تصورات أميركية إسرائيلية لما بعد الحرب على غزة: الاستثمار في هزيمة "إسرائيل"
عملت واشنطن على دمج الحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة ضمن رؤيتها الاستراتيجية الأوسع ومصالحها في المنطقة، وخصوصاً أنها تشاهد "إسرائيل" تائهة في متاهة أهدافها العسكرية.
أحدثت عملية طوفان الأقصى طوفاناً استراتيجياً مهولاً وغير مسبوق في الصراع العربي الإسرائيلي، أرّخت مرحلتين فاصلتين في منطقة الشرق الأوسط: مرحلة ما قبل العملية، ومرحلة ما بعد العملية.
وفتحت الآفاق في المنطقة عموماً، وفي فلسطين خصوصاً، على معادلات متباينة عما سبق، سيكون لها تأثيرات كبرى في مسارات الصدام والصراع ذي الصلة، وفي المواجهة الدائرة بين القوى الإقليمية وامتداداتها الدولية، فضلاً عن تداعيات عملية طوفان الأقصى على النظام الإقليمي وتوازن القوى فيه.
بالتوازي مع المجريات والوقائع للحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة، ثمة نقاش يدور في عدد من مراكز الدراسات الإسرائيلية والأميركية (مركز بيغن ـــ السادات للدراسات الاستراتيجية، معهد شالوم هارتمان، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، معهد أبحاث السياسة الخارجية، مجموعة جي ستريت، كونها واحدة من كبريات مجموعات الضغط اليهودية في الولايات المتحدة، منتدى السياسة الإسرائيلية، المعهد اليهودي للأمن القومي الأميركي)، يركز على ما هي أفضل السبل والمشاريع والحلول التي توفّر لـ"إسرائيل" خريطة طريق لما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، أو مخارج لأزمتها الوجودية، ويمكن تلمُّس معالمها، وهي:
أولاً ـــ إخراج حركة حماس من المشهد الفلسطيني، وإن استحال ذلك فإضعافها إلى درجة لا تتمكن معها من تهديد الأمن الإسرائيلي في المرحلة المقبلة. وعليه، يستلزم الأمر إعادة صياغة الخطاب تجاه حركة حماس كونها كـ"داعش تنظيم متعطش إلى الدماء"، ولا مكان لها، فهجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر يماثل هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، والتي حدثت في الولايات المتحدة، وتسويق أن الهولوكوست ليست حدثاً عابراً في تاريخ اليهود، وإنما عملية وحالة مستمرتان، والتركيز بصورة مكثفة على تعميم مفاده أن العالم اليوم منقسم إلى قسمين: أولئك الذين يدينون هذا العمل "البربري والشرير"، والذي يُعَدّ أسوأ هجوم ضد اليهود منذ المحرقة، وأولئك الذين يؤيدونه، وهم زمرة من الظلاميين الذين ينشدون نشر التطرف والإرهاب.
إن إضعاف حركة حماس وإسقاطها لا يكمنان فقط في محاربتها في الداخل، بل عبر ملاحقتها في الخارج ومحاصرتها أينما كان. لذا، يتوجب على الولايات المتحدة الضغط على حلفائها في المنطقة، والذين لديهم علاقات جيدة بحركة حماس، من أجل إجبارهم على طرد كل من له علاقة بها. وكل ذلك يستوجب ألا يمر أي أمر في المنطقة إلا من خلال واشنطن.
ثانياً ـــ ترتيب شؤون قطاع غزة تمهيداً لمرحلة سياسية جديدة على شاكلة مسار أوسلو. وتبرز، في هذا السياق، رؤية توني بلير، رئيس الرباعية الدولية، وأحد أبرز اللاعبين السياسيين في ملف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في الفترة التي تلت أوسلو، والتي تقوم على ضرورة إعادة التفكير في كل الدبلوماسية الغربية التقليدية بشأن مسار التسوية، وأن هزيمة حركة حماس تستوجب ضخ دماء جديدة، كما حدث في اتفاق أوسلو عام 1993، لكن ذلك لا يعني حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية، أو مسار جدياً يُفضي فعلياً إلى "حل الدولتين"، وإنما طي المرحلة السابقة على ألا تكون حماس جزءاً من المشهد المستقبلي.
هذه الخريطة أعلاه، في حال تحققها، ستؤمّن لـ"إسرائيل" ثلاثة أهداف، هي:
1 ـــ استعادة إيمان اليهود بأن "إسرائيل" كانت وما زالت وجهة الاستقطاب لهم، بعد أن تحولت إلى "الدولة" الأكثر خطراً في العالم بالنسبة إليهم. ومن دون تحقيق هذا الهدف سنكون أمام زعزعة وخلخلة للفكرة الجوهرية التي قامت عليها "إسرائيل"، كما الحاجة إلى استعادة ثقة الإسرائيليين بأن كيانهم هو الكيان الأكثر أماناً واستقراراً في العالم.
2 ـــ خارجياً، استعادة الردع والقوة العسكرية والاستخبارية، وفرضها بصورة واضحة كون ذلك الأمر أحد أهم أسس كيان الاحتلال على امتداد المنطقة.
3 ـــ التركيز على إضعاف حركة حماس إلى درجة إسقاطها كلاعب رئيسي في الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية.
هذه الأهداف الثلاثة هي ضرورة ملحّة لـ"إسرائيل"، التي يظهر أنها لا تمتلك تصوراً أو استراتيجية متكاملة لتحقيقها. فحماس لها حاضنة جماهيرية كبيرة وواسعة في غزة والضفة والأراضي المحتلة عام 48 ودول المنطقة والعالم.
وعليه، عمدت "إسرائيل" وما زالت إلى إحداث أكبر قدر من الدمار في البنية التحتية والوحدات السكنية، وتدمير حياة سكان غزة، وإدخالها أزمةً إنسانية قاسية تضعها على حافة الانهيار من أجل تأليب أهلها على حركة حماس، أو دفعهم في اتجاه الهجرة الطوعية التي يعمل عليها بصورة حثيثة، بمباركة غربية. وكِلا الأمرين لن يحدث بالنسبة إلى أهل غزة، بحيث أثبتت التجارب السابقة تمسكهم بحركة حماس وإصرارهم على أن سيناريو عام 1948 لن يتكرر، ولو استوجب ذلك الإقامة على ركام بيوتهم المدمرة.
إدراك الإدارة الأميركية عدم القدرة الإسرائيلية على تحقيق الأهداف المرجوة، دفعها إلى الانتقال من الدعم إلى المشاركة الفعلية، بفعل اقتناعها بأن حليفتها لم تعد تستطيع أن تتدبر أمورها وحدها. وعند اجترار التاريخ، يتبيّن أنه عقب كل هزيمة لـ"إسرائيل" يجب أن تترافق مع "نصر" في السياسة، كما حدث عام 1978 حين وقعت "إسرائيل" اتفاقية سلام مع مصر، التي خرجت عملياً من الصراع، كما الإنهاك الذي ضرب "إسرائيل" في إبان الانتفاضة الأولى، الأمر الذي استوجب السعي لنصر سياسي تمثَّل باتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، التي تخلّت عن الكفاح المسلح، وطاردت مريديه، وعدّتهم خارجين على الشرعية التي تمثلها السلطة الفلسطينية في رام الله.
في الحالة الراهنة، التي أرست معالمها عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر، يتوجب إعادة تظهير الواقع الفلسطيني الإسرائيلي بصورة تحقق انتصاراً استراتيجياً لـ"إسرائيل"، على الرغم من هزيمتها التي بدأت تلوح في الأفق.
فبحسب ديفيد إغناتيوس، الكاتب المعروف في "واشنطن بوست"، فإن السعودية يمكنها أن تؤدي دور العراب في تشكيل المشهد المستقبلي للواقع الفلسطيني الإسرائيلي، لأن الرياض ترى، والكلام لإغناتيوس، أن رؤيتها المسماة 2030 تستوجب بيئة حاضنة لما يسمى السلام، وتطبيعاً مع "إسرائيل"، ونبذ العنف.
وعليه، تركز الرؤية الأميركية على أن التطبيع بين الرياض و"تل أبيب" يجب أن يكون في رأس أجندة أعمالها في المنطقة، لأنها إن تحققت ستكون بمثابة "القبر" الذي ستوضع فيه "جثة" محور المقاومة، بحسب الرؤية الأميركية.
تدرك واشنطن عمق محنتها في المنطقة بفعل زعزعة هيبة "إسرائيل" المكشوفة استراتيجياً، والتي تحولت إلى عبء يستوجب الدفاع عنه بصورة مباشرة، كما هو قائم اليوم في البحر الأحمر وبحر العرب ومضيق باب المندب، وهذا يعني عودة الولايات المتحدة إلى الانخراط بصورة قوية في المنطقة، ولاسيما بعد انهيار الردع الإسرائيلي، الذي عملت واشنطن على بناء تحالفات إقليمية استناداً إليه، بحيث بدا للدول التي تدور في الفلك الأميركي في المنطقة أن "إسرائيل" لا تُغْني عن الولايات المتحدة الأميركية كونها تحتاج إلى من يحميها.
لذا، عملت واشنطن على دمج الحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة ضمن رؤيتها الاستراتيجية الأوسع ومصالحها في المنطقة، وخصوصاً أنها تشاهد "إسرائيل" تائهة في متاهة أهدافها العسكرية، لأنها تدرك صعوبة تحقيقها.