قلب "إسرائيل" المريض..هل يتعافى من أزمته الداخلية؟
لا يمكن سلخ مشهدية الأزمة الداخلية في "إسرائيل"، عن جدوى نتنياهو للبقاء خارج القضبان، وبالتالي، إن خروجه من اللعبة سيعيد تغير خارطة الأزمة.
لم يأتِ "تجمع القبائل" (الوصف الذي أطلقه ديفيد بن غوريون على المجتمع الصهيوني) الإسرائيلية بعد 75 عاماً، بما عجز جيش الصهر الذي صاغه بن غوريون عن إنتاجه: أي "صهيوني جديد مؤمن بهويته الموحدة والمنصهر في ثقافته الجديدة"، فوجه الانقسام الأول بين المؤسسين والمهاجرين الجديد، تكوّر وتنافر حتى بات انقساماً قومياً ودينياً وأيديولوجياً وإثنياً، كاشفاً عن نقاط ضعف تكوينية، انخرطت مع الزمن بعمليات قضم بنيوية في جسد المشروع الصهيوني، وذلك منذ اللحظة الذي تحول فيها الصراع "على من يدير مشروع الدولة" وليس كيف نحقق المصلحة القومية العليا.
لكن "إسرائيل" بمشهديتها الحالية، من التناحر الداخلي، لم تصل إلى ما هي عليه في اليوم التالي من حكم نتنياهو، كما أن غضب الشارع ليس بجديد على الكيان، قبل ذلك، شهد الشارع احتجاجات أعنف وأكثر تواتراً وتضخماً، إذاً ما الذي اختلف الآن؟
قد يتشابه الاحتجاج الحالي مع "الاحتجاج البرتقالي" عام 2005 ضد خطة "فك الارتباط" (الانسحاب من غزة)، عندما أيقن الجمهور الإسرائيلي أن "الدولة" تسير بالمشروع الصهيونية نحو الحافة، ومع فقدان الثقة بالنظام الحاكم، استوجب الأمر مجابهة الحكومة لحماية الأمر الصهيوني الأعلى.
لكن الاختلاف هنا، في هوية محركي الاحتجاج، ففي احتجاج الـ 2005 شكّل المحتجون الحلقة الأضعف أمام "الدولة" وفي أروقة "الدولة العميقة"، وعلى الرغم من إخماد الاحتجاج، إلا أن خارطة سياسية جديدة انزاحت نحو اليمين القومي والديني، بعد أن تيقّن هؤلاء أن عملية كبح القرارات وصنعها، لا تكون إلا بالإمساك على مفاصل الدولة المركزية، كي لا تلتحق مناطق أخرى بمصير غزة.
أما قادة الحراك الحالي، فيعيشون على الضفة الأثقل وزناً، هم من أصحاب النفوذ والقاعدة النخبوية في المجتمع الإسرائيلي، بدءاً من قضاة المحاكم، مروراً بالقادة العسكريين المخضرمين، والمفكرين ورجال الأعمال، وصولاً إلى الإعلاميين، وهو ما يفسر جدار الدعم الذي يحيط بالاحتجاجات.
إذ يرى هؤلاء أن "الدولة" التي ورثوها عن أجدادهم المؤسسين، وما يقع على عاتقهم من حِمل اقتصادي وعسكري يفرض عليهم أن يتحولوا إلى "حراس البوابة". في وقت يرفض فيه المتدينون حتى الامتثال للخدمة الإلزامية، أو الانخراط الفعّال في مؤسسات الدولة، بينما يتم ضخ الميزانيات الضخمة إلى داخل مدارسهم الدينية.
إذاً، ليس أمراً عابراً أن تشكل نسبة كبار السن المشاركين في الاحتجاج النسب الأعلى، حسب استطلاع للرأي أجراه "المعهد الإسرائيلي لدراسات الديمقراطية"، ومجدداً يؤكد انخراط الجيل المؤسس لـ "الدولة الصهيونية"، ممن يمتلكون القوة الاقتصادية والعسكرية والثقافية.
على أن تشكّل الخطورة في الاحتجاج الحالي استند على مسألتين جوهريتين، أولاً، تغليب المصالح، ودخولها على خط الصراع الداخلي، من جهة نتنياهو لا مانع لديه بأن يهدم المعبد على رؤوس الجميع، المهم أن لا يذهب إلى المحاكمة في قضايا الفساد التي تلاحقه، وهنا يكمن جوهر التعديلات القضائية، ومن جهة ثانية، يُساق كل حدث إلى مفارز التوظيف السياسي ضمن الاحتراب القائم يبقى أن الخاسر في هذه المعركة، هو الكيان.
ثانياً، لم تعد القضية مسألة مطالب اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية على غرار الاحتجاجات التي سبقت، إنما صراع على هوية الدولة وإيديولوجيتها، ومن الأحق بحماية "المصلحة القومية لدولة اليهود".
هنا، يمكن تلخيص الصراع الداخلي الحالي، بإجابة سموترتش حين سُأل عن الجهة التي تضمن عدم إلحاق الضرر بحقوق الأقليات، فأجاب: أنا، باختصار إن جوهر التغييرات القضائية، يكمن في انتقال "حقوق اليهود" من المحكمة إلى يد السياسيين، لتأمين ممر شرعي يضمن احتكاراً أحادياً للسلطة والنفوذ.
بشكل ما يكاد يكون، الخط المركزي لمسار الاحتجاج يمر من ثكنات جنود الاحتياط، ليس فقط لإن تاريخ الاحتجاجات كتلك التي قامت عام 1990، وما تلاها من احتجاجات حرب تموز، واحتجاجات الخيم أو "الكوتيج" عام 2011..
أثبتت جميعها أن "الجيش" يمتلك الثقل الوازن في نجاح أي حراك، أو فشله، وهو ما اكسبه صفة "الكتلة الحرجة"، إنما أيضاً لطبيعة الوحدات نفسها، تلك المنخرطة في الاحتجاج، من سلاح الجو إلى الوحدات التكنولوجية العسكرية الاستخباراتية، المنتمين إلى الطبقة النخبوية الثرية ذات الأصول الغربية، بما يضمن تغذية المزيد من الانقسام الطبقي داخل الجيش.
للاستدراك هنا، لم يكسب الاحتجاج زخماً إلا بعد انضمام "الجيش" إلى الاحتجاج، مُحدثاً قفزة في عدد المحتجين من عشرات الآلاف (بمعدل 40 ألفاً) إلى ربع مليون مستوطن.
بالنسبة للجنود، إذا سقط الجدار الدفاعي والمتمثل بالمحكمة العليا، في حال تمرير التشريعات، إذاً من يحمي هؤلاء من المساءلة الدولية عن جرائم الحرب التي قاموا بها، كما فعلت المحكمة في العدوان الجوي على رام الله خلال الانتفاضة الثانية.
أفق الأزمة: اللا تعافي
في مقابل كل ذلك، لا يمكن سلخ مشهدية الأزمة الداخلية، عن جدوى نتنياهو للبقاء خارج القضبان، وبالتالي، إن خروجه من اللعبة سيعيد تغير خارطة الأزمة. كما لا يمكن التعويل على عملية الصهر التي وكّل بها "الجيش"، بعد أن كشفت مرحلة الاستقرار "النسبي" للمشروع الصهيوني عن حجم الشروخات في المجتمع الإسرائيلي، إذا ما الذي ينتظر الكيان؟
عند الانتقال إلى السرد المنطقي للسيناريوهات المتوقعة، لا بد أولاً من استبعاد حديث المبالغة حول وقوع حرب أهلية، نظراً لغياب المؤشرات الفعلية، فالعنف لا زال ضمن مستوياته المتوقعة، والاحتجاجات ضمن حدود السيطرة، ولم تسفر عن قتلى، أو تدمير وخراب لمؤسسات "الدولة". كما سيظل يناور المعسكرين عند حدود النيران كي لا تُحرق الدولة بمن فيها.
السيناريو الأولى، يفترض صمود الحكومة، باعتماد نتنياهو أغطية التبريد لإطفاء الحرائق، والالتفاف الخلفي على الاحتجاجات، إلا أنه لن يتمكن من تحييد الألغام القادمة، من المناقشات القضائية المرتقبة إلى قانون التجنيد، والتطبيع السعودي وما يفرضه من تقديم مكاسب مالية للسلطة الفلسطينية، فضلاً عن معالجة التفسخات التي تنشأ داخل الائتلاف، وملف الاستيطان والمجتمع الدولي.
أما سيناريو حكومة وطنية، فهو مستبعد إلا في حال تدحرج التصعيد نحو حرب عسكرية مع حزب الله أو إيران، بما يستوجب رصّ الصف وتوحيده. بينما يبقى السيناريو الأكثر ترجيحاً، بسقوط الحكومة مع تصاعد حدة التناقضات الداخلية، مما يعني الذهاب إلى انتخابات مبكرة.
يتقدم منسوب الأهمية هنا، في وقوع الصراع الداخلي بحدّ ذاته وليس بالضرورة في مخرجات الاحتجاج، إذ أن الاحتجاجات تاريخياً لم تنجح بأغلبها، إلا أنها ساهمت في إحداث تغيير فكري، وتناسل تراكمي للانقسامات، وأحدثت تغييراُ في المسار السياسي.
حركة " الأمهات الأربع" كمثال، قامت ضد الخدمة العسكرية في حرب لبنان الأولى وللمطالبة بالانسحاب الإسرائيلي الفوري، في البداية لم يلق الاحتجاج السوى السخرية من المستوى العسكرية وأصحاب النفوذ، لكنها استطاعت زعزعة مفهوم "القتال" المقدس عند "الجندي الإسرائيلي"، في إدخال الشك إلى عقلية الجندي في مدى جدوى وصوابية الخدمة العسكرية في لبنان ضمن المشروع الصهيوني.
هنا، يقول البروفسور إدي لابيل، الباحث في العلاقة بين "الجيش" والمجتمع في الكيان أن "الاحتجاجات الكبيرة داخل "إسرائيل" على الحرب في لبنان جعلت الجندي الإسرائيلي العائد من خدمته في لبنان يتساءل، هل سيُستقبل بالورود أم بالشتائم؟". كما شكلت قوة ضاغطة على المستوى السياسي، وإن لم يكن سبباً مباشراً في انسحاب "إسرائيل" من جنوب لبنان عام 2000، لكنه غير الأجندة السياسية فيما بعد، فاتخذ حينها إيهود باراك من مطلب هؤلاء النسوة بنداً أساسياً على لائحة الوعود الانتخابية، وكان الانسحاب في عهده.
الثابت إلى الآن، أن الكيان يندفع بوتيرة أسرع نحو تجذر الانقسامات، قد يمر بمرحلة تخدير، وربما محاولات لتأجيل الانفجار، لكن تركيبته البنيوية بما تضم من متناقضات، تجرفه بعيداً عن التعافي إلى مراحل مرضية أخطر.