"عقلانية" حزب الله وارتباطها بعاشوراء
السلوك العقلاني يمكن التنبّؤ به، وهو ما يساعد الجهات المقابلة على وضع سياسات ملائمة للمواجهة، ومن هذا المنطلق، لا يعود سلوك حزب الله "أقلّ عقلانية"، بل نهجاً ينبغي دراسته وفهمه.
يُعَدّ مفهوم "العقلانية" في العلاقات الدولية من المفاهيم المركزيّة الموجودة في عدد من النظريات الرئيسة للعلاقات الدولية. فعلى سبيل المثال، فإن نظرية اللعبة (Game Theory) في العلاقات الدولية هي أسلوب لتحديد الاختيار العقلاني أو الاستراتيجيا المثلى في موقف تنافسي، بحيث يحاول كل فاعل تعظيم المكاسب أو تقليل الخسائر، الأمر الذي يتطلب من كل فاعل ترتيب أهدافه بحسب الأهمية، وتقدير خطواته، ومحاولة توقّع ما سيفعله الفاعل الآخر. فكلّما كانت الدول أكثر "عقلانية"، يصبح من الممكن التنبؤ بسلوكها بصورة متزايدة، وبالتالي تحديد السياسات الملائمة للتعاطي معها.
لا تحمل العقلانية أيّ دلالات على السلوك المعياري؛ أي أن التصرّف بعقلانية لا يعني بالضرورة أن يتصرّف المرء بصورة أخلاقية. مثلا، يجادل كثيرون في أن هتلر كان عقلانيّاً على الرغم من أن أفعاله كانت مستهجنة أخلاقياً. فالعقلانية تعني أن أفعال طرف ما تهدف إلى تحقيق أهدافه؛ أي أن السلوك العقلاني هو سلوك هادف، فيصبح طرف محدَّد عقلانياً إذا كانت قراراته وخياراته مصمَّمة من أجل تحقيق نتائج تتفق مع أهدافه، فيصبح الافتراض الواقعي للعقلانية هو أن تحدّد الأطراف أهدافها على نحو يتفق مع مصالحها الوطنية، وتقوم باعتماد الخيارات الأكثر احتمالاً لتحقيق هذه المصالح.
يأخذ صانع القرار "العقلاني" في الاعتبار أهداف السياسة الخارجية للدولة، ويحدّد أولوية أيّ منها، ثم تحدَّد وتحلَّل الخيارات المتعددة والمتاحة لتحقيق هذه الأهداف. وفي أثناء التحليل، تتم دراسة التكاليف والمكاسب المرتبطة بكل خيار، وتقدير النتائج المحتملة لاتخاذ خيارات معينة، ثم تصنَّف الخيارات من الأكثر تفضيلاً بناءً على هذا التحليل: في الأسفل الخيارات التي تكون مكلفة، ومن غير المرجَّح أن تنتج فوائد متعلّقة بالأهداف المهمة. وفي الأعلى الخيارات التي من المحتمل جداً أن تحقق الأهداف المطلوبة من دون تكلفة كبيرة، ثم يختار صانع القرار الخيار والسلوك الأمثلَين، واللذين يحتلان المرتبة الأعلى بين البدائل.
يقول أستاذ العلاقات الدولية، المُنتمي إلى المدرسة الواقعية، جون ميرشايمر، إن "الدول تفكّر، بطريقة استراتيجية، في كيفية الصمود في النظام الدولي. فالدول عقلانية بصورة فعّالة". فمن منظور الواقعية الجديدة، تتصرف الدول بطريقة عقلانية ومتمحورة حول الذات في بيئة تحدّدها الفوضى النظامية. وهدف الدولة الأساسي هو ضمان بقائها.
من هنا، يمكن فهم مطالبة الدول بعضها البعض، بصورة مستمرة، بالتحلّي بـ"العقلانية" في السياسة الخارجية. فكما قلنا سابقاً، فإن السلوك العقلاني، المبنيّ على زيادة المكاسب وتقليل الخسائر، هو سلوك يمكن التنبّؤ به، الأمر الذي يساعد مختلف الأطراف على وضع سياسات ملائمة لمواجهة سلوك الأطراف الأخرى.
حتى مفهوم الردع ونظريات "توازن القوّة" تعتمد، على نحو أساسي، على مفهوم "العقلانية". فالعقلانية تقتضي أن يرتدع طرف في حال كان الطرف الآخر يحافظ على توازن القوّة معه. ففي النهاية، فإن الأطراف "غير العقلانيين" لا يمكن ردعهم. ولعل هذا أكثر ما يزعج الاحتلال الإسرائيلي في صراعه مع لبنان. فكيف تستطيع حركة مقاومة أن تهدّد أحد أقوى جيوش المنطقة؟ وكيف تستطيع حركة مقاومة لا تمتلك ما تمتلكه "إسرائيل"، من مال ودعم وسلاح، أن تهدّد أي طامع بالموارد اللبنانية؟ فالموضوع لا يتعلّق بالقدرات فقط، بل يعود إلى الخلفيتين الدينية والثقافية، اللتين تساهمان في فهم عقلانية الحزب وسلوكه.
لذلك، أكد ماكس ويبر، أحد المنظّرين الغربيين، أن الأفعال البشرية يمكن أن تكون مدفوعة بالقيم، بحيث تتبع خياراتُ الأطراف المعتقداتِ أو الالتزامات التي غالأقل عقلانية، بل يعني ضرورة فهم مدرسة عاشوراء وما تمثّل من قيم أساسية من أجل فهم سلوك الحزب وأهدافهباً ما تكون متجذّرة في المفاهيم الأخلاقية أو الدينية أو الثقافية. ورأى ويبر أن هذا ليس أقل "عقلانية" من السلوك الذي يتبع نهجاً فعالاً لتعظيم المكاسب، أو تقليل الخسائر.
هذا ما يأخذنا إلى المدرسة التي يتّبعها حزب الله، أحد الأطراف الفاعلة في المنطقة اليوم. فكي نفهم أهداف الحزب وسلوكه، يجب أن نفهم عاشوراء، وما تمثّله من قيم. يقول الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، إنه "لا يمكن الفصل بين المقاومة الإسلامية وكربلاء وعاشوراء والإمام الحسين والسيدة زينب، عليهما السلام، ومن معهما في كربلاء. وعندما نتحدث عن المقاومة الإسلامية في لبنان، خلال 40 عاماً من عمل وجهاد وصبر وتضحيات وثبات وانتصارات وإنجازات، فإن كل ما عندنا هو من عاشوراء الإمام الحسين، عليه السلام".
من الطبيعي والمنطقي ألّا يفهم أبناء المعسكر الآخر هذا الكلام وترجمته العملانية. فالقِيَم السامية لعاشوراء، من تضحية وولاء ومواجهة الظلم وشهادة وغيرها، لا يمكن قياسها بالمقاييس المادية فقط. وهذا لا يجعلها أقل عقلانية، بل يعني ضرورة فهم مدرسة عاشوراء وما تمثّل من قيم أساسية من أجل فهم سلوك الحزب وأهدافه. وهنا، يجب تذكير "إسرائيل" بأن الذين يدافعون اليوم عن حقوق لبنان هم أبناء مدرسة المقاتلين الـ 72، الذين وقفوا في مقابل الآلاف حتى استُشهدوا يوم العاشر من محرّم عام 61 هـ. فقبل أن يفهم الجميع عقلانية مقاتلي كربلاء لن يستطيعوا فهم سلوك حزب الله اليوم.