"سيف القدس 2" لم تنطلق.. الإحجام لأجل الأحجام حقيقة أم وهم؟
في حقيقة الأمر، لم تكن إعادة مسار تلك المسيرة إلى ما كانت عليه قبل العام الماضي سوى هدف يسجله بينيت في مرمى نتنياهو فقط.
كثيرة هي العنتريات والرهانات والتعليقات التي عصفت بفضاء الإعلام بين الأمس واليوم في كلِّ ما بات يُعرف بـ"الرد المقاوم المحسوم" على مسيرة الأعلام الصهيونية في القدس المحتلة، من مراهن على أن "سيف القدس 2" آتية لا محالة، وستأتي خلفها معركة محور القدس الأولى، إلى متريثٍ فضّل التمسك بمقولة الزمان والمكان المناسبين، منطلقاً من أن أهل مكة أدرى بشعابها، ومتمسكاً بتقدير الموقف لدى المقاومة ومحورها، إلى آخر يعلّق الآمال تارة، ويمنّ النفس تارة أخرى بعنتريات لا تحسب حساباً للسياسة أو الإستراتيجيا أو التكتيك، وصولاً إلى من يتربص بالمقاومة ومحورها على قارعة الطريق، ويقدم نفسه شريكاً مضارباً للكيان الصهيوني، ومعه أميركا، في معركتهما "كي الوعي" و"التعرية"، واللتين يخوضانهما من أرض فلسطين، إلى لبنان، فسوريا، فالعراق، وصولاً إلى إيران .
ولكن، وبالعودة إلى رشد التحليل السياسي -وبعيداً عن إحياء الآمال أو خيبتها- يتوجب على من يريد سبر أغوار المقاومة ومحورها في كيفية تعاملها مع مسيرة الأعلام الصهيونية لهذا العام، أن يُقارب ذلك من زاوية الإحجام الذي أضحى واقعاً، ومدى ارتباطه بزاوية الأحجام، وعلى 3 صعد:
حجم التهديد وإحجام الوعيد
على هذا الصعيد تحديداً، لم يقترب الكيان الصهيوني في حجم تهديده، المتمثل بزيادة أعداد مستوطنيه، والذي لامس حدود 100 ألف مستوطن، من حجم تهديد مرور المسيرة بالمسجد الأقصى أو من حجم تهديد تخريب ممتلكات المقدسيين بشكل فاضح، ولم يقترب حجم التهديد هذا أيضاً من مرحلة إطلاق الإصبع بأريحية على زناد بندقية جنوده. على العكس من ذلك تماماً، وبناءً عليه، إنَّ حجم التهديد كان مضبوطاً -إن صحَّ التعبير- وإلى حدود الحرص القسري.
أما في المقلب الآخر، فقد رأينا إحجاماً يزيّنه أصحابه بميزان الذهب طيلة ساعات عشر من عمر تلك المسيرة، ظل مرتكزاً على وعيدٍ سبقها، أرخى بسعته وثقله على حجم التهديد الصهيوني، ومُقزِّماً إياه إلى حدوده الدنيا.
حجم "الربح" وإحجام "الخسارة"
كثر من المراهنين يبالغون إلى حد الشطط والإفراط، ومن دون أية قراءات سياسية موضوعية أو حتى حسابات استراتيجية تُذكر، ولكن، وبعيداً عن هؤلاء، وإذا ما عدنا إلى معركة الأحجام والإحجام، ومن ميزان الربح والخسارة، لا بد من التوقف عند ما يلي:
1 - إحجام صهيوني عن التوغل في الخطوط الحمر لدى المقاومة ومحورها على حد سواء، رافقه ربح لنفتالي بينيت على صعيد إطلاقه بروباغندا إعلامية وشعبية صهيونية، في إعادته مسيرة الأعلام إلى مسارها التاريخي، وذلك على حساب سلفه نتنياهو، الذي كان بالأمس متباكياً أمام ما يسمى "حائط المبكى" على ما أقدم عليه من "خطيئة" اقترفها في العام الماضي، بتحويله مسار المسيرة، والذي كلّفه الكثير في السياسة في حينه. أما اليوم، فقد سجّل بينيت هدفاً في مرماه يبعده عن مقاعد الاحتياط.
هذا الربح الوفير لبينيت لحساب صورته، وعلى حساب خصمه اللدود نتنياهو، هل كان له ثقلٌ في ميزان إحجام المقاومة ومحورها عن الرد؟
إنَّ "الخسارة" التي يتخيلها البعض حول إحجام المقاومة -وبسذاجة السياسة المطلقة لديهم- ما هي في الحقيقة إلا ربح صافٍ لها، ودليلنا على ما نذهب إليه، يظهر في طرح مجموعة تساؤلات وأجوبة عليها، والتي لا بد من إعمال العقل الاستراتيجي في مضامينها:
2- لو انطلقت "سيف القدس 2" فعلاً، ألن يُعَوِّمَ ذلك بينيت ونتنياهو على حد سواء لدى المعسكر الصهيوني؟ ألن يصبح مسار مسيرة الأعلام، وأينما كان، فاقداً للأثر والتأثير معاً؟ والسؤال الأهم: ألم تُسقط المقاومة حينها خطها الأحمر بيدها؟ ألا تقتضي الحكمة التمسك به، وألا تحرقه بأيديها، بفعل حماسة من هنا أو من هناك؟
إن المنطق السياسي والعقلانية في مقاربة هذه التساؤلات لن يدع مجالاً للشك في أنّ "الخسارة" المدّعاة، والتي يروج لها البعض، ما هي سوى ربح صافٍ، يفوق بثقله بأضعاف وأضعاف ربح بينيت الذي أشرنا إليه.
حجم التكتيك وإحجام الإستراتيجيا: معادلات نمت في ظلال معادلة "سيف القدس"
لقد قارب نفتالي بينيت "تفاخره" المدّعى، وذلك من خلال إصراره على إقامة مسيرة الأعلام ضمن ما يسمى "مسارها التقليدي"، وبتكتيك توهّم للحظة معه بأنه عميق في الإستراتيجيا، معتقداً لوهلةٍ بأن حجره سيصيب عصافير مجتمعة، سواء في سقوط معادلة "سيف القدس" وربط الساحات ببعضها البعض، أو إدخال المقاومة ومحورها في أتون التعرية وإظهار ضعفهم أمام شعوبهم، أو لأجل حسابات داخلية تتعلق بشخصه وبحزبه على حد سواء، وموقعهما في الحلبة السياسية لنادي متطرفي الكيان الصهيوني.
هل كان ذلك فعلاً ربحاً إستراتيجياً أو ربحاً تكتيكياً محدوداً؟ وهل إحجام المقاومة عن الرد كان فعلاً سقوطاً استراتيجياً مدوياً كما يدعي بينيت؟
في حقيقة الأمر، لم تكن إعادة مسار تلك المسيرة إلى ما كانت عليه قبل العام الماضي سوى هدف يسجله بينيت في مرمى نتنياهو فقط، وذلك مرده إلى أن تدنيس البلدة القديمة، سواء أكان بالمئات أم بالآلاف أو عشرات الآلاف، لا يوجد فرق بينها، لكونه حاصلاً حاصلاً، وبشكل يومي، ما دام الاحتلال موجوداً، مع مفارقة مستجدة بأن أصابع جنود الاحتلال لم تكن مبسوطة على زناد بنادقهم، إنما كانت مغلولة إلى عنقها، لأن المقاومة فرضت على جنود الاحتلال في قلب القدس معادلة الحسابات الدقيقة والمحسوبة بدقة، والتي نمت وترعرعت في كنف معادلة معركة "سيف القدس" من العام الماضي.
أما من ناحية المقاومة، فكان إحجامها عن الرد يمثل ربحاً استراتيجياً، ظاهره خسارة تكتيكية، والسبب في ذلك متمثل بأن معادلة "سيف القدس" فرّخت معادلات تحت جناحها؛ أولها معادلة الحسابات لدى الكيان الإسرائيلي، وثانيها معادلة تثبيت الخطوط الحمر في المسجد الأقصى وإلزامه بعدم تجاوزها فيه، وثالثها، وهي المعادلة الأهم، تتمثل بابتكار وتطوير أساليب جديدة من المقاومة المسلحة على امتداد فلسطين التاريخية، وتضييق الخيارات أمام الاحتلال في كيفية مواجهتها، والتي لم تكن بحاجة إلى "سيف القدس 2" كي يجري تكريسها مجدداً، فهي أضحت واقعاً على الأرض.
بكلمات معدودة، أثبتت معركة "سيف القدس" الأولى، ومن دون الاضطرار إلى خوض نسختها الثانية، في ظل ما تلاها من معادلات نمت على ضفافها، وعلى امتداد عام مضى، أن المفاعيل الحقيقية لتلك المعركة لا بد لها من أن تُقاس بميزان الإستراتيجيا، لا بميزان التكتيك مطلقاً، والعبرة بالخواتيم دائماً.