قراءة في "العنصرية البيضاء" و"الانحياز اللاموضوعي".. أين المفاجأة؟
الهوية الأوروبية التي تنضوي ضمنها الهوية الأميركية باتت البدعة التي سيفسّر من خلالها الأوروبيون خلال القرن اللاحق سياساتهم الخارجية وتاريخهم وتاريخ العالم أجمع أيضاً.
دأبت وسائل إعلامية كبرى ومؤسسات حقوقية ونقابية على مستوى العالم خلال الأيام الماضية على تسليط الضوء على اللغة العنصرية والمنحازة التي وسمت الخطاب الإعلامي لكبرى الشبكات الإخبارية الأوروبية والأميركية في تغطيتها الحدث الأوكراني.
وسلّطت عشرات التقارير الإعلامية المصورة والمواد المكتوبة الضوء على اللغة التي استخدمها مراسلون ومقدمو برامج وإعلاميون وصحافيون وسياسيون وفنانون غربيون في تغطيتهم للحرب الدائرة في أوكرانيا منذ أكثر من أسبوع، من شبكات مثل "سي إن إن" و"سي بي إس" و"إن بي سي" و"الجزيرة الإنكليزية" و"ذي تلغراف" و"بي إف إم" وغيرها، تضمّنت عبارات فاضلت بين اللاجئين الأوكران واللاجئين من قارات أخرى، ولا سيما آسيا وأفريقيا، على أساس العرق والديانة والطبقة الاجتماعية والاقتصادية والشبه العام بينهم وبين الأوروبيين.
ولكنّ الصدمة التي أبداها العديد من منتقدي هذا الأداء الإعلامي الرجعي تستبطن مغالطة تاريخية كبرى، لعلّها تكون أسوأ من حيث الآثار والدلائل من هذا الأداء نفسه، فاللغة "العنصرية" والانحياز التام والواضح إلى كلّ ما يرتبط "حضارياً" و"ثقافياً" بالغرب هو سمة الإعلام الغربي الحديث، أي منذ ما لا يقلّ عن مئتي سنة.
"أعباء الرجل الأبيض": نصّ إعلاميّ محوري
في العام 1898، غزت الولايات المتحدة الأميركية مستعمرات الإمبراطورية الإسبانية، أي كوبا والفلبين وغوام وبويرتوريكو. بعد بضعة أشهر، نظم الصحافي والروائي والشاعر البريطاني روديارد كيبلينغ قصيدةً بعنوان "أعباء الرجل الأبيض"، يقول في مطلعها:
"قم انهض بأعباء الرجل الأبيض
أرسل أفضل ما أنتجته سلالتك
أرسل أبناءك إلى المنفى"
تقدّم لتلبية حاجات أسراك (أو مماليكك)"
تصلح هذه القصيدة لتكون نموذجاً تاريخياً عن أولى الدعايات الإعلامية الموثّقة التي تحمل لغة عنصرية، ويصلح مطلعها لأن يكون نصاً تأسيسياً لعقيدة أيزنهاور في علاقات الولايات المتحدة الأميركية الخارجية التي سيتمّ إقرارها بعد نهاية الحرب الأميركية – الإسبانية بـ50 عاماً.
ويمكن القول إنّ هذا النص يحمل كلّ معالم الدعاية الإعلامية التي نشهدها اليوم، فهو يُقدّم بإطار أدبيّ فنّي شعريّ "حضاريّ" يحمل لغة متفوّقة عن لغة العامة، وينتجه أحد الصحافيين – الشعراء الذي ولد في مستعمرة الهند البريطانية لأبٍ بريطانيّ مستشرقٍ وأمّ من عائلة ماكدونالد تعتبر نموذجاً عن "الأمّ البيضاء"، ويُبرَّر من باب نشر الحضارة وإنقاذ "أسرى الشيطان وأصحاب العقول الطفولية" من أنفسهم ومن حياتهم البائسة، ويجعل الجيوش الأميركية المنقولة على متن السفن الشراعية تعيش حالة الإحساس بالفضل والفضيلة والشأن العظيم وهي تقدم على احتلال بلدٍ في الطرف الآخر من العالم واستغلال موارده الهائلة وشعبه وتهميش كلّ معالمه الحضارية وثقافته التي قد ترجع إلى آلاف السنين، بل تدميرها، لاستبدال حضارة الرجل الأبيض الناشئة بها.
تجديد في شكل الخطاب: اختراع الشعب "الأوروبي"
بعدما استتبّ الأمر بشكل جيّد لدول أوروبا الاستعمارية، ووجد "البيض" أنفسهم يتزاوجون ويتوالدون في بلاد أخرى وقارات أخرى ومن أعراق أخرى، ويحكمون مستعمراتهم بأبناء شعوبها بدلاً من المستعمرين الأصليين، أصبحت سياساتهم أكثر تعقيداً وتشابكاً مع مصالح أوسع من حدود العرق الأبيض، وبرزت هنا مشاكل جديدة.
كانت هناك حاجة لتقديم هوية جديدة، تضمّ كلّ قيم الرجل الأبيض، وتضمّ إضافة إلى ذلك أبرز منجزاته "الحضارية" في تحويل شعوب أخرى إلى شعوب أكثر حضارة وتقدماً، ولا تجعله يخسر حلفاءه غير البيض. على سبيل المثال، إنّ دولة استعمارية مثل إسبانيا تشارك بريطانيا وسكوتلندا وهولندا وفرنسا وبلجيكا في معظم القيم الاستعمارية، بل كلها، ولكنّها بلا شكّ لا تنتمي إلى ثقافة الرجل الأبيض.
من هذا المنطلق بشكل أساسي، تمّ اختراع فكرة "أوروبا"؛ أوروبا التي لا علاقة لها بالجغرافيا، بقدر ما هي مرتبطة بمجموعة بلدان وشعوب وصلت بحسب فلسفة أصحاب المدافع والسفن إلى درجة عالية من "التقدّم الحضاري"، وباتت تمتلك نفوذاً عالمياً كبيراً ورصيداً هائلاً من ثروات الشعوب التي استعمرتها، فأصبحت بحاجة إلى إشهار تمايزها عن بقية شعوب العالم "القليلة الحظّ".
الهوية الأوروبية التي تنضوي ضمنها الهوية الأميركية باتت البدعة التي سيفسّر من خلالها الأوروبيون خلال القرن اللاحق سياساتهم الخارجية وتاريخهم وتاريخ العالم أجمع أيضاً. وفي ضوء الهوية الأوروبية التي تمظهرت من خلال القراءة الهيغلية للتاريخ، أصبح كل العالم مرتبطاً بأوروبا، وباتت مركزيّتها هي الحلّ لكلّ أسئلة الفلسفة الحديثة. بات تاريخ العالم هو تاريخ عملية التحاق شعوب العالم الأخرى بمستوى التقدّم الذي وصل إليه العالم الأوروبي، وباتت الأسئلة عن حقّ الشعوب الأوروبية في نهب ثروات العالم سؤالاً غير مشروع، لأنّها استعملت هذه الثروات لقيادة مسيرة التاريخ العالمي نحو "غايتها النهائية".
لن تلغي الهوية الأوروبية تفوّق العرق الأبيض الأوروبيّ على سواه من الأوروبيين، لكنّها ستعني أنّ قاسماً مشتركاً يمكن البناء عليه يجعل صهر المكوّنات الأوروبية في مسار سياسيّ واحدٍ أمراً ممكناً ومفيداً لجميع الأطراف "الأوروبية".
باختصار، حلّ اختراع الهوية الأوروبية كلّ الأسئلة التي كان الرجل الأبيض يخشى أن تقلق ليله يوماً ما، حتى لو أنتجت هتلر والعقيدة النازية، فهذا ضرر جانبي يمكن تقويمه، ولو بلغت تكلفة علاجه 100 مليون قتيل. أصبح العالم المستغَلّ ممتناً للإمبراطورية، وأصبح الرافض للتوسع الغربي ناكراً للجميل ومعطّلاً لحركة التاريخ ومصيبة على البشرية جمعاء، بل شيطاناً يجب رجمه من قبل المستغَلّين الآخرين، حتى لا تصل مشاكساته إلى سماوات الرب الأوروبي، فيصبح مصير العبيد في الأرض التخلّف والرجعية.
أوكرانيا والحلم الأوروبي المترهّل
لا حاجة لبذل جهد في وضع المشهد الحالي في شرق أوروبا في سياق "فكرة أوروبا" ومحورية الانتماء إلى هذه القارة العجيبة، بل وحصريته، في القدرة على حلّ مشاكل أي بلد في العالم.
أوكرانيا دولة عظمى سابقة تملك موارد تزيد على 5% من موارد العالم، من بينها خامات الطاقة من اليورانيوم والغاز والفحم الحجري، إضافة إلى كميات هائلة من خام الحديد، وتمتلك بنيةً صناعيةً وزراعية متقدّمة، وتنتج غذاءً يغطّي حاجتها عدّة مرات، وتمتلك نسبة خصوبة سكانية مرتفعة نسبياً، ومساحة تجعلها من أكبر دول العالم، وهي تتصل ثقافياً ولغوياً وحضارياً وتاريخياً بالشرق الروسي، وتقع على حدود دولة عظمى كروسيا، ولكنّ هناك من سياسييها وشعبها من أصبح يرى أنّ خلاصها ونجاتها لن يكون إلا عبر الالتحاق بقارة أوروبية عجوز بذل البريطانيون بالأمس جهدهم للخروج منها.
أعباء الرجل الأبيض باتت ثقيلة: "الأوكران يشبهوننا"
هكذا قال عنهم العديد من المراسلين الأوروبيين أثناء تغطيتهم الحرب الدائرة في البلاد التي يزورها معظمهم لأوّل مرة، وبعضهم لم يسمع من قبل عنها سوى اسمها. العديد من المعلّقين لفتهم عنصرية المتحدّث بأنّ الأوكران يشبهون الأوروبيين، بوصفه نوعاً من التعاطف معهم على أساس عرقي، بينما لا نجد هذا الأمر أثناء تغطية مرتبطة بأعراق أخرى.
لكنّ جانباً آخر مهماً تمّ إهماله هنا، فالأوكران "يشبهوننا"، ولكنّهم ليسوا أوروبيين. صحيح أنهم ينتمون إلى العرق الأبيض، وصحيح أنّ العرق الأبيض ما زال حاكماً في أوروبا والولايات المتحدة، ولكنّ تضعضع "حلم أوروبا" كمركز للعالم وسقوط "الأحادية البيضاء" المطلقة التي ظنّت يوماً مع جورج بوش الأب أنّ التاريخ وصل معها إلى غايته، فرض نفسه بقوة على المشهد السياسي الأوروبي.
لم يعد كلّ أبيض "أوروبياً بالفعل"، وإن كان لا يزال "أوروبياً بالقوة"، أيّ أنّ الفكرة التي بدأت لتوسيع نفوذ الرجل الأبيض باتت أضعف من أن تتحمّل كلّ أعباء الرجل الأبيض حيثما حلّ في العالم. في أوروبا اليوم، ثمة تشريعات تجرّم العنصرية والتعامل على أساس عنصري، وإن كانت غير معتنى بها نسبياً مقابل تشريعات أخرى، فإنّ العالم الأوروبي اليوم لم يعد قادراً على تبرير خدمة الرجل الأبيض كغاية لوجوده، ولكنّ العنصرية لم تنتهِ بهذا الانقلاب، بل إنّ كلّ قيم العنصرية البيضاء، والتي قامت عليها أوروبا منذ الأساس، تحوّلت اليوم إلى عنصرية أوروبية قائمة على مفهوم التقدّم الحضاري.
من هو الإنسان الجيّد إذاً؟
كل من ينتمي اليوم إلى العالم المتحضّر الذي يحده الأوروبي عن يمينه والأميركي عن يساره فهو جيّد، وإن كان ينتمي إلى العرق الأبيض فهو أفضل، وإن كان من أعراق أخرى "مخلّطة" فهو أقلّ جودة. الأوكرانيون يشبهون الأوروبيين شكلاً، فهم يشبهون الإنسان الجيّد، ويستحقون التعاطف والمشاعر، ولكنّهم لا يستحقون أن يخوض العالم المتقدّم حرباً كبرى من أجلهم؛ حرباً يمكن أن تعيد تقدّمه إلى الخلف عقوداً.
وكل من لا ينتمي إلى أوروبا الفكرة، ويسعى لأن يحافظ على هُوية ثقافية وحضارية متمايزة عن أوروبا، ويرى تاريخه منفكاً عن تاريخ أوروبا، ولا يؤدي طقوس العبودية المركزية لها، بل ويتعامل معها بندّية وتوازن، ويرسم لتاريخه مساراً منفصلاً عن كلّ مسارات هيغل ونيتشه وفوكوياما ومن لفّ لفّهم من فلاسفة تأليه أوروبا، سيجد نفسه ذلك الشيطان الذي يحرم العالم من التقدّم والازدهار، ويعوق حركة التاريخ، ويتوجّب على كلّ من يرغب من آل العالم القديم في أن يلتحق يوماً بالتقدّم والحضارة أن يواجهه ويطرده.
طرد "الشيطان" بوتين: مهزلة التاريخ الأوروبي!
يقف أحد الأصدقاء حائراً وهو يقرأ خبراً مفاده أنّ جامعة ميلانو الإيطالية العريقة قررت أمس إلغاء صفّ يدرّس الأدب الروسي، ويركّز على أعمال الأديب العالمي دوستويفسكي، بالتوازي مع العقوبات العالمية التي يفرضها العالم "المتقدّم" على روسيا بعد دخول قواتها إلى أوكرانيا.
تنبع حيرته بشكل أساسي من كونه تعرّف إلى أوروبا من دون أن يفهم "فكرة أوروبا". الحرم الكنسي الذي ألقاه العالم الذي يدور في فلك أميركا وأوروبا على روسيا وكل ما يمتّ لها بصلة، حتى على القطط الروسية – التي أعتني في منزلي بإحداها - يمثّل تأكيداً لا يقبل أيّ شكٍّ على أنّ كلّ معالم العنصرية البيضاء استكملت انتقالها إلى أوروبا وأميركا، وأنّ كلّ ما تشدّق به فلاسفة الحضارة الأوربية يوماً عن مسار تقدّمي أوروبيّ للتاريخ ينسفه خبر فرض عقوبات على "الأموات الروس" ومؤلفاتهم الأدبية والشعرية!
بوتين الأبيض ذو الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين، يصبح كـ"هتلر" عندما يهدد تفوّق أوروبا ونفوذها في العالم، ولو كان ذلك النفوذ على مشارف العاصمة الروسية، لأنّ الحرب "يجب أن لا تزعج سكان أوروبا حتى تبقى الحكومات الغربية تمارس هواية شنّ حروبها في العالم بينما شعبها ينعم بالأمن والسعادة"، كما تقول الأسطورة الأوروبية.
وهنا، تعود التغطية الإعلامية العنصرية والمنحازة أوروبياً إلى الواجهة، فالقضية ليست حضور مفردات "الأبيض، الأشقر، الأزرق، مسيحيون"، بقدر ما تتعلق بمفردات "طبقات متوسطة، متحضّرون، لديهم سيارات"، وهي ليست مرتبطة بما يتمّ تقديمه في الإعلام بقدر ارتباطها بما لا يتمّ تقديمه، وبوجهة النظر من الصراع الغائبة عن التغطية، وبتقديم الحدث الأوكراني بشكل منفصل عن أيّ سياق تاريخيّ مرتبط بنزاع بارد بين موسكو من جهو والناتو وأوروبا من جهة أخرى، والسؤال المفتاحيّ الذي يجب أن يطرحه المتابع للإعلام الغربي هنا سيكون: أليس هناك شخص واحد في كلّ هذه المحطات والشبكات لديه نقد ما لأداء حلف الناتو السياسي والعسكري، على الأقل في شرق أوروبا؟
ملاحظة على هامش التغطيات المنحازة
إنّ الصّدمة التي أبداها العديد من النقاد والمعلّقين على خطاب كبرى الشبكات الإعلامية الأميركية والأوروبية والبريطانية في تغطية الحدث الأوكراني تعكس انتزاعاً لآلة الدعاية الغربية من سياقها الّذي بُنيت واستمرّت عليه منذ تأسيسها، وهو كونها ذراعاً أساسية من أذرع السياسة الخارجية للدولة، وداعماً أساسياً لآلة الحرب الغربية حيثما حلّت ثقيلة في العالم.
ويمكن الجزم أنّ الانتصار والهزيمة في أيّ حرب أو معركة تحمل دلالات ثقافية وحضارية، يعودان في النهاية إلى من يكتب التاريخ، والإعلام اليوم هو كتاب التاريخ التي سترثه الأجيال القادمة لتقرأ من خلاله تجارب أسلافها.
لهذا، إن مقاربة الانحياز الإعلامي الغربي بشكل سطحيّ تقدّم خدمة مجانية لحكومات أثبت التاريخ أنَّها لا تنظر إلى دول الشرق والجنوب إلا من زاوية الفوقية والنظرة الاستغلالية والشهوات التوسعية، بينما أصبح الرأي العام اليوم أكثر قدرة على فهم السياق السياسي والاقتصادي للرسائل الإعلامية وتفكيك عناصرها الخفية، ليصل إلى أقرب صورة ممكنة للواقع الذي يتحرّى عنه.