العلاقات الدولية وإشكاليات الذكاء الاصطناعي والثورة البيوتقنية
في الممارسة العملية، بدأت الخوارزميات فعلياً تأخذ مكانة البشر بل وتتلاعب بها، وهذا يثير العديد من الإشكاليات الاستراتيجية حول نجاعتها السياسية.
من البديهي القول إن الذكاء الاصطناعي والثورة البيوتقنية ستكون لهما تأثيرات سياسية وأخلاقية جذرية خطيرة للغاية في القطاعات الاقتصادية والأمنية والقانونية والثقافية والبيئية كافة.
لكن اللافت للانتباه حالياً، هو أن الاهتمام الأكاديمي بتلك القضايا (على صعيد تبني المقاربات الفلسفية والنظرية) ما زال خجولاً، ناهيك بالتجاهل والغياب التام للإرادة السياسية (المحلية أو العالمية) القادرة على التعامل مع تلك التطورات المصيرية.
في الممارسة العملية، بدأت الخوارزميات فعلياً تأخذ مكانة البشر بل وتتلاعب بها، وهذا يثير العديد من الإشكاليات الاستراتيجية حول نجاعتها السياسية، بالإضافة إلى كثير من علامات الاستفهام الأخلاقية المرتبطة بمستقبل الإنسانية بحد ذاتها وطبيعتها.
وهذه الإشكاليات وعلامات الاستفهام يمكن التعبير عنها من خلال طرح التساؤلات التالية:
1- ما هي الاستراتيجيات الأخلاقية والسياسية التي من المفترض أن تلتزم بها خوارزميات الذكاء الاصطناعي والثورة البيوتقنية؟ ما هو مدى القلق حيال إمكانية استخدام أسلحة الرياضيات لتحقيق أهداف سياسية قذرة؟
2- إلى أي مدى يمكن وضع قوانين استباقية قادرة على الحد من تلك التداعيات ومواجهتها؟ ولماذا هذا التباطؤ العالمي في وضع معايير ضبط صارمة لهذه التطورات؟ وهل ذلك الواقع المستقبلي يتطلب إنشاء دستور أخلاقي عالمي على غرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟
3- هل هنالك رؤية أخلاقية وسياسية وفلسفية على صعيد العلاقات الدولية قادرة على مقاربة تلك التحديات الاستراتيجية؟
يجب علينا الاعتراف بحقيقة أنه نادراً ما تتم دراسة تحديات الذكاء الاصطناعي والثورة البيوتقنية بمؤشراتها السياسية والثقافية والأمنية بشكل استراتيجي، وللأسف الجهود المبذولة في هذا السياق مؤسفة، إذ إن هنالك الكثير من المقاربات السطحية في كيفية التعامل مع التكنولوجيا وعلاقتها الجوهرية بالفكر السياسي.
لا يمكننا استيعاب هذا النهج الذي يتصدى لهذه التحديات وكأنها قضية تقنية ليست مرتبطة بالمعايير الأخلاقية والسياسية. وبالتالي، فإن الرؤية النمطية والتكنوقراطية للقضايا التقنية غير كافية لمعالجة تلك التحديات.
وعليه، هنالك حاجة ماسة لإعادة النظر بهذا الواقع وفقاً لنهج نقدي قائم على رؤية أخلاقية وثقافية وسياسية وأمنية، يمكن تأطيرها بناء على الإشكاليات التالية:
1- إشكاليات الأمن السيبراني وحروب الفضاء.
2- إشكاليات التحيز الخوارزمي والأمن المجتمعي.
3- إشكاليات معايير مفهوم العدالة الخوارزمية والمعضلات الثقافية.
4- إشكاليات الحوسبة العاطفية وأتمتة الطبيعة البشرية.
5- إشكاليات الحلول التقنية (النمذجة) للتغير المناخي.
6- إشكاليات الحروب الجيولوجية وهندسة المناخ المستقبلية (أسلحة المناخ).
7- الإشكاليات الأخلاقية والسياسية للتكنولوجيا الحيوية (الثورة البيوتقنية).
8- إشكاليات إمكانية الحوكمة والمساءلة والضبط المرتبطة بالتكنولوجيا.
9- إشكاليات هالة الموضوعية التي باتت تضفيها ثقافة اليوم على الخوارزميات والعلم.
على سبيل المثال، إذا كان الاعتقاد السائد بأن الثقة بالنماذج الرياضية Mathematically Models ستزيل التحيز البشري فإنه، من الناحية العملية، ستحل الخوارزميات محل البشر وتمارس تحيزاتها الخاصة علماً بأنها غير شفافة في ما يتعلق بكيفية عملها، وهو ما بات يسمى بالتحيز الخوارزمي Algorithmic Bias إلى درجة زيادة التركيز بشكل لافت للانتباه على مبدأ تطبيق مفهوم العدالة الخوارزمية Algorithmic Justice ونشره كقضية أساسية في وقتنا الحالي، إلى حد وصل الأمر بالمطالبة بتدمير ما يسمى أسلحة الرياضيات.
وبالتالي، يبدو أن التقنيات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والحوسبة العاطفية والبيولوجيا الحيوية، ستغير بشكل جوهري الطريقة التي يتم التفكير بها في السياسة. إذ ستواجه العلاقات الدولية أهم الجدليات المتعلقة بكيفية تغيير التقنيات واقع السياسة بل والطبيعة الإنسانية.
فالجدل السياسي المعاصر في ما يتعلق بإشكاليات الحكم والسيطرة يدور حول العلاقة بين الدولة والسوق، ولكن في المستقبل ستكون مجمل الجدليات منصبّة حول إشكاليات العلاقة بين السياسة والعلم، والتي يمكن التعبير عنها من خلال التساؤل التالي:
إلى أي مدى يجب توجيه المجتمعات والتحكم فيها بواسطة الذكاء الاصطناعي والثورة البيوتقنية؟ وبأي شروط؟
في هذا السياق، إذا كان جواب كل سؤال علمي حتماً سيؤدي إلى أسئلة جديدة، إذ يبقى في العادة شيء يحتاج إلى تفسير خارج القواعد المألوفة. فعلى الرغم من التعقيدات التي سوف تواجه إشكاليات العلاقة بين العلم والسياسة، ستبقى جدلية تأثير العلم على الطبيعة البشرية أكثر القضايا أشكلة. وبناءً على ذلك، يحق التساؤل:
ماذا لو أن التطور الإنساني البيولوجي الطبيعي لم يعد ضرورياً بالمطلق؟
لاَ مَحَالَةَ هنالك الكثير من المخاوف والشكوك المحيطة بالتطورات على مستوى الذكاء الاصطناعي والتقانات البيولوجية. فمثلاً، سينجم عن تطور الروبوتات والتقانات النانوية المستقبلية منظومات أدق وأعقد من تلك الموجودة في الطبيعة، والتي ستغير الطبيعة البشرية، والتي لم يعد فيها شيء بيولوجي، ومنها على سبيل المثال:
1- روبوتات النانو للتشخيصات الطبية.
2- روبوتات القياسات الحيوية للعواطف والسلوكيات.
3- روبوتات تعقب حركات الأفراد وسلوكهم.
4- روبوتات الاستشعار الحيوي والحوسبة المتطفلة.
5- روبوتات الجسيمات التي تحتوي على مركّبات كيميائية وبيولوجية مميتة.
6- روبوتات تعديل جينات الحمض النووي في الإنسان والكائنات الحية الأخرى.. الخ.
وبناءً على ذلك، من القضايا المستقبلية التي سوف تبرز على صعيد العلوم الإنسانية هي إشكالية طبيعة علاقة الإنسان مع الذكاء الاصطناعي وإمكانية تفوقه عليه. فمثلاً، كثير من الجدليات بين علماء العلوم الإنسانية وعلماء البيولوجيا والأعصاب ستتمحور حول ما إذا كان هناك أسلوب مشابه لتحقيق التطور الثقافي بنوع من الوراثة كما هو حال التطور البيولوجي. وحتماً، هذا الواقع سيؤدي إلى طرح عدة تساؤلات حول الحتمية التكنولوجية، ومنها:
1- هل يجب السماح للتكنولوجيات بالتطور بغض النظر عن العواقب المحتملة على المجتمعات والطبيعة الإنسانية؟
2- ما هي القيم الثقافية والأخلاقية المفترض على الذكاء الاصطناعي والثورة البيوتقنية الالتزام بها؟ من سيقرر ذلك؟
فعلى الصعيد الثقافي، من الواضح أن التطور التكنولوجي قد أتاح للبشر التخلص من الضغوط الطبيعية، وذلك نتيجة نقله السلوكيات (أو الاستغناء عنها) من خلال الذكاء الاصطناعي والثورة البيوتقنية وعلم الأعصاب، إذ زاد من فرص الإفلات تماماً من الانتقاء الطبيعي أو البيولوجي، وفي ذلك إثبات لحالة تكشف عن النسق الجديد للتطور البشري، الذي لم يعد بيولوجياً. وانطلاقاً من ذلك يمكن التساؤل:
1- هل هنالك أنساق انتقاء جديدة بما أن الروبوتات والسلوكيات الحيوية باتت تتحكم بمصير البشرية أكثر من الجينات؟
2- كيف يمكن مقاربة هذه الأنساق نظرياً وعملياً على المستويين الأخلاقي والسياسي؟
انطلاقاً من هذه التساؤلات، يجب إيجاد رؤية سياسية قادرة على المواجهة، فالمستقبل سيكون تحت سيطرة بعض التكنولوجيات وأولئك الذين يتحكمون بها، وسوف تحل خوارزمياتهم المسائل المصيرية المتعلقة بالاقتصاد والسياسة والأمن والطب والثقافة.
وبالتالي، مع تشابك الاعتبارات العلمية مع المصالح التجارية أصبح من اللزوم على المستويين السياسي والأخلاقي تدخل الدول. إذ لا يمكن للمؤسسات العلمية والتكنوقراطية البت بها وحدها، بل يجب أن تمتلك المؤسسات السياسية سلطة تقييم وتقنين مشروعية وحدود الاكتشافات البيوتقنية واختراعات الذكاء الاصطناعي.
وفي هذا السياق، يجب إعادة النظر في الاعتقاد المتشائم حول عدم القدرة على ضبط التطور العلمي، وأنه ليس بإمكان أي دولة فعل ذلك، لأنه يمكن تطوير الاختراعات والاكتشافات بعيداً عن مراقبة الدول أو في دول لا يوجد فيها موانع تشريعية وثقافية.
هنالك عدد من التكنولوجيات الخطيرة التي تم وضعها تحت الرقابة السياسية العالمية، وقد تكون تجربة محاولة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، أو وضع الضوابط الصارمة على القيام بتجارب الاستنساخ البشري، أفضل دليل على ذلك.
وعلى الرغم من هذا التفاؤل، يجب الأخذ بعين الاعتبار، أن التكهنات الفكرية والفلسفية والسياسية حول كل ما يتعلق بإشكاليات الثورة البيوتقنية وتطور الذكاء الاصطناعي، قد تكون كافية للتشكيك في نسق تطور العلم.
وهذا يتطلب تبني رؤية حديثة تهتم بوضع قوانين ومعاهدات واضحة لا لبس فيها بما يتعلق بمواجهة تلك الإشكاليات، خاصة على مستوى القانون الجنائي الدولي. فعلى سبيل المثال، يجب تعديل النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بما يتلاءم مع مواجهة تلك المخاطر والتحديات كنوع من الأمن العالمي الاستباقي، بحيث يتم توسيع نطاق اختصاص المحكمة لتشمل الجرائم المستقبلية التي تهدد مصير البشرية والمتعلقة بالقضايا التالية:
1- الثورة البيوتقنية.
2- التغير المناخي.
3- الذكاء الاصطناعي والحوسبة العاطفية.
إذ يتضح من خلال تتبع سياق تطور العلاقات الدولية والقانون الجنائي الدولي على المستويين النظري والعملي، عدم مواكبتهما لتلك الأنساق العالمية الجديدة بشكل مناسب.
فالمرحلة التي كانت الدول فيها تحاول معالجة تلك الأنساق عبر إنشاء مدونات سلوك لم تعد ملائمة وكافية. كما أن الجوهر الأخلاقي والفلسفي لتلك الإشكاليات أعقد من الحلول التقليدية، خاصة على صعيد إمكانية التلاعب بجوهر الطبيعة البشرية.
مع وجود مفاهيم سياسية فضفاضة ومبهمة، تبرز الحاجة إلى اعتماد مبدأ تحمل المسؤولية الجزائية بشكل صريح ورادع، وذلك من خلال تبني نسق سياسي وقانوني عالمي يعمل على تسخير قوة التكنولوجيا لتحسين حياة البشرية بدلاً من تغير طبيعتها البيولوجية أو الاستغناء عنها. إذ هنالك حاجة ماسة لوجود رؤية قانونية تؤكد أهمية الحفاظ على الطبيعة البيولوجية للإنسان في ظل حالة عدم اليقين الاستفزازية المرتبطة بالتكنولوجيا والسياسة.
خلاصة القول، منطقياً، من الصعب للغاية، بل من المستحيل دحض نظرية لمجرد أنها غير مناسبة للاختبار، وإذا كان ذلك قد يكون صحيحاً على مستوى النظريات المرتبطة بالعلوم والقوانين الفيزيائية، ولكنه حتماً غير مقبول إلى حد كبير في مجال العلوم الإنسانية.
وبناء على ذلك، هنالك شكوك حقيقية وواقعية فيما لو لم يعد التطور البيولوجي الطبيعي للإنسان ضرورياً على الإطلاق، نتيجة تطورات الذكاء الاصطناعي والثورة البيوتقنية، إذ يبدو أنهُ لم ولن يبقَ شيء بيولوجي صرف.
وبالتالي، من الضروري وجود وعي عميق بكيفية تبني مقاربات ثقافية وسياسية، إذ إن الأحكام في مجال السلوك السياسي وما يرتبط بها من معايير ثقافية وفكرية غالباً ما تكون غامضة ونسبية، بدلاً من أن تكون معايير واضحة ودقيقة.
وبغض النظر عن إشكالية النزعة الراديكالية الثقافية المرتبطة بجدلية ثنائية العلم والسياسة، والتي ترى أن العلاقة بالعلم غير مهمة على مستوى كيفية مقاربة الطبيعة البشرية، يجب الاعتراف بحقيقة أن نسق إشكالية مسألة التضاد بين مستقبليات الذكاء الاصطناعي والثورة البيوتقنية مع الطبيعة البشرية سوف تفرض نفسها على الساحتين السياسية والأخلاقية لا محالة. وهذا النسق الفكري والفلسفي يستوجب على مستوى العلاقات الدولية طرح التساؤلات التالية:
1- هل هنالك حاجة سياسية ماسة إلى معرفة ما هي الشروط الطبيعية للوجود الإنساني؟
2- هل باتت الإنسانية بحاجة إلى البحث في طبيعة السياسة أم سياسة الطبيعة؟
3- هل بات يجب علينا معرفة ثقافة علماء الذكاء الاصطناعي والطب الحيوي وأفكارهم قبل دراسة القيادات السياسية، لفهم الواقع الاستراتيجي للسياسة العالمية ومستقبل الإنسانية؟