معادلتان هُزم خلالهما الكيان قبل الـ7 من أكتوبر
هل المعادلات كانت تشكلت في المنطقة كانت محصورة ضمن جغرافيا فلسطين فقط؟ أم أنها كانت على امتداد المنطقة برمتها؟ وما المعادلات التي يأمل تشكيلها على إثر "المعركة الوجودية"، التي أطلقها في المنطقة.
عندما أعلن نتنياهو أن اتفاقاً عقده مع جو بايدن، خلال زيارة الأخير فلسطين المحتلة، على إثر إطلاق عدوان "السيوف الحديدية" على قطاع غزة، ينص على "تغيير المعادلات في المنطقة"، فإنه كأنما كان يعلن صراحة، في حينه، أن هناك معادلات كانت تشكلت في المنطقة، لم تكن لمصلحة كيان الاحتلال على الإطلاق. وهو دلَّ أيضاً على أن نتنياهو اتخذ عملية طوفان الأقصى والحرب العدوانية على قطاع غزة ذريعةً وفرصة لإمكان تصحيح الخلل الذي اعترى تلك المعادلات الخاسرة، بل إنه تأمل ويتأمل أن تكون نتائج هذا العدوان مؤسِّسة لتشكل معادلات جديدة في المنطقة برمتها، تكون موازين القوى فيها مغايرة تماماً لسابقاتها من جهة، و"ضامنة للأجيال المقبلة"، من جهة أخرى.
وهل المعادلات كانت تشكلت في المنطقة، وتحسّر نتنياهو على موازين القوى فيها، طوال الفترة التي سبقت طوفان الأقصى؟ وهل كانت محصورة ضمن جغرافيا فلسطين فقط؟ أم أنها كانت على امتداد المنطقة برمتها؟ وما المعادلات التي يأمل تشكيلها على إثر "المعركة الوجودية"، التي أطلقها في المنطقة؟
معادلات ما قبل السابع من أكتوبر
- المعادلة الأولى: كباش التراكم الاستراتيجي و"المعركة بين الحروب"
منذ ما يقارب عقداً ونصف عقدٍ، وقبيل بدء الحرب الكونية على سوريا بوقت قصير، بدأ حديث سياسيي الكيان وباحثيه العسكريين والاستراتيجيين يتزايد بشأن قولهم إن الأسلحة، ومنها " الكاسرة للتوازن "، تتدفق من إيران في ساحات ثلاث تلتف على "جغرافيا" الكيان الاسرائيلي، وإن بصورة متفاوتة فيما بينها، مشيرين إلى ساحة لبنان (جنوبيه بصورة محدَّدة)، وفلسطين في شقيها (الضفة الغربية وقطاع غزة)، موجهين اتهامهم بصورة صريحة إلى العراق وسوريا بأنهما يشكلان الجسر والممر اللذين تعبر منهما هذه الأسلحة نحو مقصدها المشار إليه.
لم يتأخر الوقت كثيراً لتبدأ في المنطقة حرب ضروس بين ما سميناه في حينه "التراكم الاستراتيجي" المراد تحقيقه في هذه الساحات، وبين "المعركة بين الحروب"، والتي أطلقها الكيان، ومن خلفه أميركا، على هذا الخط، ووفق أشكال متعددة، إن من خلال الوكيل الإرهابي من جهة، أو من خلال الاعتداءات المباشرة من جهة أخرى، والهدف دائماً كان وما زال يتمثل بمحاولة بتر الخط الدولي للمقاومة من أجل تجفيف التراكم المذكور في تلك الساحات.
خلاصة المعركة التي حدثت لأعوام، وموازين القوى التي تشكلت على إثرها، دلّت، بصورة قاطعة، على أن التراكم تغلّب على المعركة بين الحروب، وهذا ما ثبت في محطات ثلاث قبيل السابع من أكتوبر الماضي، بحيث مثلت أسلحة "سيف القدس" في قطاع غزة، ومسيّرات "ترسيم الحدود البحرية" وصواريخها في لبنان، ونتائج عملية "جز العشب" الفاشلة في الضفة الغربية، خير دليل على ذلك.
- المعادلة الثانية: أحزمة النار المانعة إقامة "البيئة الاستراتيجية الآمنة"
صحيح أن الكيان الاسرائيلي لم يستسلم أو يُسلّم لحلول موسم التراكم الاستراتيجي في تلك الساحات، وصحيح أن معركته المباشرة أو غير المباشرة على هذا الخط، بالتكافل والتضامن مع ثنائي اميركا والإرهاب، ما زالت قائمة ومستمرة إلى يومنا هذا، لكن، على الرغم من ذلك، فإنه أقرّ مرغماً بأن هدف التراكم أُنجز (ولو بصورة متفاوتة بين الساحات)، وأن المعركة بين الحروب لم ولن تؤدي "قسطها للعلى"، ولا بأي شكل من الأشكال. ومن أجل هذا وذاك بدأ معركته التالية، والمتمثلة بمحاولات فرض البيئة الاستراتيجية الآمنة في هذه الساحات، عبر محاولة تبريد أحزمة النار تارة، أو انتزاع وقودها وتجفيفها تارة أخرى.
لم تكن الأساليب التي استخدمها الكيان في محاولاته تبريد أحزمة النار أو نزع وقودها متماثلة في كل الساحات، فعلى صعيد الضفة الغربية، كانت محاولات نزع الوقود وتجفيفه هي الطاغية، استمراراً لسياساته من عام 2002، من "السور الواقي" إلى عملية "جز العشب" الأخيرة، وما بينهما وما بعدهما، معتمداً على آلته الحربية المباشرة تارة، وعلى التواطؤ مع بعض من في السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية تارة أخرى. لكن السؤال الذي فرض نفسه، بقوة، بعد كل هذه العمليات والأعوام: هل انتُزِعَ الوقود حقاً؟ هل انطفأت جذوة المقاومة؟ هل الأسلحة المستخدمة في أيامنا هذه من جانب المقاومة في الضفة تدلل على نضوب وقودها، أم أنها تشير إلى توقد نيرانها أكثر فأكثر؟ الإجابة عند من يتابع قطعاً.
أمّا على صعيد قطاع غزة، فأُصيبت استراتيجية نتنياهو في محاولاته المديدة تبريد حزام النار فيه بأكبر عملية خداع استراتيجي تعرض لها الكيان منذ "وجوده"، فلقد تم تضليله بصورة جلية وواضحة في توقعه النتائج المترتبة لإدخال الأموال القطرية للقطاع، وكذلك في توهمه قراره زيادة أعداد العمال الفلسطينيين الداخلين من القطاع لمستوطنات غلاف غزة، وكذلك أيضاً فيما اعتقده تكتيكاً ناجحاً في تحييده وتمييزه بين الحركات المقاومة في القطاع، وغيرها من السياسات والاستراتيجيات الفاشلة، والتي اتبعها تجاه القطاع، بحيث استيقظ ومفكريه الاستراتيجيين في السابع من أكتوبر، ليجدوا أن حزام غزة لم يبرد، ولم يحيّد وقوده، بل كل ما قاموا به عمل على تغذيته وتسريع استعار لهيبه، الذي لفح ويلفح "وجود" الكيان برمته، وليس فقط مس بمكانة الردع لديه.
أما في لبنان، والذي ظل إلى ما قبل السابع من أكتوبر عصياً عن أي تفكير في الاعتداء على ساحته، بفعل معادلة الردع التي كرستها المقاومة إلى ما قبل دخولها معركة إسناد غزة، فكانت استراتيجية الكيان بشأن كيفية تبريد حزام النار في جنوبيه متباينة تماماً عمًا سبقها في سائر الساحات، فلم يكن لاستراتيجيتي التبريد والتجفيف مكان في أرضه، وإنما حل محلها سياسة "تسكير الملفات" بدءاً بترسيم الحدود البحرية، إلى الايعاز في رفع الفيتو عن التنقيب عن النفط والغاز في بلوكاته المتاخمة للحدود، إلى التلويح بالاستعداد لتقديم بعض الجَزَر الاقتصادي والمعيشي لشعبه، كموضوع السماح لهم بالتزود بالكهرباء من الأردن عبر سوريا، أو من مصر من خلال توريد الغاز إليه، إلى غيرها من القضايا المشابهة، ظناً منه أن ذلك سيجعل لبنان بيئة استراتيجية آمنة بالنسبة إليه! لكن، مع بزوغ فجر الثامن من أكتوبر الماضي، تبخر كل ذلك، واستفاق الكيان على هزيمة أخرى، كانت مدوية من الضفة الغربية إلى قطاع غزة وصولاً إلى لبنان، تحت عنوان: أحزمة النار تغلبت على إقامة البيئة الاستراتيجية الآمنة حول الكيان.
معادلات ما بعد السابع من أكتوبر
-المعادلة الثالثة: وحدة الساحات وحربها الفيصل مع "تغيير المعادلات".
ثالثة حروب المعادلات وأخطرها هي الجارية حالياً في هذه الساحات الثلاث أيضاً، وهي الحرب التي أطلقها نتنياهو بالتكامل والتكافل مع بايدن، كما ذكرنا، ولأن عنوانها كان شاملاً وواسعاً، ولأن من يخوض غمارها شركاء متضامنون فيما بينهم، من أميركا إلى بريطانيا، وصولاً إلى دول اخرى غربية وبعض عربية مع الأسف.
ولأن أهدافها تتخطى جغرافيات قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان إلى المنطقة برمتها، فإنه كان من الواجب أن تواجه هذه المعركة بساحات متحدة مع بعضها البعض، كونها أدركت، مع الطلقات الأولى على غزة، أنها ساحات تقبع في لائحة الانتظار، الواحدة تلو الأخرى، من فلسطين وصولاً إلى إيران واليمن، مروراً بلبنان وسوريا ومعهما العراق أيضاً، فكانت وحدة الساحات التي رفضت التحذير الأميركي الأول والثاني والثالث. وفرضت تالياً على أميركا ومعها العالم أجمع، بالتسليم بها أولاً، وأنها تالياً تخوض غمارها منعاً وكسراً لمشروع تغيير المعادلات في المنطقة برمتها.
وهي اليوم، مجتمعةً، أوصلت الكيان إلى مفترق طرق حقيقي، مجبرة إياه عاجلاً وليس آجلاً على المفاضلة بين هزيمة استراتيجية قاتلة ومكلفة جداً، في كل الأصعدة، في حال تهوره وفتح الحرب الشاملة على لبنان، أو ستجعله يرضخ لهزيمة استراتيجية محدودة، عبر قبوله، رغماً عنه، إيقاف الحرب والعدوان على قطاع غزة، تجنباً لخوض حرب شاملة قد يقع بفعل حماقته في شركها، أو أنها ستجبره على البقاء في دائرة الاستنزاف والإنهاك القاتلين في مختلف الجبهات، الأمر الذي سيؤدي إلى ثوران طوفان داخله، شعبياً وسياسياً وعسكرياً، والذي ستكون نتائجه جارفة على الصعيد الوجودي، تماماً كما هو عنوان معركته في مختلف الساحات.
خلاصة القول، ليست المفاوضات الجارية حالياً، بالنسبة إلى كيان الاحتلال، مفاوضات من أجل أهداف تتعلق بالأسرى أو غيرها، وليست الجبهات المشتعلة ضمن وحدة الساحات جبهات لتحقيق مكاسب قصيرة المدى، لكن الصحيح هو أن الكيان يفاوض من أجل تغيير المعادلات في المنطقة برمتها، والجبهات بدورها تقاتل وتضغط من أجل تكريس وحدة الساحات فيها، والعين على تداعياتها وأبعادها.
إنها حرب مفصلية من أجل عكس المعادلات في المنطقة، وليس فقط العمل على منع تغييرها، كما يشتهي نتنياهو وبايدن معاً.