بين سردية الهزيمة والنصر… كيف انتصرنا؟

في الداخل، سنجد أنفسنا أمام مواجهة جديدة مع الأصوات الانهزامية التي تروّج لنظريات الهزيمة والتراجع. لكنّ الواقع الميداني واضح: العدو نفسه يدرك أنه خرج من هذه الحرب محمّلاً بثمنٍ باهظ.

  • معيار النصر والهزيمة مرتبطاً بتحقيق الأهداف المرسومة مسبقاً من قِبل أطراف الصراع.
    معيار النصر والهزيمة مرتبطاً بتحقيق الأهداف المرسومة مسبقاً من قِبل أطراف الصراع.

في ميزان الحروب، لم يعد النصر يُحسب بما تخلّفه الحرب من دمار ماديّ أو أعداد الشهداء والجرحى، بل أصبح معيار النصر والهزيمة مرتبطاً بتحقيق الأهداف المرسومة مسبقاً من قِبل أطراف الصراع. ولعلّ الحرب التي شنّتها "إسرائيل" على لبنان منذ شهرين مثال حيّ على هذا المبدأ، حيث تصاعدت التساؤلات حول مدى قدرة “إسرائيل” على تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية.

الحرب، كما تراها الحسابات الاستراتيجية، ليست مجرّد معركة تخوضها جيوش، بل صراع إرادات وأهداف تسعى الأطراف المتنازعة لتحقيقها، سواء بإضعاف الخصم، تغيير المعادلات السياسية، أو فرض شروط جديدة على طاولة المفاوضات. ووفق هذا المنظور، تتكشّف العديد من التساؤلات: هل نجحت “إسرائيل” في تحييد تهديدات المقاومة؟ وهل حقّقت ما يبرّر الكلفة الباهظة التي دفعتها على المستويين العسكري والسياسي؟

على الأرض، تشير التقارير إلى أنّ قدرة المقاومة في لبنان على الحفاظ على بنيتها واستمرارية عملياتها العسكرية أثارت تحديات كبيرة أمام "الجيش" الإسرائيلي، الذي واجه مقاومة منظّمة قادرة على استخدام الأرض لصالحها، على الرغم من التفوّق التكنولوجي الإسرائيلي.

على المستوى الدولي، لم تفلح "إسرائيل" في كسب تأييد شعبي واسع لعملياتها، في ظلّ الانتقادات المتزايدة لاستخدامها المفرط للقوة، والإجرام بحقّ المدنيين.

بالتالي، إذا كانت معايير النصر تقاس بتحقيق الأهداف المعلنة للحرب، يبقى السؤال مطروحاً: هل استطاعت “إسرائيل” إعادة تشكيل ميزان الردع لصالحها؟ أم أنّ المأزق الذي دخلته قد يشكّل نصراً من نوع آخر لمقاومة ترفض الانكسار؟

بروباغندا النصر

عملت "إسرائيل"، بدعم من ماكينة إعلامية محلية ودولية، على تصوير وقف إطلاق النار كإنجاز حاسم. حاولت الإيحاء بأنها حقّقت أهدافها المعلنة، من إبعاد المقاومة عن حدودها الشمالية إلى استهداف قادة حزب الله، بمن فيهم الشهيد السيد حسن نصر الله. وخرج رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ليزفّ “نصراً” وهمياً أمام مستوطنيه، متحدّثاً عن إعادة حزب الله عشر سنوات إلى الوراء وعن قدرة "الجيش" الإسرائيلي على حماية أمن الشمال من أيّ تهديدات مستقبلاً وأنه سيضرب بقوة في حال تهديد أمن الكيان.

بينما كان نتنياهو يلقي كلمته، أطلقت المقاومة صواريخها على مستوطنة المطلة وقصفت تجمّعاً لجنود الاحتلال في كريات شمونة، في رسالة واضحة مفادها أنّ أمن مستوطني الشمال ما زال هشّاً، ولم تنجح “إسرائيل” في تحصينه. في حين أكد تقرير إعلامي أنّ “إسرائيل” بدأت تعرض مبالغ تصل إلى 35,000 دولار لكلّ عائلة مستوطن تقبل العودة إلى شمال فلسطين المحتلة، في دلالة على عدم استعادة “إسرائيل” الثقة بقدرتها على توفير الأمان لمستوطنيها. وهذا ما أكّده وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير حيث قال: "الاتفاق بين إسرائيل ولبنان لا يحقّق أهداف الحرب بإعادة سكان الشمال إلى بيوتهم بأمان".

في المشهد المقابل الذي تلى وقف إطلاق النار، عودة النازحين اللبنانيين إلى مناطقهم الجنوبية والبقاع والضاحية، في مشهد مشابه لما حدث في آب/أغسطس 2006.

بالإضافة إلى ذلك، وبعد وقت قليل من استهداف المطلّة وكريات شمونة، استهدفت المقاومة "تل أبيب" بصليات صاروخية، لتؤكّد أنّ معادلات الردع ما زالت قائمة حتى بعد الإعلان عن الموافقة على وقف إطلاق النار، بيروت تقابلها "تل أبيب".

الأهم أنّ المقاومة لم تكتفِ بالصمود، بل أجبرت الاحتلال على التراجع عن هدفه الأساسي بإقامة “حزام أمني” بعمق 10 كيلومترات في جنوب لبنان. هذا الإنجاز جاء نتيجة الخسائر الكبيرة التي تكبّدتها القوات الإسرائيلية، خاصة على يد المقاتلين الذين صمدوا في القرى الأمامية رغم سياسة الأرض المحروقة التي اعتمدها العدو.

إذاً المقاومة أجبرت العدو على التنازل عن:

- تفكيك ترسانتها وإنهاء قدراتها.

- تدمير قوّتها الصاروخيّة.

- تراجعها إلى شمال الليطاني.

- إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي اللبنانية.

- المراقبة العسكرية الأميركية - الألمانية وتعديل مهام اليونيفيل.

- عودة سكان المستعمرات الشمالية بالقوة.

- إعادة الأمن إلى المدن والمستعمرات.

- حرية التحرّك والمراقبة والتدخّل.

على الرغم من الضربات القاسية التي تعرّضت لها المقاومة في لبنان، والتي كانت كفيلة بإسقاط جيوش ودول بأكملها، استطاعت المقاومة أن تصمد وتعيد رسم المعادلات على الأرض. لقد أثبتت للعالم أنّ من يحمل حقّ الدفاع عن أرضه عصيٌّ على الانكسار أو الاستسلام.

ومع ذلك، وبروح من الموضوعية، لا يمكن تجاهل أنّ خطوة التراجع عن دعم جبهة غزة تُعدّ تغييراً في شروط المقاومة لوقف الحرب. لكنّ الحرب بطبيعتها سجال، وما تعرّضت له المقاومة من ضربات قاسية يجعل من الطبيعي أن تتراجع خطوة تكتيكية، استعداداً للعودة بمواجهة أشدّ قوّة وفعّالية. لا شكّ أنّ هذا التنظيم سيستثمر الوقت المتاح قبل الجولة المقبلة لترميم قدراته وتعزيز مكامن قوته.

في الداخل، سنجد أنفسنا أمام مواجهة جديدة مع الأصوات الانهزامية التي تروّج لنظريات الهزيمة والتراجع. لكنّ الواقع الميداني واضح: العدو نفسه يدرك أنه خرج من هذه الحرب محمّلاً بثمنٍ باهظ، مادي ومعنوي، من دون أن يحقّق أيّ إنجاز حقيقيّ سوى الدمار والقتل.