"صوت الذين لا صوت لهم": رحل لكنه باقٍ
خسرنا قامةً من قامات عالمنا العربي، وعموداً من أعمدة الفكر والأدب والإعلام، في زمن قلّ فيه حَمَلة "القلم"، وحل الحبر الإلكتروني محل القلم، الذي أراده الراحل حراً وشريفاً، مغمَّساً بدماء الطهر والشهادة.
"عندما وضعت يدي على رأسي ورأيت الدماء، أحسست بأنّي عملاق، ما إلي حدود"، هكذا أجاب الراحل الكبير، الأستاذ طلال سلمان، عندما سُئل في احدى المقابلات عن عملية اغتياله بعد أن أُصيب بطلق ناري أمام منزله في منطقة الحمرا في بيروت، في 14 تموز/يوليو 1984. يومَها أُصيب هو ومرافقاه، فؤاد اللبان والزميل حسن علوش. في تلك الليلة، سمعنا صوت إطلاق النار، وقيل لنا إنّ "الأستاذ" أصيب، وهو في حاجة إلى دم في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، فهرع مَن في الجريدة إلى باب المستشفى للتبرع بالدماء.
عملاق من عمالقة الصحافة اللبنانية والعربية. هذا الإنسان الآتي من بلدة شمسطار في البقاع، ويحمل صلابتها: صلابةَ المقاومة والعنفوان والبساطة في آن واحد، جبل دماءه بحبر قضايا المقاومة العربية والقضية الفلسطينية الأم، فكان خير معبّر عن هذه القضايا من خلال كتاباته في افتتاحيته "على الطريق"، ومن خلال كبار الصحافيين والكتاب العرب، الذين كان لهم شرف الانتماء إلى هذا الصرح الإعلامي الكبير، صحيفة "السفير"، التي تُعَدّ إحدى "الجامعات الإعلامية" العربية، والتي خرّجت كبار أساتذة الفكر والإعلام والصحافة في العالم العربي.
"الذي علّم بالقلم"، هذه الآية الشريفة من القرآن الكريم، كان يضعها على صدر مكتبه في الطابق السادس من مبنى الجريدة، والتي تحمل المعاني السامية والشريفة للقلم المناضل والمقاوم، والتي كانت تُعَدّ بوصلة طلال سلمان العروبية والإسلامية والناصرية والمقاومة بجدارة لكل قضايا الظلم في العالم.
الصحيفة، التي كانت ترافق ربطة الخبز عند الصباح، أسسها الأستاذ طلال سلمان في عام 1974 وأقفلها في نهاية عام 2016، وكانت إعلاناً لوفاة الصحيفة الورقية بعد أن ضاقت سبل الدعم المادي أمامه وأمام كتّابها وإدارييها، ومنهم الأستاذ ياسر نعمة (أذكر جملة قالها لي الأستاذ ياسر نعمة، المدير العام والإداري للصحيفة: "ما في حدا اشتغل في السفير إلا ما الله وفّقه"). يومها فقد القرّاء خبز الكتابة الصحافية، إلا ما بقي منها وندر. وعدّ سلمان يومها، في رسالة إلى زملائه في الصحيفة وقرائها، "أنّ هذه الأزمة الخطرة تهدّد الصحافة في العالم أجمع، وفي الوطن العربي عموماً، وهي أزمة تمتد من أرقام التوزيع، إلى الدخل الإعلاني (وهو الأساس)، إلى إقفال الأسواق العربية عموماً في وجه الصحافة اللبنانية".
من تشي غيفارا، إلى فيدل كاسترو، إلى جمال عبد الناصر، إلى أحمد بن بلة، إلى ثوار فلسطين، غسان كنفاني وناجي العلي ومحسن إبراهيم وحسين مروة والسيد موسى الصدر والعلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله والسيد عباس الموسوي، وإلى السيد حسن نصر الله، وغيرهم الكثير الكثير ممن حملوا شعلة الثورة والمقاومة في عالمنا المعاصر، على اختلاف مشاربهم ومعتقداتهم، والتي كانت تختزنها شخصية الراحل طلال سلمان، ويعبّر عنها بقلمه وعناوينه و"مانشيتاته" في زاويته، التي أصبحت مرجعاً صحافياً، "على الطريق". ومنها تعرّفنا إليهم وإلى أفكارهم ومعتقداتهم، وما حملوه من ثقافة وثورة أنارت لنا دروب الحياة الصعبة والشاقة في هذا الزمن.
قلة من زعماء العالم العربي والإقليمي، الذين لم يقابلهم طلال سلمان، لكنه حظي بالأهم منهم، وخصوصاً ثوار الثورة الجزائرية، والزعيم جمال عبد الناصر، والرئيس حافظ الأسد والإمام الخميني، وغيرهم من ملوك الخليج وأمرائه ورؤساء عالمنا المعاصر.
محمد حسنين هيكل، جوزيف سماحة ومصطفى الحسيني وبلال الحسن والصافي السعيد والطاهر بن جلون ومحمود درويش وناجي العلي وجهاد الزين وسعد محيو ونجاح واكيم ومهدي عامل (الدكتور حسن عبد الله حمدان) وجورج حاوي وحازم صاغية وإبراهيم الأمين وحسين أيوب وبيار أبي صعب وإسكندر حبش وأحمد صفاوي وكمال صفاوي ويوسف برجاوي ومحمود برجاوي ومحمد مشموشي وسامي كليب وحلمي التوني (مصمم شعار "السفير" ومخرجها الأول)، ومارسيل خليفة وخالد الهبر وزياد الرحباني وفرج فوده وأحمد فؤاد نجم و"عدوية" و"بهية" و"غيفارا مات"، والكثير الكثير من كتاب العالم العربي ومفكريه وشعرائه وفنانيه، الذين وقعوا أسماؤهم، وكانت لهم شرف "إخراج" أسمائهم وكتاباتهم ورسومهم على صفحات "السفير" وحبرها المغمس بدماء القضايا العربية وخبزها، والآلاف المؤلفة من أعمدتها الشاهقة.
كان لي شرف العمل في صحيفة السفير "منضداً" مدة تسعة أو عشرة أعوام، من عام 1979 لغاية عام 1988 (الفترة الذهبية للصحيفة). كنت آنذاك أدرس في جامعتين في آن معاً. الجامعة الأولى كانت صحيفة "السفير" وأساتذتها. والجامعة الثانية كانت كلية العلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية ـ كلية الحقوق (الصنائع القريبة من مبنى الجريدة). ومن "السفير" اكتسبت ثقافتي وخبرتي وقراءاتي المتعددة، والتي كانت تتجاوز ثماني ساعات يومياً طوال عشرة أعوام، بحكم عملي فيها. وفي تلك الفترة تعرضت "السفير" للتفجير والاضطهاد ومحاولات القتل، جسدياً ومعنوياً، من جانب أجهزة الاستخبارات المحلية والخارجية على السواء. كان ممنوعاً على كتّاب الصحيفة إخراج الصفحات، حتى لو كانت أعمدة بيضاء، وكان يحرص الأستاذ طلال سلمان على أن يكتب الافتتاحية ويضعها في الدُّرج وينشر الصفحات "بيضاء"، ليقول هنا كانت الافتتاحية، لكنها مُنعت من جانب أجهزة الرقابة في زمن الرئيس الأسبق أمين الجميل وأجهزته الأمنية والاستخبارية.
وداعاً أبا أحمد. خسرنا قامة من قامات عالمنا العربي، وعموداً من أعمدة الفكر والثقافة والأدب والإعلام والشعر، في زمن قلّ فيه حَمَلة "القلم"، وحل الحبر الإلكتروني محل القلم، الذي أردت أن يبقى حراً وشريفاً وحقيقياً، مغمَّساً بدماء الطهر والشهادة.
عزاؤنا لكل المحبين لصحيفة "السفير" والزملاء الأعزاء، الذين عملوا فيها ولعائلته، أم أحمد وهنادي وأحمد وربيعة وعلي، ولأحفاده وللعزيز خليل حرب، ولشعارها الجميل "حمامة السفير"، التي طوت أجنحتها، لكنها ستبقى خالدة ترفرف في قلوب المحبين.