومعلوماته الاستخبارية وقدرته على تنفيذ عملياتٍ مركبةٍ ومتعددةٍ كما حصل في عرب العرامشة وشراغا والمطلة وثكنة يفتاح، ما يجعل الوعي الإسرائيلي يتغيّر إذ بدأ يعيش حالة رعبٍ من العودة إلى المستوطنات ويرى أنّ الكيان غير آمنٍ، هذا فضلاً عن أنّ الحزب استطاع أن يشكّل مسار ضغطٍ على مؤسسة القرار و"الجيش" الإسرائيليين.
لقد فهم حزب الله وأتقن لعبة الحرب المحدودة ومنع العدو من فرض وقائع تسمح له بتحقيق أهدافٍ استراتيجيةٍ، بعد أن استطاع تقويض صورة الردع الاستراتيجي في مقابل تعزيز صورة المقاومة التي تأخذ المبادرة في مواجهة العدو.
وفي هذا السياق؛ يؤكد معهد أبحاث "الأمن القومي" الإسرائيلي أنّ "حزب الله يقاتل في سياق الأهداف الاستراتيجية للحفاظ على توازن القوى واستثمار ذلك في اليوم التالي"، وبالتالي هناك مشكلة في تحقيق الأهداف الاستراتيجية لدى العدو الإسرائيلي. وعليه، حتى لو استطاعت "إسرائيل" أن تدعي أنّها حقّقت انتصاراتٍ تكتيكيةً ضدّ حزب الله، فلن يكون لها تأثيرٌ استراتيجيٌّ على مسار المعركة أو على قدرة حزب الله ووضعه وتموضعه، ويكفي ما يتحدث عنه العسكريون في الكيان من أمثال اللواء احتياط يائير غولان، واللواء إسحاق بريك والعقيد احتياط رونين كوهين وغيرهم عن هذه الجبهة وأهمية ما يحققه حزب الله.
وقد رأى معهد "الأمن القومي" الإسرائيلي في تقييمه لجبهة الشمال، أنّ دراسة التوازن الحالي للقتال في المنطقة تظهر أنّه على الرغم من طبيعته المحدودة، يستطيع حزب الله أن يسجّل لنفسه سلسلة من الإنجازات، التي "يتباهى بها نصر الله في خطاباته".
وفق ما تقدّم، يظهر لنا كيف أنّ حزب الله يختبر ما يمتلكه من أسلحة ويكشف عن قدرته على استخدامها، في إطار ما يملكه من بنك أهداف، مع إمكانية رصد العدو وتوجيه الضربات القوية ضده، وقدرته على القتال وإصراره على النصر، وبالتالي يترجم حزب الله نصراً استراتيجياً منذ بداية هذه الحرب. وفق ذلك، فإنّ هذا المسار الاستراتيجي سوف يتم رسمه بعد النصر النهائي الذي سيبني معادلاتٍ استراتيجيةً جديدةً، ليُظهر كلّ ذلك ماذا فعل حزب الله في جبهة الجنوب.