الهدنة العالقة وفرص التمديد بعد خطاب المشاط.. ماذا أعدَّت صنعاء لِما بعدها؟
من الواضح جداً أن تمديد الهدنة مرهون بمعالجة تنفيذ ما لم يُنفذ، وإدخال إضافات تخفف معاناة الشعب اليمني بشكل ملموس.
ما زالت طائرات تحالف العدوان الأميركي تحلِّق في سماء اليمن من دون توقف، وترصد وتتجسس وتقصف أحياناً، وما زال بند فتح مطار صنعاء معلقاً من دون تنفيذ، ما عدا رحلتين، وإلى وجهة واحدة فقط.
ما زالت سفن الوقود تُحتجز وتقرصنها سفن الحصار من المياه الدولية وتختطفها. ومع ذلك، يسعى تحالف العدوان إلى تمديد هذه النسخة من الهدنة الهشّة، وافتعال الضجيج على الطرقات، في محاولة لتبرير هذا النكوص القائم عن الهدنة في الحقيقة. ومع ذلك، ما زال الوفد المعني بالنقاش في عمان منذ أيام.
بنود الهدنة واضحة، وهي خطوات عملية محددة وواضحة باليوم والعدد والمكان وبكلِّ التفاصيل. تتضمن الهدنة في بنودها تهدئة عسكرية في كلِّ الجبهات في الداخل وعلى الحدود، ووقف الصواريخ والضربات والطائرات. في المقابل، في التهدئة العسكرية، لم تتوقف خروقات العدوان منذ اليوم الأول، واستمر في القصف والزحف والغارات. أمّا الطائرات، فلم تتوقف عن التحليق في كل سماء اليمن.
تحدد الهدنة ضمن بند فتح مطار صنعاء رحلتين كلّ أسبوع إلى مطاري عمّان والقاهرة. وما عدا رحلتين إلى عمّان، لم ينفذ العدوان حرفاً واحداً من هذا البند. ولم يكد يمضي يومان على بدء سريان الهدنة، حتى أطلق تحالف العدوان عبر أبواقه ومنصاته الإعلامية حملات وشوشرة إعلامية حول السفر بالجوازات الصادرة عن المركز الرئيسي للجوازات في العاصمة صنعاء وفروعه في المحافظات الحرة، محاولاً التهرب من تنفيذ بند فتح المطار. وقد ظلّ شهراً و15 يوماً يماطل في تنفيذ هذا البند، وبهذه الذريعة المختلقة، وظل يثير الضجة حول الجوازات بموازاة التنصّل من السماح بتسيير الرحلات.
تحدّد الهدنة الإنسانية والعسكرية فتح ميناء الحديدة أمام 18 سفينة وقود، ما يعني التزاماً واضحاً من تحالف العدوان بعدم قرصنة السفن أو احتجازها، لكنه منذ اليوم الأول قام بقرصنة كل سفينة تتجه من جيبوتي إلى ميناء الحديدة بمجرد إبحارها بعد استكمال تفتيشها والتحقق من حمولتها، وتعمّد قرصنة كل السفن التي وصل عددها إلى 11 سفينة خلال فترة الهدنة، وقام باقتيادها إلى الحجز التعسفي، ثم قام بإطلاق متفاوت لسفن وقود مضى على احتجازها فترات طويلة، بحيث لا تصل أي سفينة وقود إلى التفريغ إلا وقد تضاعف سعر حمولتها، بما يكبّد كل سفينة تكاليف وغرامات إضافية تُبقي أسعار الوقود مرتفعة، وتحدّ من تحقيق انخفاض في أسعار السلع والمواد التي يعدّ ارتفاع تكاليف النقل سبباً رئيسياً في غلاء سعرها، ويحدّ أيضاً من تحسين مستويات الدخل وموارد الدولة.
في الوقت نفسه، سمح العدوان بإطلاق السفن المحمّلة بكميات ضئيلة، رافضاً إطلاق أيّ سفن تحمل شحنات أكبر، واحتسبها في النهاية ضمن السفن الـ18 المتفق عليها. وقد عمل على بقاء كل السفن التي تحمل شحنات الديزل محتجزة، وسمح لشحنات البنزين فقط بالمرور، بهدف مفاقمة الأزمة المعيشية في مستوياتها المرتفعة، فمن المعروف أن الديزل هو المشغل الأساسي للمنشآت الحيوية المهمة ووسائل نقل السلع وغيرها.
بنود الهدنة واضحة، وهي بالنص على النحو الآتي:
- وقف جميع العمليات العسكرية الهجومية البرية والجوية والبحرية داخل اليمن وخارجه، وتجميد المواقع العسكرية الحالية على الأرض.
- دخول 18 سفينة من سفن المشتقات النفطية خلال شهري الهدنة إلى موانئ الحديدة.
- تشغيل رحلتين جويتين تجاريتين أسبوعياً إلى صنعاء ومنها خلال شهري الهدنة إلى المملكة الأردنية الهاشمية وجمهورية مصر العربية.
- فور دخول الهدنة حيز التنفيذ، سوف يدعو المبعوث الخاص الأطراف إلى اجتماع للاتفاق على فتح طرق في تعز وغيرها من المحافظات، لتيسير حركة المدنيين من رجال ونساء وأطفال وتنقلاتهم بالاستفادة من الجو الذي تهيئه الهدنة.
لم ينفذ العدوان حرفاً واحداً من بنود الهدنة كما يتوجّب عليه، واختلق ألف كذبة وعنوان، ليبرر تنصّله ومماطلته في التنفيذ. ومنذ بداية الشهر الأول، أثير موضوع فتح الطرقات حتى قبيل دعوة المبعوث الأممي الأطراف إلى مناقشة فتحها في تعز وفي غيرها من المحافظات. كان العدوان يثيرها في سياق محاولته تغطية تنصله من تنفيذ الهدنة.
وبموازاة التنصل الواضح والمكشوف من تنفيذ بنود والتزامات الهدنة والاستمرار في رفض تنفيذ بنودها، أطلق تحالف العدوان حملة هائلة ومثيرة حول طرقات تعز، والهدف ليس فتح الطرقات في تعز أو غيرها، بل استثارة عناوين يضعها مقابل تنصّله من تنفيذ بنود الهدنة، ويتخذها ذريعة لعدم التزامه بتنفيذها والاستغراق في أساليب الخداع والتضليل التي يمارسها منذ اليوم الأول للعدوان على اليمن، ومحاولة استجرار نقاط من خارج بنود الهدنة.
وصل الطرف الوطني في لجنة فتح الطرقات إلى عمان قبل يومين، لكن ممثلي الطرف الآخر لم يصلوا حتى الأمس، ما يضعنا أمام الحقيقة الواضحة التي تؤكد أن العدوان لا يرغب في فتح الطرقات، بل إلى استثمار العنوان نفسه في سياق تبرير نكوصه وتنصله من تنفيذ بنود الهدنة، وسياق ذلك واضح، من خلال النشاط الإعلامي لأبواقه ومرتزقته وعملائه، على اختلاف مسمياتهم وانتماءاتهم وميليشياتهم.
وأكثر ما يدل على ذلك أننا، ومنذ اليوم الأول لسريان الهدنة وإلى اليوم، نسمع الأبواق تتوعد بالويل والثبور والحرب والتهديدات الكلامية التي يطلقها قادة المرتزقة من دون توقف. أما العدوان، فالمعلومات تؤكد أنه يحشد ويحضّر ويحاول ترميم أدواته، ويسعى لتمديد الهدنة بشكلها ونسختها القائمة للمزيد من ترميم أدواته وترتيب أوراقه، وليهيئ لتصعيد عدواني قادم.
حين أوعز تحالف العدوان إلى المبعوث الأممي هانس في إطلاق الدعوة لتمديد الهدنة، لم يكن قد سمح لرحلة جوية واحدة من مطار صنعاء، فاستدرك الأمر، وأراد من تشغيل رحلتين وثلاث رحلات، وإلى وجهة واحدة فقط -في الأسبوعين الأخيرين من زمن الهدنة- دغدغة صنعاء للقبول بتمديد الهدنة، ثم بمجرد القبول بالتمديد، سينكث كل شيء، ولن يلتزم بشيء، إلّا بما يضمن من خلاله صمود الهدنة وعدم انهيارها.
رداً على ذلك، أطلق المجلس السياسي الأعلى -من اجتماع استثنائي ترأسه الرئيس المشير الركن المشاط- أنَّ المجلس يقيّم الهدنة، وسيدرس الطلب المتعلق بتمديدها، ويحيله على الدراسة، مع تعبيره عن خيبة أمله من تعاطي العدوان مع الهدنة وعدم تنفيذه بنودها واستمراره في الخروقات العسكرية.
نتيجة الدراسة وتقييم الهدنة اللذان أجراهما المجلس السياسي الأعلى، أوضحهما الرئيس المشاط في خطابه بمناسبة عيد الوحدة اليمنية الثاني والثلاثين، والذي تحدث بالتفصيل عن آلاف الخروقات، منها 50 زحفاً عسكرياً وغارات جوية وتحليق وقصف ومدافع وتحشيد ومتارس، اعتبر أنها لا تشجّع على تهدئة قادمة، ثم أشار إلى أنَّ صمود الهدنة لم يكن إلّا بموقف صنعاء.
منذ الأسبوع الأول للهدنة وامتناع العدوان عن تسيير رحلات جوية من مطار صنعاء واستمراره في احتجاز السفن، وفي الخروقات والزحف والقصف والغارات والتحليق، كانت النتيجة المتوقعة للهدنة هو الانهيار، لولا أن القيادة اليمنية في صنعاء حافظت على مستوى عالٍ من الهدوء وضبط النفس، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس المشاط في كلمته بمناسبة عيد الوحدة الثاني والثلاثين، حين قال: "يعود صمود الهدنة إلى القدر العالي من ضبط النفس الَّذي مارسته صنعاء"، متحدثاً عن خروقات العدوان العسكرية، وتنصله الواضح من بنود الهدنة في ما يتعلق بالمطار والوقود.
وفي النتيجة، لتقييم الموقف، دعا الرئيس إلى تنفيذ شامل لبنود الهدنة، ووضع لاستمرارها قاعدة حاكمة اختصرها بقوله: "من غير الممكن القبول بهدنة تستمر معها معاناة شعبنا". وفي ضوئها، دعا إلى تنفيذ كل بنودها، وإلى ضرورة أن يتضمن أيّ تمديد للهدنة تحسناً في المزايا الاقتصادية والمعيشية للشعب اليمني.
ومن الواضح جداً أن تمديد الهدنة مرهون بمعالجة تنفيذ ما لم يُنفذ، وإدخال إضافات تخفف معاناة الشعب اليمني بشكل ملموس. على تحالف العدوان أولاً أن يلتزم بالتوقف كلياً عن كل الأعمال العسكرية، وأن يترجم ذلك بالتوقف عن الخروقات الميدانية نهائياً، وعن التحليق والزحف والتحشيد والتمترس في كل الجبهات، وثانياً أن ينفذ الالتزامات المتعلقة ببند فتح مطار صنعاء، والتي حددت رحلتين أسبوعياً إلى مطاري عمّان والقاهرة، بتشغيل العدد الكامل للرحلات المستحقة في ما تبقى من زمن الهدنة، وأن يسمح بوصول 18 سفينة وقود، كما هو محدد في بنود الهدنة، ومن دون أي حجز أو توقيف.
ولا بد من أن يتضمن تمديد الهدنة مزايا تحسّن الحال المعيشية للشعب اليمني والحالة الاقتصادية للبلاد، وعلى قاعدة عدم إمكانية القبول بهدنة تستمر معها معاناة شعبنا. مقابل ذلك، لا يبدو أن السعودية ولا الرباعية مستعدة لهدنة، لا بنسختها الحالية، ولا بغيرها، ولا لسلام، لا بهذه الصورة ولا بتلك. هي فقط ترتب أوراقها، وتريد تعزيز أدواتها ومرتزقتها، وتحاول الاستفادة من الوقت لتحقيق جملة أهداف تمكنها من إطلاق جولة تصعيد عسكرية قادمة تتوهم أنها ستنجز فيها ما فشلت وتعثرت فيه خلال 7 أعوام.
ومن الأهداف التي تسعى لتحقيقها هو تعزيز ما تسميه مكتسباتها الميدانية بتعزيز السيطرة والنفوذ على المحافظات الجنوبية والشرقية وسقطرى، وتثبيت أوضاع ميليشياتها ومرتزقتها وفق الخرائط الميدانية القائمة، وبما يتيح لكل طرف في دول الرباعية اغتنام أكله في ما تحت يديه وتثبيت مواقعه وأوضاعه، ووفق ما هو قائم حالياً، ومحاولة انتزاع استقرار أمني يتيح ذلك من خلال مفاوضات النار والضغوط والتهديدات مع أنصار الله في الشمال، وإشغالهم بإشعال جبهات متعددة في وقت واحد، مع تشديد الحصار عليهم في معيشتهم، وتثوير المجتمع بالاستثمار في معاناته.
ويبدو أن من سابع المستحيلات تمديد الهدنة بشكلها ونسختها القائمة، من دون استدراك تنفيذ ما استحقّ في ما مضى من زمن الهدنة، والتوقف عن الخروقات نهائياً، ومن دون تحقيق المزيد من المزايا الاقتصادية والمعيشية للشعب اليمني، ومنها مضاعفة الرحلات الجوية ورفع اليد والقرصنة على سفن الوقود والتوقف عن حجزها، مع الاكتفاء بآلية التحقق والتفتيش الأممية فقط، ووضع آلية تضمن صرف المرتبات والتوافق على عمل البنك المركزي، بما يعيد دوره المحوري في العملية الاقتصادية، وهذا كله سيعبّد الطريق إلى مفاوضات عملية تحقّق الحلّ السياسي والسّلام المنشود.
تبدو صنعاء اليوم متفوقة على الرياض وحلفها، ففي السياسة وقرار الحرب على سبيل المثال، إن تمديد الهدنة من عدمه مرهون بقرار الرئيس المشاط، ومآلها حرباً أو سلماً رهن موقفه. هذا الأمر تدركه السعودية، لكنها لم تعد تخشاه، فهي لم تعد تبحث عن هيبة فقدتها بفشل وانتكاسات 7 أعوام أطاحت الحدود والسمعة والمال والقوة والنفط، بل تبحث عن نهاية للحرب تخشاها وتخشى تداعياتها التي ستنفجر في مواجهة مملكة ظلَّ ملوكها يعتقدون أنهم المطاعون الذين لا يحقّ لأحد أن يقول لهم: لا.
أمّا ما لا تدركه الرياض، وعليها أن تخشاه وتحسب حسابه ألف مرة، فهو أن صنعاء التي استطاعت ردم الفجوة في القوة، وأوجدت معادلة شبه متكافئة في الحرب بعون الله، حققت استفادة غير متوقعة من الهدنة، فراكمت رصيدها من الصناعات العسكرية بأضعاف مضاعفة، وأنجزت مخزوناً هائلاً وضخماً من الصواريخ الاستراتيجية والطائرات المسيّرة والدفاعات الجوية والأسلحة البحرية وحتى البرية، وأدخلت إلى القوة مدخلات استراتيجية جديدة ونوعية ومتفوقة بعون الله، وهو أمر حسبت صنعاء حسابه، واستعدت له جيداً، وافترضت أن الهدنة التي يريد بها العدوان كسب الوقت والتقاط الأنفاس هي الفرصة الذهبية لإعداد وتجهيز ما تستلزمه الجولة الأخيرة للحرب، والتي يسميها القادة الاستراتيجيون مرحلة تثبيت المعادلات وتحقيق النقلات الاستراتيجية.
أمّا في التشكيلات وفي هياكل القوة، فقد استطاعت صنعاء بحمد الله ترتيب أوضاع القوة القتالية وتعزيزها بدماء جديدة وترميمها وإعادة تجهيزها وتوزيعها، بما يحقق النصر وحسم المعركة التي يؤكد السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي أن سقفها هو وقف العدوان ورفع الحصار وتحرير كل اليمن من الاحتلال والمرتزقة وفرض السيادة الوطنية على كل ترابه بعون الله وبقوته.
لعل المهم للأمير السعودي تحديداً في هذا المقام هو التفكير الجدّي في وقف الحرب وإنهاء الحصار على اليمن، ومن دون تردد، إذ لا يعد الرهان على كسب شيء من وراء الاستمرار في الحرب والحصار إلّا ضرباً من الأوهام ومخاطرة لن تكون نتيجتها لمصلحته حتماً، وستكون آثارها كبيرة جداً فيه.
كما أن استمراره في الحرب والحصار بعد اليوم لن يكون من مصلحته بالتأكيد، فقد امتلكت صنعاء أسلحة نوعية ومدمرة. وإذا كانت قبل الهدنة بمخزون معين، فهي اليوم قد تضاعفت، وباتت تملك مخزوناً استراتيجياً يمكّنها من القتال لسنوات.