تركيا ما بين الصيغ البديلة واستحالة حصولها على العضوية الكاملة للاتحاد الأوروبي
ماذا يعني انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وماذا سيضيف إليها، ويفسّر في الوقت ذاته إصرارها على طرق الأبواب الأوروبية..؟
لا تزال تركيا تطرق أبواب الاتحاد الأوروبي من دون كلل أو ملل، بشكلٍ يعيد لفت الانتباه أمام كل محاولة، حول أهمية ذلك بالنسبة لتركيا، وتعنّت الاتحاد الأوروبي أو إصراره على تطبيق "قوانينه" وشروطه لقبول انضمامها، أو لتجميد وقوفها على عتبات الاتحاد، والصيغ البديلة المبتكرة، وابتداع المراحل التي تسبق الانضمام، وسط اعتقاد الكثيرين باستحالة قبول انضمامها بشكلٍ قاطع، على الرغم من كونها مرشّحة للانضمام منذ 24 عاماً، لكن المحاولات والجولات التركية تفشل دائماً أمام صلابة جدران "انتهاكات حقوق الإنسان"، و"احترام حقوق الإنسان" و"احترام سيادة القانون...".
ومع ذلك، دعا الرئيس التركي في حزيران/يونيو الماضي، إلى استئناف محادثات انضمام أنقرة للاتحاد الأوروبي، وسط تأكيده أن الحصول على العضوية الكاملة "سيبقى هدفاً استراتيجياً رئيسياً لتركيا"، ولم يفوّت فرصة توظيف ورقة السويد لفتح كل الملفات العالقة مع الغرب، وربط واشترط في تموز/يوليو الماضي، بين استئناف مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي مقابل موافقته على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي.
كذلك أعلن مؤخراً، وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في مؤتمرٍ صحافي مشترك مع المفوّض المجري أوليفر فارهيلي في مطلع أيلول/سبتمبر، عن استئناف المحادثات بشأن تحديث الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي بهدف ضمان وصول البضائع بين تركيا والاتحاد "من دون عوائق"، وطالب بروكسل بعدم وضع عراقيل "سياسية" في مفاوضات الانضمام، و"التصرّف بشجاعة"، فيما تحدّث المفوض عن استمرار توقّف مفاوضات الانضمام، وأن العضوية الكاملة تتطلب اتخاذ تركيا خطوات نحو سيادة القانون وحقوق الإنسان.
وبالفعل حصل اللقاء يوم الأربعاء 13 أيلول/سبتمبر، لكن البرلمان الأوروبي، لم يغيّر مواقفه السابقة، وخرج بتقرير ينتقد فيه أنقرة، ويستمر من خلاله باعتماد مراوحة تركيا في مكانها كدولة مرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وعضو في حلف الناتو، وشريك رئيس في الأمن والعلاقات التجارية والاقتصادية والهجرة"، وطالبها من خلال تقريره "باحترام القيم الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان، والالتزام بقوانين الاتحاد الأوروبي ومبادئه والتزاماته". وخلص التقرير إلى أنه "لا يمكن إحياء مسار مفاوضات عضوية تركيا للاتحاد الأوروبي في الظروف الحالية...".
الأمر الذي أثار الغضب الرسمي التركي، حيث أصدرت الخارجية التركية بياناً، اعتبرت فيه أن التقرير "مليء بالاتهامات والأحكام المسبقة المجحفة، القائمة على معلومات مضللة صادرة عن الجهات المعادية لتركيا، وأن أعضاء البرلمان الأوروبي أصبحوا أسرى للسياسات الشعبوية اليومية"، ورأت أنّ وجهات نظر البرلمان حول بحر إيجة وشرق البحر المتوسط وقبرص أحادية الجانب ومنفصلة عن الحقائق التاريخية والقانونية"، وأشارت إلى أن "الهدف المشترك لتركيا مع الاتحاد الأوروبي هو تحديث الاتحاد الجمركي، وإتمام الحوار حول تحرير التأشيرات بسرعة في الفترة المقبلة.
كذلك لوّح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بـ "تخلّي" تركيا عن مسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي "إذا لزم الأمر"، داعياً السويد إلى ضرورة "الوفاء بالتزاماتها" قبل مصادقة البرلمان التركي على عملية انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو"، والمتوقّعة الشهر المقبل.
وتضمّن التقرير انتقادات شديدة لأنقرة في قضايا مثل الحقوق الأساسية وسيادة القانون، وبوجوب الالتزام بقرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ودعا إلى استقلال القضاء ووسائل الإعلام، فضلاً عن حقوق المجموعات العرقية والدينية المختلفة والنساء والمثليّين...
وأكّد التقرير ضرورة استمرار الاتحاد الأوروبي في دعم الاحتياجات الإنسانية وجهود إعادة الإعمار عقب زلزال 6 شباط/فبراير الماضي، ورحّب التقرير بإدانة تركيا للحرب في أوكرانيا والتزامها بسيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها، ودعا تركيا إلى الامتثال الكامل لسياسة الاتحاد الأوروبي تجاه روسيا والعقوبات عليها.
وطالب التقرير تركيا بالموافقة على عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي في أسرع وقت ممكن، ورحّب بجهود تركيا لتسهيل المفاوضات بين أوكرانيا وروسيا، وبدورها المهم في اتفاقية حبوب البحر الأسود، كذلك أثنى على خطوات تركيا لتطبيع علاقاتها مع بعض الدول مثل أرمينيا ومصر و"إسرائيل" ودول الخليج، وانتقد أدوارها في سوريا والعراق وليبيا، واعتبر أن الحل الوحيد في قبرص يقوم على أساس اتحاد فيدرالي بين الشطرين.
من الواضح أن الرفض الأوروبي يثير غضب واستياء الرئيس إردوغان، ودفعه يوماً لوصفهم بـ "بالفاشيّين". ما الذي يحاول فعله الرئيس التركي من خلال تهديده بالتخلي عن انضمام بلاده للاتحاد الأوروبي، وهل هو جاد في ذلك، وماذا يعني انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وماذا سيضيف إليها، ويفسّر في الوقت ذاته إصرارها على طرق الأبواب الأوروبية..؟
بدأت القصة منذ الحرب العالمية الثانية، عندما التزمت تركيا الحياد، قبل أن تقرّر الانخراط فيها قبيل انتهائها بعدة أشهر، مع إعلان الرئيس التركي آنذاك عصمت إينونو، انضمام تركيا إلى دول الحلفاء عام 1945، وأصبحت جزءاً من خطة مارشال الاقتصادية، وبموجب هذا الاتفاق حصلت تركيا على 185 مليون دولار، وأصبحت عضواً في الناتو.
وانضمت وقتها إلى ما كان يسمى "مجلس أوروبا" بعد أقل من عامٍ على تأسيسه، ثم إلى "الجمعية الأوروبية"، في حين تبدو قصة انضمامها إلى "الاتحاد الأوروبي" مختلفة تماماً، ففي عام 1987 قدّمت تركيا ملف ترشّحها إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية، وما بات يعرف حالياً بـ "الاتحاد الأوروبي"، وأصبحت تركيا دولةً مرشحة لنيل العضوية، وانطلقت مفاوضات الانضمام رسمياً عام 2005، وبدأت معها الرحلة الطويلة للمفاوضات المتعثرة دائماً.
كان واضحاً منذ البداية أن العملية معقّدة ولن تكون سهلة، بسبب الشروط التي وضعها الاتحاد الأوروبي، بهدف الإقرار بملائمة تركيا كدولة مرشحة لشروطه، أو ما يعرف بمعايير كوبنهاغن، التي اعتمدها المجلس الأوروبي عام 1993، والتي تفرض على الدول المرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، الالتزام بالمعايير السياسية، كضمان استقرار مؤسساتها، والحفاظ على الديمقراطية، وأن تتعهّد بضمان سيادة قانون الدولة، وتوفّر حقوق الإنسان، وحماية الأقليات.
هذا إضافة إلى الالتزام بالمعايير الاقتصادية، وضرورة تمتع الدولة المرشحة باقتصاد سوقٍ مستقل، وأن تكون قادرة على الصمود أمام ضغوطات منافساتها في السوق الأوروبية الداخلية، وأن تقوم أيضاً بعملية تكييف لإدارتها وقوانينها مع النصوص القانونية للاتحاد الأوروبي، والتي سيتم وفقها إقرار انضمام الدولة المرشحة، وهذا بحد ذاته أمر صعب ويحتاج إلى الوقت والعمل الشاق، وعليه يمكن للدولة المرشحة نيل العضوية بعد موافقة ثلاث جهات، وهي المفوضية والمجلس والبرلمان الأوروبيان.
وعلى مدى عشرة أعوام، استمرّ الخلاف بين مفاوضي تركيا والاتحاد الأوروبي، وعاد الملف إلى الواجهة عام 2016، عندما أكد رئيس وزراء بريطانيا آنذاك ديفيد كاميرون، بأن تركيا "لن تنضم إلى الاتحاد قبل عام 3000" ، وبتصريح الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، بأنه:" أسوأ ما يمكن أن يحصل للاتحاد الأوروبي هو خروج بريطانيا وانضمام تركيا"، وتبعتهما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عام 2017، بتأكيدها "ضرورة ألّا تصبح تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي أبداً".
من الواضح أن تركيا تعاني وتتحمّل الكثير مقابل عضويتها، وهي التي كانت تحلم وتحمل من الهوى والهوس والإعجاب بالنموذج الأوروبي، بعد احتضار الإمبراطورية العثمانية، وبداية رحلتها لاستنساخ النموذج الأوروبي، وتغيير الدفة والاتجاه غرباً، والبحث عن الفرصة للالتحاق بالاتحاد الأوروبي.
ويعتقد الكثيرون أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة، ضاعفت حماستها لنيل العضوية، والاستفادة من الامتيازات التجارية والاقتصادية، والدعم الاقتصادي الذي يقدّمه الاتحاد لأعضائه، وفتح شروط التجارة بين تركيا والاتحاد، وإشراكها في جميع اتفاقاته التجارية، وخصوصاً تلك المبرمة مع الولايات المتحدة الأميركية، وعليه يبدو أن تركيا تنظر إلى انضمامها على أنه عملية إنقاذها من أزماتها الاقتصادية.
كذلك، يمكن لعملية الانضمام، جعل الاتحاد الأوروبي يفتح حدوده أمام الأتراك، سواء للعمل أو السياحة والدراسة، والحصول على منح دراسية مجانية، وبمجملها تبدو أموراً تتطلع إليها تركيا بشكل كبير، من أجل إحداث نهضةٍ داخلية في المجالات كافة.
ناهيك عما سيقدّمه الانضمام لجهة إزالة أو تخفيف التوترات التاريخية ما بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، خصوصاً وأن الأوروبيين لا يزالون حانقين، نتيجة الغزو العثماني لأوروبا، وفرضه الإسلام والنموذج العثماني على عدد من الدول الأوروبية، لذلك تبحث تركيا من خلال الانضمام عن محو الصورة النمطية السلبية للأوروبيين عن العثمانيين، إضافة إلى ما يشكّله الاتحاد الأوروبي من قوةٍ عالمية، تتمنّى تركيا أن تكون جزءاً منها.
لكن العقبات التي تقف في طريق تركيا كثيرة للغاية، إذ تشكّل تركيا جغرافياً ما تقارب نسبته 96.5% من الأراضي الواقعة خارج أوروبا بشكل فعلي، وتتبع القارة الآسيوية، وحدها إسطنبول وتحديداً منطقة تراقيا تتبع أراضي القارة الأوروبية، في حين يبقى تاريخها يشكّل عبئاً على علاقتها بالاتحاد الأوروبي، وكذلك ديانتها الرسمية، حيث يشكّل مسلمو تركيا نحو 99% من عدد سكانها البالغ 85 مليون نسمة، الأمر الذي يجعلها أكبر دولةٍ في أوروبا من حيث عدد السكان، وبالتالي يمكّنها ذلك من الحصول على أكبر تمثيل في المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي، اللذين يعتمدان الثقل الديموغرافي، وبالتالي ستكون تركيا أكبر قوة تصويتية في المؤسسات، بمعنى أنها ستتحكّم بالاتحاد الأوروبي والقارة العجوز.
وتتوجس دول الاتحاد الأوروبي من انضمام تركيا صاحبة الـ 85 مليون مسلم إلى 30 مليون آخرين موجودين أصلاً في الدول الأوروبية، بما يدعم أن يصبح الإسلام الديانة الأولى في أوروبا، وسط اعتقاد الأوروبيين بالإسلاموفوبيا، والرهاب الإسلامي، وأقله الخوف من الإسلام السياسي الذي يولّد ويدير أعمالاً عدائية تستهدف المسلمين بالدرجة الأولى.
وتجدر الإشارة إلى كون تركيا دولةً مرشحة رسمياً لعضوية الاتحاد الأوروبي منذ عام 1999، وبأنها بدأت مفاوضات العضوية عام 2005، عبر خوضها مفاوضات في 38 ملفاً، ويتوجّب عليها تجاوزها كي تصبح عضواً في الاتحاد، الذي قدّم لها حتى اليوم فرصة مناقشة 8 ملفات فقط، وأعاد إغلاقها عام 2016، بسبب عدم التزام تركيا بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتجمّدت المفاوضات، وبقيت تركية دولةً مرشحة حتى الآن.
يدرك الأتراك والرئيس إردوغان أن الاتحاد الأوروبي لن يقبل اليوم أو في المستقبل، انضمام تركيا ومنحها العضوية، لذلك قدّم لها صيغاً بديلة عن العضوية، تحت عنوان "الشراكة المميزة"، طرحتها عدة دول أوروبية كالنمسا وألمانيا وفرنسا، والتي تمنح تركيا امتيازات في علاقاتها مع الاتحاد، لا تحصل عليها دول أخرى غير أوروبية.
مؤخراً، أصدر الاتحاد الأوروبي تقريراً يتحدث عن "الطريق البديل" في اتحادٍ جمركي لتركيا مع الاتحاد الذي أقرّ عام 1996، وذهب التقرير نحو التفكير بتوسيع الاتحاد الجمركي، بما يحافظ على مساحة التبادل التجاري الحر بين تركيا والاتحاد، ويتيح إمكانية إلغاء التأشيرة /الشينغن، وبالسماح للأتراك بالدخول إلى دول الاتحاد من دونها، بعد مفاوضات تُثبّت فيها تركيا ملفها في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، على أنه بات أفضل من أي وقتٍ مضى، وبتعديل قانون الإرهاب، والاعتقال العشوائي للمواطنين، ما يضع نقاط المعادلة على حروفها، وبأن الاتحاد الأوروبي يرفض انضمام تركيا، ولكنه قد يقبل بصيغ بديلة، لكن وفق ما يدعم استحالة منح تركيا العضوية الكاملة.