عين الكيان على بتر "الحرب الشاملة" ولكنه نزل إلى الميدان متأخراً
إنها الحرب الشاملة التي يجهد الكيان لتجنبها ويسير بين الألغام لكي لا يقع في شركه.
لم يستيقظ العالم مصدوماً بكلام وزير حرب الاحتلال بيني غانتس "مزهواً" بتشكيل ما أسماه "تحالف الدفاع الجوي" بين كيانه ومجموعة من الدول في المنطقة، وبرعاية أميركية. السبب في انتفاء عنصر المفاجأة هذا مرده إلى العودة إلى الاستراتيجية الأولى للأمن القومي الأميركي عام 2010، وتحديداً في عهد الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما، والتي أوصت بالعمل على "إقامة المظلة العربية - الإسرائيلية المشتركة"، عبر ما حدّدته من خلال "ربط الرادارات في النقب مع نظيراتها الموجودة في الإمارات"، وبرعاية أميركية صرفة .
حالُ عدم المفاجأة تلك انسحب أيضاً على ما حاول نفتالي بينيت تسويقه بأنها استراتيجيته الجديدة في حربه غير المعلنة على إيران، والتي أسماها "ضرب رأس الأخطبوط" بدلاً من بتر أذرعه.
ولعل السبب في ذلك أيضاً أن هذه الاستراتيجية ليست وليدة اليوم، فلطالما كانت حرب الظلال مستعرة بين الجانبين منذ سنوات مضت، سواء كان ذلك عبر حروب السايبر، أو من خلال الحوادث الغامضة في المقلبين، والتي تخرج إلى العلن بين الفينة والأخرى.
إذاً، هذا التسويق الصهيوني المتعمد ليس بريئاً، لا في زمانه، ولا حتى في تحديد مكانه، فما المقاصد الفعلية لحكومة الكيان؟ وأين القطبة المخفية التي يبحث عن حلها؟ وما الذي يعدُّه خلف الستار؟
لقد أجمع كثرٌ من الباحثين والمحللين وخبراء الاستراتيجيا في الكيان الصهيوني على أن حرباً أحادية تُشنُّ على إيران، من دون مشاركة أو حتى موافقة من الولايات المتحدة الأميركية، هي ضربٌ من الخيال، لا من ناحية فعاليتها، ولا من ناحية نتائجها، ولا حتى من ناحية القدرة بداية على أخذ قرارها، بغض النظر عن تبريراتها ودوافعها، سواء كانت نووية أو تقليدية أو غيرها، لكون معضلتها الكأداء كانت وما زالت وتبقى في كلمة السر التي لم يجد لها الكيان جواباً: ماذا عن ميدان جغرافيتها؟ من هم المتدخلون فيها؟ وهل فعلاً يمكن حصرها زمانياً ومكانياً؟
وتبقى الأسئلة المهمة: ماذا في نتائجها وتداعياتها؟ وهل سيتمخض عنها فعلاً تغيير في البيئة الاستراتيجية في الشمال والجنوب معاً؟ هل هي مضمونة لمصلحة الكيان أو سترتد وبالاً عليه؟
باختصار، إنها الحرب الشاملة التي يجهد الكيان لتجنبها ويسير بين الألغام لكي لا يقع في شركها. ليس سراً نكشفه اليوم عندما نضيء على سياسة إيران وحلفائها في عملهم - ومن خلال خلاصاتهم لنتائج حرب تموز عام 2006 - على تشييد ركيزتين؛ إحداهما تتعلق بتحصين الرأس، والأخرى تُعنى بتمتين الأذرع، واللتين فرضتا على الكيان البقاء طويلاً في مربع من اللايقين حول لغز انطلاقها من عدمه.
يُغلَّف العجز الصهيوني عن تلمس التنبؤ بوقوع تلك المعركة ونتائجها بغلاف من "الإنجازات" الميدانية، من اعتداء هنا أو تخريب هناك، وبغلاف من التباهي بتسعير "معركة بين الحروب" هنا أو بالتهويل بعقد تحالفات عسكرية "دفاعية" هنا وهناك، والهدف يبقى واحداً: ضمان تحييد الرأس عندما تنشب معركة بتر الأطراف، وذلك ظناً منه بأن إشغاله سيضمن منعه من المشاركة في معركة الدفاع الشاملة والمتكاملة مع أحد أذرعه المستهدفة حصراً.
انطلاقاً من هذا الهدف، يعتقد الكيان واهماً بأن لعبة تقييد الرأس تلك - إذا نجحت - ستكون أولى تداعياتها البتر على مقلبين: الحرب الشاملة من جهة، والذراع المستعصية من جهة ثانية، فضلاً عن أنها ستقدم "أجوبة شافية" عن تلك الأسئلة الحائرة التي استعرضناها سابقاً، والتي لم يجد الكيان أجوبتها القاطعة لغاية اليوم.
ربما يرى الكيان أن اكتمال الحلقات التي يعمل عليها حالياً سيجعل عناصر اكتمال الحرب الشاملة التي يخشاها في خبر كان، وخصوصاً عندما يفترض أن الدرع الصاروخية الأميركية، ومعها "العربية" والصهيونية أيضاً، ستكون كفيلة بجر الرأس في إيران إلى خيار من اثنين مُحرِجَيْن: إما الوقوع في فخ استدراج إلى مواجهة مثلثة الأضلاع، وذلك في منطقة جغرافية بعيدة عن الكيان، بحيث تكون باهظة الأثمان عليها وعلى كل المشاركين في ذاك التحالف الدفاعي ضدها، وإما النأي بنفسها عن معركة محددة، تكون منشودة صهيونياً في جغرافيا يختارها الصهاينة بأنفسهم، وذلك لحصرها بذراع بعينها.
دوافع هذه الحرب قد تبدو مغرية للكيان الصهيوني، ومشجعة له في إكمال السير بها، إلا أن حساب حقله قد لا يطابق حساب بيدره، ودليلنا على ذلك أننا لو استثنينا موانع الحرب الإقليمية في الخليج، وذلك لحسابات أميركية وأوروبية، وحتى صينية أيضاً، نظراً إلى مخاطرها الحتمية على اقتصادات ومجتمعات هذه الدول بعينها، وعلى الاستقرار العالمي بأسره، وكذلك لو استثنينا موانع الانقياد الأعمى لدول التطبيع قاطبة في خشيتها من إشعال النيران، ليس في ثوبها فحسب، إنما في قلبها النابض حتماً أيضاً، وكذلك لو نحينا موانع المفاجآت التي قد لا يكون الكيان قد تحسب لها جيداً... لو استثنينا كل ذلك، واستعرضنا ما يلي، إلى أية محصلة ونتيجة قد يؤول الكيان برمته؟
- عام 2009، وقف مسؤول التقدير القومي لدى الكيان في حينه، عاموس يادلين، محاضراً في سياق ندوة نظمها مركز دراسات الأمن القومي في "تل أبيب"، متحدّثاً فيها عن 7 تحديات تواجه الكيان في العقد الماضي، من بينها مصطلح "التصنيع لدى محور الشر"، وتحديداً في مجال الصواريخ حصراً، مشيراً إلى انتقاله -أي التصنيع- من إيران إلى سوريا، هذا من دون الحديث في حينه عن مجال الطائرات المسيرة، التي يتحدث مسؤولو الكيان اليوم أنه عبر إلى لبنان ولم يبقَ في سوريا.
لو افترضنا صحة ما تحدث عنه يادلين، وما يقوله هؤلاء، هل يبقى لنظرية البتر الصهيونية أهمية في المعركة التي يشتهيها الكيان في الأيام المقبلة؟
- في الأعوام التي تلت انطلاق الحرب على سوريا، كان بنيامين نتنياهو يتغنى بأن لديه خطين أحمرين في سوريا لن يقبل بأن يتجاوزهما أبداً، أولهما يتعلق بالوصل الجغرافي من إيران وصولاً إلى لبنان، مروراً بالعراق وسوريا، وذلك لضمان بتر انتقال العنصر البشري إلى حربه المحددة مع المقاومة، وثانيهما يتعلق بمنع تمركز إيران وحلفائها في الجبهة الجنوبية من سوريا، وذلك لضمان عدم وجود جبهة واحدة تمتد من الجولان وصولاً إلى الناقورة.
ولكن ألم يصبح هذان الخطان الأحمران نسياً منسياً لدى إيران وحلفائها؟ ألم تصبح الساحات واحدة، وإمكانية انسياب العنصر البشري بينها تحصيلاً حاصلاً؟ ألا يتهيب زعماء الكيان يومياً -وبلا انقطاع- ما يطلقون عليه "حرب الشمال الأولى"؟ وهنا، يحضر التّساؤل: ماذا تفيد بعدها نظرية البتر تلك في واقع كهذا؟
خلاصة القول، ربما يعتقد بينيت وغانتس أنهما سينجحان في محاولاتهما بتر الحرب الشاملة، وذلك لإسقاط الذراع المستعصية التي استعصى سقوطها على أسلافهما، تارة عبر ضرب "رأس الأخطبوط"، وطوراً عبر "تحالف الدفاع في المنطقة"، ولكنَّهما في واقع الأمر -ربما- تجاهلا أو لم يلتفتا إلى أخطر لغزٍ اعتقدا واهمين بأنَّهما على الطريق الصحيح لفكّ شيفرته، ولكنهما في الحقيقة قد يكتشفان لاحقاً أنهما نزلا إلى الميدان، ولكن بعد فوات الأوان، ومنذ زمن بعيد.