تنحاز لـ "إسرائيل" في غزة، وتصدر مذكرة بحق الرئيس الأسد، ماذا تريد فرنسا من لبنان؟
لقد تحوّل الدور الفرنسي في المنطقة إلى دعائيٍ من أجل إثبات الحضور فيها، لا أكثر من ذلك، أو "استطلاعي" بتكليفٍ من واشنطن بأحسن الأحوال.
عملياً، إن الدور المجدي والأخير الذي أدته فرنسا في المنطقة، كان دخولها على خط "تفاهم نيسان 1996"، بل كان في الواقع آخر الأدوار الأوروبية فيها. وأفضى هذا التفاهم، الذي تم التوافق عليه في شكلٍ غير مباشرٍ بين المقاومة في لبنان، والكيان الصهيوني، بجهودٍ أميركيةٍ، إثر ما يعرف بـ "عناقيد الغضب"، إلى "إنهاء الهجمات عبر الحدود على أهدافٍ مدنيةٍ، كذلك الامتناع عن استخدام القرى المدنية لشن هجماتٍ". وتم في حينه تعيين "لجنة الرصد" لتنفيذ التفاهم المذكور، مؤلفة من ممثلين عن: الولايات المتحدة وفرنسا وسوريا ولبنان والكيان الصهيوني.
يذكر أن الاعتداء الصهيوني على لبنان في ربيع 1996، الذي يعرف بـ "عناقيد الغضب"، جاء مباشرةً إثر انتهاء زيارةٍ قام بها الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك إلى "بلد الأرز" في حينه.
بعدها، انكفأ الدور الأوروبي عموماً، والفرنسي خصوصاً، ليس على صعيد المنطقة فحسب، بل على صعيد العالم بأسره، إثر التحوّل الذي شهده النظام العالمي في أواخر القرن الفائت، بعدما هيمنت الولايات المتحدة منفردةً على العالم، وفرضت إرادتها في شكلٍ أحاديٍ في المحافل الدولية، عقب انتهاء الدور الأوروبي. ومن ذلك الوقت، لم يعد هناك أي دورٍ للدول الأوروبية على صعيد العالم، إلا تحت "المظلة الأميركية"، وبهامشٍ ضيقٍ ومحدودٍ، ليس إلا.
ومع مضي الوقت، يتراجع دور أوروبا في السياسة الدولية، ويتآكل نفوذها في العالم، والدليل إلى ذلك الانقلابات العسكرية في القارة الأفريقية، حيث شارف الدور الأوروبي نهايته تقريباً. وسبق ذلك، سحب ورقة "المعارضة السورية" من يد الإدارة الفرنسية، التي احتضنت بعض "المعارضين السوريين" على أراضيها في الأشهر الستة الأولى من الأزمة السورية في العام 2011، قبل أن تنتزع قطر هذه الورقة من الفرنسيين.
إذاً، لقد تحوّل الدور الفرنسي في المنطقة إلى دعائيٍ من أجل إثبات الحضور فيها، لا أكثر من ذلك، أو "استطلاعي" بتكليفٍ من واشنطن بأحسن الأحوال. في ضوء هذه الظروف، يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يعرض نفسه كلاعبٍ في المنطقة، تحديداً في لبنان الذي تربطه علاقة تاريخية مع فرنسا، في ضوء تراجع دور باريس في المنطقة والعالم ككل.
ورغم تأييده الكبير للكيان الصهيوني في حرب الإبادة والدمار الشامل التي يشنها على غزة والغزيين، يوفد ماكرون مبعوثه الخاص إلى لبنان جان إيف لودريان للبحث مع المعنيين في بيروت في الوضع الملتهب في الجنوب، على الحدود اللبنانية-الفلسطينية، بالإضافة إلى محاولة تفعيل المبادرة الفرنسية الرامية إلى إنهاء الشغور الرئاسي في وطن الأرز.
وكأن شيئاً لم يكن، وكأن ماكرون لم يزر الكيان الغاصب لشد أزره في حرب الإبادة على الغزيين، من دون أن يأخذ في الحسبان أن هذا الانحياز للصهاينة قد يفقد فرنسا دور الوسيط في لبنان، ولدى أفرقاء محور المقاومة بجميع مكوناته. ناهيك باستصدار القضاء الفرنسي "مذكرة توقيفٍ دوليةٍ" في حق الرئيس السوري بشار الأسد، لما له من رمزيةٍ لدى المحور، على اعتبار أن سوريا تشكل العمود الفقري لمحور المقاومة.
وهذا الإجراء الفرنسي يقفل الطريق أمام أي حلٍ لإعادة تفعيل العلاقات الثنائية بين دمشق وباريس ليس إلا. وليس لهذه "المذكرة" أي قيمة أو مفاعيل قانونية، فمن البديهي أن هذه العلاقات لن تعود إلى طبيعتها، ما دامت الاصطفافات الدولية على حالها، وقبل تبلور نتائج الحرب الروسية-الأطلسية في أوكرانيا، وانعكاسها على السياسات الدولية.
ومعلوم أن الأسد ليس في صدد زيارة فرنسا في المدى المنظور. ورغم هذا العداء الذي تظهره باريس لمحور المقاومة، لا تزال تحاول أن تؤدي دور الوسيط في لبنان، إحدى أبرز دول المواجهة مع العدو الصهيوني الذي تنحاز إليه الإدارة الفرنسية في عدوانه على جنوب لبنان وفلسطين. وهذا الموقف الفرنسي ينسحب على مواقف كل الدول الأوروبية التي بالغت بانحيازها للعدو الإسرائيلي أيضاً. غير أن الدور الفرنسي لن يقدم ولن يؤخر، فالكلمة الفصل في المحور الغربي للولايات المتحدة فقط، وهي من تقود أي تحركٍ سياسي جديٍ في لبنان والمنطقة... ولا معنى للتحرك الفرنسي وزيارة لودريان للبنان.